د. فاطمة هلال فوزي
شهد العالم في الآونة الأخيرة تطورات تكنولوجية كبيرة، وثورة معلوماتية هائلة، في مجالات الإعلام والتواصل الاجتماعي، والتي ألغت بدورها حدود الزمان والمكان، وأحالت العالم إلى ما يعرف بالقرية الصغيرة، التي لم يعد التواصل فيها مقتصرًا على الرؤية المباشرة بين الذات المرسلة والمستقبلة فحسب، وإنما تعدى ذلك إلى ذلك النمط التفاعلي الذي يصنعه الإنسان لنفسه في محيطه الذاتي والجماعي بواسطة الوسائط التكنولوجية الحديثة، التي يصعب بمكان الاستغناء عنها في أي مجال من مجالات الحياة، فقد أصبحت بحق عالما موازيًا لتغطية مجريات الحياة اليومية بصورها كافة، ومصدرًا رئيسًا للأخبار والمعلومات على اختلاف صورها ومصادرها؛ الأمر الذي نتج عنه صعوبات شتى، وإشكاليات متعددة في أرض الواقع. ولعل من أهم تلك الصعوبات والإشكاليات كان تأثيرها البيِّن على لغتنا القومية وهويتنا العربية.
فاللغة أحد أهم مقومات الحياة الإنسانية، وهي اللبنة الرئيس في قيام الحضارات وتطور ثقافة الأمم والشعوب، كما أنها تمثل دعامة جوهرية من دعائم نشر الدعوة الإسلامية امتثالًا لقوله تعالى ﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين﴾ فلغة الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن كانت سبيل نشر الدعوة في أولى مراحلها؛ مما يعكس بدوره قوة تلك اللغة في التواصل الاجتماعي، وأثرها الفعال في التأثير على أفكار المتلقي ودفعه إلى فهم جديد لم يكن مطروحًا من قبل. فاللغة إذن هي محور التفاعلات الاجتماعية بصورها المتنوعة، والتي تسعى بدورها إلى استقرار المجتمع في جوانبه المختلفة.
وإذا كانت اللغة على اختلاف ناطقيها هي المحدد الرئيس للهوية الثقافية للفرد والجماعة، فاللغة العربية هي اللسان الأم الذي ينطق به ما يزيد على ثلاثمائة مليون عربي الآن، وهي لغة ممتدة عبر العصور استوعبت صور الثقافة والعلم والفكر منذ وقت مبكر، الأمر الذي جعلها إحدى اللغات الرسمية الست المعتمدة من قبل الأمم المتحدة. بالإضافة إلى ذلك أن من أهم سماتها المائزة قدرتها على التواصل الفعال مع الآخرين على اختلاف ألسنتهم؛ إذ لا تواصل متكامل مع كتاب الله عز وجل إلا بها، خلافًا لبقية اللغات الأخرى التي تعتمد فى فهم عباراتها على ترجمة المعاني دون النص.
وبلا شك إذا كانت اللغة العربية هي صورة الهوية وانعكاسها المباشر، فمن المؤكد أن تلك التغيرات التكنولوجية أثرت عليها بشكل مباشر؛ فلا يمكن بأية حال من الأحوال إنكار ما قد قدمته تلك التكنولوجيا الحديثة من خدمات جمة في سبيل تعليم العربية، ونشر أفق درسها خاصة بين غير الناطقين بها، وكذلك ما أسهمت به من سبل الحفاظ على قواعدها اللغوية السليمة، وطرق الكتابة الإملائية الصحيحة، وذلك من خلال عدد من البرامج اللغوية التي تقوم على تصويب النصوص ومراجعتها لغويًا وإملائيًا، وأيضًا تطبيقات خاصة بسرعة الكتابة والنطق بالفصحى، وضبط الكلمات دون عناء أو مشقة، والانتقال بالمحادثات من العامية إلى الفصحى تبعًا للبيئة الجغرافية أو المستوى التعليمي، وغير ذلك من برامج الترجمة الفورية من اللغات الأجنبية المختلفة إلى العربية الفصيحة.. وغيرها من التطبيقات التي تتيحها وسائل التواصل التكنولوجي لخدمة لغتنا العربية. وعلى الرغم من المزايا التي تقدمها تلك التطبيقات والبرامج في خدمة انتشار العربية وتدعيم مبادئها، إلا أن طبيعة تلك التطبيقات تعد جزءًا من ثورة تكنولوجية كبرى تفرض انتشارًا للمعرفة دون إجراءات احترازية مسبقة؛ فيمكن لأي شخص كتابة كل ما يريد من تعليقات وآراء على تلك المواقع دون رقابة، بكل ما يعتريها -تلك الكتابة- من تشويه، وتحريف، واختصارات مخلة، ولغة ركيكة مبتذلة، لا تشبه اللسان العربي المبين. فمستخدم اللغة الآن لم يتوقف دوره على مجرد التلقي السلبي لكل ما