لغتنا العربية.. بين الماضي والحاضر والمستقبل
د. علي أحمد حسن اليماني
اللغة العربية إحدى اللغات السامية، وأكثرها انتشارًا على مستوى العالم؛ إذ يتحدَّث بها ما يقرب من خمسمائة مليون شخص.
ظهرت اللغة العربية في شبه جزيرة العرب منذ أكثر من ألف وسبعمائة عام، وتميَّزت بثراء مفرداتها، وتنوُّع تراكيبها النحوية، وجمالياتها البلاغية، وقد أكثر أسلافنا العرب قبل الإسلام من قول الخطب الفصيحة التي تمتلئ بالحكمة البالغة، ونظموا شعرًا بليغًا مفعمًا بسحر البيان؛ حتى كرَّم الله لغتهم بأن جعلها لغة كتابه الخاتم؛ فقال جلَّ وعلا: «إنَّا أنزلناه قرآنًا عربيًّا»؛ فصارت اللغة العربية منذ ذلك الحين ذات علاقة وثيقة بنصٍ إلهيٍّ مُقدَّس؛ وضمنت بقاءها وحفظها بضمان بقائه وحفظه؛ إذ قال الله تعالى: «إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون».
وأخذت اللغة العربية تنتشر بانتشار الإسلام في البلدان؛ إذ تجاوزت كونها مجرد لغة للتواصل بين الناس إلى كونها لغة يتعبَّد بها المسلمون على اختلاف أجناسهم، ثُمَّ ازدادت انتشارًا بكثرة ما ألَّفه العرب في عصور حضارتهم الإسلامية؛ فكانت اللغة العربية لغة العلوم والفنون والآداب.
وكان أهل العربية يُجِلُّونها ويعظِّمون شأنها، ويفضِّلونها على سائر اللغات؛ حتى قال الثعالبي في مقدمة كتابه (فقه اللغة وسر العربية): "فإن من أحبَّ الله تعالى أحبَّ رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، ومن أحبَّ الرسولَ العربيَّ أحبَّ العرب، ومن أحبَّ العرب أحبَّ العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب، ومن أحبَّ العربية عُنِيَ بها وثابر عليها وصرف همَّته إليها، ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان وآتاه حسن سريرة فيه- أعتقد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خير الرسل، والإسلام خير الملل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة".
ولم يكتفِ الثعالبي بذلك، وإنما ذهب إلى أن اللغة العربية سبب من أسباب صلاح المعاش، ووسيلة من وسائل إحراز الفضائل، وأساس من أسس الدين الإسلامي؛ لأنها "أداة العلم ومفتاح التفقه في الدين"، وهي –عنده– لغة أهل الجنَّة.
وسواء اتفقنا مع الثعالبي أو اختلفنا معه فيما ذهب إليه من تفضيل العربية على سائر اللغات؛ فإن الذي لا شكَّ فيه أن اللغة العربية كافية في التعبير عن أغراض أهلها. وإذا كانت الاتجاهات اللسانية الحديثة ترى أنه لا أفضلية للغة على غيرها من اللغات، وأن التساوي بين اللغات أمر مستقر؛ فمن العجب أن نشهد أهل العربية يهجرونها ويعدلون عنها إلى ما سواها من اللغات؛ اعتقادًا منهم أن التحدث باللغات الأجنبية دليلٌ على تحضُّرهم وعصريتهم.