يدور حوله، وإنما تعدى ذلك إلى المشاركة الفعالة في تلك المواقع، حال الغالبية العظمى من شباب أمتنا، الذين هيمنت عليهم سلطة تلك الوسائط دون النظر إلى خطورتها في بناء السلوك الإنساني، والقيم الاجتماعية. فهم يواجهون اليوم تحديًا كبيرًا في استخدام مواقع التواصل الرقمية الذين أصبحوا لها أسرى لا يملكون طاقة الفكاك من أسرها؛ إما لأنهم لا يملكون مهارات اللغة العربية السليمة، أو لأنهم لا يملكون مقومات اللغة الفصيحة. وعليه ظهرت ثقافة الكتابة العامية، وتنوع لهجاتها، التي وجدوا فيها صورة قريبة تناسب وقع حياتهم السريعة، طريقة لغوية سهلة تلائم استخداماتهم التكنولوجية في الفيس بوك Facebook، وتويتر Twitter، وواتس آب WhatsApp... وغيرها من التطبيقات التي تسمح لصاحبها بإنشاء حساب خاص به، هو صاحب السلطة الوحيدة عليه، يعرض فيه لآرائه واهتماماته بشكل حر تمامًا، ويسمح للآخرين في المقابل بالتفاعل معه والتعليق سواء بالاتفاق أو الاختلاف.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فحسب بل وجدنا عددًا من الكلمات تثير الاستغراب لتداخل العربية فيها باللغة الإنجليزية بشكل مختصر وغير مفهوم، وبها كثير من الأخطاء الإملائية والنحوية والأسلوبية قد ابتدعتها تلك الشبكات الرقمية المبرمجة أساسًا باللغة اللاتينية، فقلما نجد جهازًا متطورًا تستعمل فيه البرمجة باللغة العربية. والحال نفسه نواجهه على منصات التواصل الاجتماعي، مما عمق الهوة بين مستخدميها وقواعد اللغة العربية الفصيحة من جانب، وعرَّض تعليم اللغة العربية لكثير من التحديات الآنية والمستقبلية من آخر، مما شكَّل خطورة حقيقية على سلامة اللغة في ضوء تردي الفصحى وانحطاطها، في مقابل الاستعمال العامي المنتشر الآن الذي يضنى له الجبين.
فالمخطط التغريبي الغربي يسعى بكل قوته إلى القضاء على العربية وتشويهها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك باستبدال الأحرف العربية بأخرى لاتينية تقابلها في النطق، وما لا يوجد له مقابل في اللاتينية استبدلوا به رقمًا؛ لتغطية قصور أحرف اللغة اللاتينية، وقد دعم هذا الموقف ما هو سائد في وسائل الإعلام الآن، التي تسير على هدى ذلك الأمر. فلا يخفى ما لقوة الوسائل الإعلامية من تأثير بليغ في استعمال اللغة، وتأصيل مبادئها، خاصة وقد ساد في معظمها مستويات شديدة التباين في استخدام اللغة الفصيحة، وتسربت في نصوصها ومضامينها مصطلحات العامية بكل ما تحتويه من أخطاء نحوية وإملائية خاصة في (لغة الدردشة والنشر)؛ مما زاد افتقاد مستخدمي التقنيات الحديثة للغة الضاد وأصولها السليمة، التي ضاعت في خضم هذا الانفتاح المعرفي الهائل، الذي لا يمكن تقنينه أو التحكم فيه، ووسط إهمال كبير في المقابل من تلك الوسائط الاتصالية في الكتابة باللغة العربية السليمة، وتشجيع التداول الواسع للتراكيب والصيغ والأساليب الغربية على اللغة الفصحى، التي فرضت نفسها على الحياة الثقافية والفكرية والإعلامية، حتى صارت هي الأصل والنموذج المتبع ينسج الناس على منواله أنظمة لغتهم، وأساليبهم في التعبير، وذلك على حساب لغتنا الفصحى التي توارت عن الأنظار، وعن ساحة التواصل الاجتماعي.
إذن فوسائل الإعلام سلاح ذو حدين؛ إذ بإمكانها أن ترقى باللغة وأنظمتها الأصلية، كما أنها من الممكن -في المقابل- أن تؤثر سلبًا في اللغة حال انزياحها إلى توليد مفردات لغوية وتراكيب صرفية خارجة عن نطاق قواعد اللغة السليم، وبهذا تسهم في تدهور مكانة اللغة الفصحى، واستبدالها بأخرى عامية كُتِبت لها الحياة على حساب موت اللغة الفصحى، كما نلمس بوضوح تام في ما يعرض الآن من برامج على التلفاز والإذاعة، إذ تعتمد بشكل أساسي على العامية، ولا سيما في الأعمال الدرامية والمنوعات؛ مما أدى إلى الاستخفاف بقواعد اللغة العربية وأصولها الصحيحة.