وقد عبَّر شاعر النيل حافظ إبراهيم عن حال اللغة العربية، وكتب على لسانها منذ قرن من الزمان تقريبًا؛ وقد أنسَنَ اللغة وجعلها امرأةً تشكو هجران بنيها، وتنعى حظَّها بين أهلها؛ فتقول:
رَجَعْتُ لِنَفْسِي فَاتَّهَمْتُ حَصَاتِي
وَنَادَيْتُ قَوْمِي فَاحْتَسَبْتُ حَيَاتِي
رَمَوْنِي بِعُقْمٍ فِي الشَّبَابِ وَلَيْتَنِي
عَقِمْتُ فَلَمْ أَجْزَعْ لِقَوْلِ عُدَاتِي
ورغم ما وصف به حافظ إبراهيم حال اللغة العربية، وهجران أهلها لها؛ فيمكننا أن نلتمس العذر للناس آنذاك بأنهم كانوا تحت وطئة الاحتلال الإنجليزي الذي عمل على جلنزة التعليم، ونشر اللغة الإنجليزية، فأقبل كثير منهم على اللغات الأجنبية. أمَّا الآن .. فيجدر بنا أن نتساءل: لماذا يهجر أبناؤنا اللغة العربية، ويقبلون على استعمال اللغات الأخرى في محادثاتهم اليومية؟!
إن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب منَّا أن نرجع بالزمن إلى منتصف القرن العشرين كي نتلمس أسباب ما وصلنا إليه الآن.
في سنة تسع وأربعين وتسعمائة وألف من الميلاد أنتج أنور وجدي فيلمه (غزل البنات) ورأينا جميعًا كيف قُدِّمت شخصية معلم اللغة العربية التي جسَّدها (نجيب الريحاني) في إطار كوميدي ساخر؛ إذ بدا فقيرًا، رثَّ الثياب. وإذا كان (عبدالمنعم إبراهيم) قد قدَّم شخصية (الأستاذ يونس– مدرس أوَّل اللغة العربية) في فيلم (المرايا) الذي صدر سنة سبعين وتسعمائة وألف من الميلاد؛ فبدا لنا مُثقَّفًا ذا علم؛ إلَّا أن تقديم الشخصية بشكل كوميدي ساخر، واختلاف طريقة تعبيره باللغة العربية الفصحى عن سائر طاقم التمثيل في الفيلم؛ قد أشار إلى ندرة استعمال اللغة العربية الفصحى وغرابتها، وكأن الأصل أن يتكلم الناس باللهجات العامية، حتى سخرت منه (الآنسة كريمة) التي جسَّدت دورها (نجلاء فتحي) مبديةً عدم فهمها معاني ألفاظه: "نملك دارًا ودوَّارًا، ودوَّارة، ودردارة"؛ فأعرضت عن حديثه وانشغلت بمرآتها. ومع مرور الزمن وجدنا المذيعين والمذيعات في التليفزيون المصري يبعدون شيئًا فشيئًا عن استعمال اللغة العربية الفصحى؛ حتى أمسى معظم الإعلاميين يستعملون العامية في برامجهم. ولا يمكن لأحد أن ينكر أثر الأفلام السينمائية والمسلسلات التليفزيونية والبرامج الإذاعية – في توجيه الأفكار وتكوين المعتقدات حول الموضوعات كافة، وحول استعمال اللغة خاصة.
وممَّا يؤسف له أن واقع التعليم في مدارسنا اليوم لم يبعد كثيرًا عمَّا قدَّمته السينما والتليفزيون؛ فأصبحنا نرى إلى جانب المدارس الحكومية– مدارس تجريبية، ومدارس اللغات، ومدارس (ناشونال) وأخرى (إنتر ناشونال). وبدأت المدارس العالمية التي تتم الدراسة فيها باللغات الأجنبية تنتشر انتشارًا مخيفًا في بلداننا؛ إذ باتت تشكل خطرًا على هُويَّة أبنائنا وبناتنا. وأصبح التعليم عندنا تعليمًا طبقيًّا، وباتت النظرة إلى الطالب الأكثر قدرة على التحدث باللغات الأجنبية تشير إلى أنه أكثر وعيًّا وتحضُّرًا وانفتاحًا من أقرانه، وقد ساعد على ذلك تقليدية الطريقة التي يتم بها تعليم اللغة العربية في المدارس؛ حتى أصبحت مملة للطلاب، ولا تلبي احتياجاتهم، ولا تشجعهم على الإبداع؛ فضلًا عن جمود مناهج اللغة العربية التي تحتاج إلى تطوير دوري مستمر؛ كي تتوافق مع سرعة العصر التكنولوجي الذي نعيش فيه؛ فتكون معتمدة على وسائل أكثر تفاعلية؛ لتجذب انتباه المتعلمين، وتشوقهم إلى التعلم، وتربطهم بمحتوى اللغة العربية التعليمي.
ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي أصبح الأمر أكثر خطورة؛ فقد تم تهيئة الشباب –على مدى أكثر من نصف قرن– على هجر اللغة العربية التي لم تعد تلائم عصريتهم –كما تمَّ الترويج لهم– وكأن اللغة العربية قد أصبحت جزءًا من التراث، وأصبحت مجرد لغة متحفية –إن جاز التعبير– فراح الشباب يعرِّفون أنفسهم عبر صفحاتهم الشخصية باللغة الإنجليزية، ويستعملون الإنجليزية في كتاباتهم؛ إلى أن أنتجوا لنا لغة جديدة مشوهة، لا هي عربية كعربيتنا، ولا إنجليزية كالإنجليزية التي نعرفها، فابتدعوا الـ (الفرانكو)، وباتوا يكتبون الكلمات العربية بالحروف اللاتينية؛ حتى إننا لنجد منهم من يكتب في دعائه: "ya rab" ومن يحمد الله؛ فيقول: "El-hamdo Llah".
وقد أدَّت هذه الاستعمالات المشوهة إلى استخفاف الجيل الجديد -من الفتيان والفتيات- بلغته التي تُمثِّل هويته العربية والقومية؛ وباتت تشكِّل خطرًا داهمًا على اللغة العربية؛ فقد أصبح كثير من الشباب الجامعي عاجزين عن كتابة فقرة واحدة بلغة عربية سليمة، ولا أبالغ إن قلت إن معظمهم يعاني الكتابة وفق قواعد اللغة العربية، ومنهم من لا يستطيع قراءة صفحة من كتاب باللغة العربية الفصحى؛ لأنهم قد اعتادوا على قراءة المنشورات المختصرة المكتوبة بلغة مشوهة عبر منصات التواصل الاجتماعي. أمَّا طلاب الكليات العلمية؛ فغالبًا ما يدرسون مقرراتهم الجامعية باللغة الإنجليزية؛ بسبب أزمة المصطلحات العلمية التي وضعها الغرب، والتي تواجه اللغة العربية عجزًا شديدًا في محاولة إيجاد بدائل لغوية لها.
وإذا كان هذا هو واقع استعمال شبابنا وبناتنا للغتهم الأم؛ فيجدر بنا أن ننتبه للخطر الذي يداهمهم، وأن نعرِّفهم بأن لغتنا العربية ليست مجرد وسيلة من وسائل التواصل فحسب، لكنها روح الأمة، وهي الحاضنة الأساسية لهويتنا التاريخية والمعرفية والثقافية التي تميِّزنا عن غيرنا من الأمم الأخرى، وهي لغة العلم والثقافة والفن التي حملت لنا تراث أسلافنا العرب القدماء، وما أسهموا به في إثراء الحضارة الإنسانية عامَّة بما أنتجوه وأبدعوه في سائر العلوم والفنون عبر قرون طويلة من الزمان، وهي مع ذلك لغة القرآن الكريم التي فضَّلها الله سبحانه وتعالى واختارها من بين اللغات لتكون لغة كتابه الخاتم.