فكل من ينصرون العامية بلهجاتها المختلفة، أو يتحمسون لها بحجة مراعاة الأميين أو محددوي المعرفة، إنما يفعلون ذلك وكأنهم ينتصرون للمزيد من التخلف والجهل؛ لأن إحلال العامية محل الفصحى لسهولتها أشبه بمن يعمم الجهل لسهولته محل العلم لصعوبة مناله.
ويمكن أن نجمل مشكلة اللغة العربية في وسائل الإعلام في ثلاثة مظاهر أصيلة:
- تعد وسائل الإعلام من أهم مصادر نشر الأخطاء اللغوية عبر الجماهير الذين يقابلون تلك الأجهزة معظم الوقت، ويتعاملون معها بوصفها روافدَ رئيسة للمعرفة، وبالتالي فكل سقطة لغوية ينطق بها المذيع أو مقدم البرنامج تترك آثارًا ضارة في حياة المتلقين، الذين تتشكل ألسنتهم وفق هذا النموذج المعروض أمامهم.
- نشرها للعامية على حساب اللغة الفصحى، التي تتقلص يومًا بعد يوم.
- الترجمة الحرفية ونشر الألفاظ الدخيلة؛ نظرًا لرغبة تلك الوسائل في مواكبة سرعة الأحداث المحيطة بها، وعرض كل ما هو جديد من أخبار. وهذا سبَّب بدوره انحرافات كثيرة للبنى اللغوية التركيبية، واستبدال آخر لبنى عربية بأخرى أجنبية تم استخدامها على نطاق واسع في المجتمعات العربية، ومثال ذلك: راديو (المذياع)، تلفزيون (التلفاز)، رادار (جهاز المراقبة)، كمبيوتر (الحاسوب)... وغير ذلك.ولذا وجب علينا تقديم عدد من الحلول والمقترحات التي تساعد على حل مشكلة تأثير تلك الوسائط على اللغة العربية؛ ومن تلك الحلول ما يلي:
- توجيه استثمار تلك التقنيات الحديثة لخدمة اللغة العربية وتطوير درسها؛ وذلك من خلال استحداث عدد من البرامج التطبيقية التي تساعد على تعلمها.
- المحافظة على مكانة اللغة العربية، التي تمثل في جوهرها لغة القرآن الكريم.
- عقد عدد من الورشات التدريبية لإعداد فريق من المتخصصين والخبراء من ذوي الكفاءات لتعليم اللغة العربية عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
- صياغة مناهج أكاديمية تسهم في خلق بيئة إلكترونية تستوعب قيمة اللغة العربية في كل مجالات الحياة.
- تكوين منصات علمية، وجمعيات وروابط على مواقع التواصل الاجتماعي لتسهيل عملية تعليم اللغة العربية، والمحافظة عليها مثل: منصة أريد العلمية لغير الناطقين بالعربية، وجمعية الأكاديميين العرب، وجمعية المترجمين العرب... وغيرها من الروابط والاتحادات.
- توعية الشباب والأطفال بكيفيةِ الاستعمال العقلاني والإيجابي للغة العربية؛ حتى تصبحَ الشبكات التواصلية والاجتماعية أداةً للبناء والتثقيف، وليس وسيلةً للهدم والانحطاط والسخرية كما يحدث في واقعنا.
وأخيرًا فإن اللغة العربية باقية ببقاء القرآن ومحفوظة بحفظه تعالى، والناظر في مواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيام يسر كثيرًا مما يُقدم من جهود مبذولة في خدمة لغة الضاد؛ سواء أكانت جهودًا فردية أم مؤسساتية. فالحفاظ على لغتنا العربية لم يعد ترفًا فكريًا، أو أمرًا يمكن تأجيل النظر إليه، بل هو في أولى مقاصدنا؛ لتعلقها بهويتنا العربية التي لا يمكن الفكاك منها؛ وإلا لتحولت أمتنا إلى مسخ مشوه لا معنى له ولا قيمة. وهذا لا يعني بالطبع نفى تعلم غيرها من لغات العلم والتكنولوجيا -مثل اللغة الإنجليزية على وجه التحديد- وإنما نعني بهذا عدم التخلي عن لغتنا وهويتنا الوطنية؛ رغبة في الاتسام بالتحضر والرقي. فلن نستعيد هُويتَنا إلا إذا تولَّينا شؤوننا بأنفسنا، وتحولنا من الاستهلاك إلى الإنتاج، ولن يكون ذلك إلا بتعلُّمنا للغتنا، وباحترامنا لأنفسنا، وتقديسنا للعمل ما صغر منه وكبر، وهذه مسؤوليَّة قوميَّة ليست على فرد دون فرد، وليست على حاكم من دون محكوم.