ومن ثَمَّ يكون تمسُّكنا باللغة العربية هو تمسُّك بالتاريخ والهوية القومية التي تجمع الشعوب العربية في رباط واحد، ويكون غرس محبة اللغة العربية الفصحى في نفوس أبنائنا، والتمسك بها، واستعمالها في الحياة اليومية– واجب علينا جميعًا؛ ويمكننا أن نحقق ذلك من خلال التحدث مع أبنائنا باللغة العربية الفصحى، ولا أعني بذلك اللغة القديمة المنفرة التي لم نعد نستعملها، وإنما أعني اللغة المستعملة التي تناسب حياتهم اليومية ومرحلتهم العمرية، دون إخلال بقواعد اللغة؛ فاللغة العربية غنية جدًّا بالألفاظ والمترادفات المناسبة لكل وقت وكل مرحلة عمرية، وهي لغة قادرة على تطوير الألفاظ وتوليدها وابتداعها؛ وفق مستجدات العصر، كما قال حافظ إبراهيم على لسان اللغة العربية؛ ردًّا على أولئك المنكرين قدرةَ اللغة على مواكبة المخترعات الحديثة:
وَسِعْتُ كِتَابَ اللهِ لَفْظًا وَغَايَةً
وَمَا ضِقْتُ عَنْ آيٍ بِهِ وَعِظَاتِ
فَكَيْفَ أَضِيْقُ اليَوْمَ عَنْ وَصْفِ آلَةٍ
وَتَنْسِيقِ أَسْمَاءٍ لِمُخْتَرَعَاتِ
كما يجب علينا أن نحرص على ترسيخ حب اللغة العربية واحترامها في نفوس الصغار؛ فهم مستقبل الأمة العربية، ويمكننا فعل ذلك بتجنُّب التراكيب المعقدة التي يصعب فهمها على الأطفال، والميل إلى استخدام اللغة في أبسط استعمالاتها بطريقة تفاعلية تسهم في تعزيز استعمال الأطفال الصغار للغة العربية الفصحى بشكل سليم؛ كمشاهدة مسرحيات باللغة العربية الفصحى، والاستماع إلى شعر الأطفال، والقصائد المغناة باللغة الفصحى، والمشاركة في المسابقات اللغوية البسيطة، واستخدام القصص المصورة والألعاب التعليمية، وتعزيز استجابات الأطفال، وتقديم مكافآت لهم كلما تحسَّن مستوى اكتسابهم للغة العربية الفصحى. وإن دعوتنا إلى استعمال اللغة العربية الفصحى والتمسُّك بها– لا تعني أبدًا العزوف عن تعلُّم اللغات الأخرى، وإنما يكون لكل مقامٍ مَقالُهُ؛ فنستخدم لغتنا العربية في معاملاتنا اليومية، ونحرص على شيوعها وانتشارها، ونلتزم بقواعدها النحوية والتركيبية؛ فلا يُتصوَّر أن نطلب بغيتنا في لغاتٍ أخرى، ولغتنا تمتلئ بالتعبيرات اللغوية الجميلة المفعمة بالسحر والخيال.
فإذا تمَّ لنا ذلك؛ سنكون قادرين على خلق جيل جديد يحب لغته، ويتمسك بها، ويعتز بالانتساب إليها، وفي الوقت نفسه يكون قادرًا على اكتساب اللغات الأخرى، ومُواكبًا للثورة التكنولوجية الحديثة؛ فيستعمل لغته وفق مستجدات العصر وتطوراته، وبما يتناسب مع إيقاع الحياة السريع المتطور.
وبعد، فستبقى لغتنا العربية هي المعبِّر الأوَّل عن هويتنا، وهي الدرع الذي يحمي الوطن العربي من أي احتلال فكري أو ثقافي يحاول أن يغزونا. وستبقى لغتنا العربية -شاء مَنْ شاء وأَبَى مَنْ أَبَى- البحر الذي يحمل الدُّرَّ في أحشائه، وسيبقى صوتها مُدوِّيًّا:
أَنَا البَحْرُ فِي أَحْشَائِهِ الدُرُّ كَامِنٌ
فَهَل سَأَلُوا الغَوَّاصَ عَنْ صَدَفَاتِي