بدعوة من الرئيس عبدالفتاح السيسى، عقد فى القاهرة قمة الثمانية يوم الخميس الماضى، ضمت القمة ثمانى دول إسلامية مثل تركيا وإيران وإندونيسيا وباكستان وماليزيا، تمت اللقاءات فى مقر رئاسة الجمهورية بالعاصمة الإدارية، ولأول مرة تُنشر وتظهر على القنوات الفضائية صور لقاعات القصر الأنيقة والفاخرة بما يليق بمكانة ودور مصر، أناقة المكان وفخامته أثارت اندهاش وإعجاب معظم رؤساء الدول الإسلامية الذين شاركوا فى القمة.
الأناقة والرقى أثارت نوعين من المشاعر، عبرت عن نفسها فى وسائل ما يسمى السوشيال ميديا.. الأول هم أولئك الذين سعدوا وافتخروا بدولتهم، الوضع الطبيعى يجب أن يكون على هذا النحو، لم يكن يليق أن تتم استضافة الاجتماعات فى قاعة بفندق أو إحدى القاعات التى عرفناها فى السنوات السابقة، ولكن فى «الجمهورية الجديدة» كان لا بد من مقر جديد، يليق بتاريخ وعظمة هذا الوطن وهذه الدولة.
الثانى عبروا عن الامتعاض، ذلك أننا فقراء، ويجب أن نتصرف على هذا النحو، لا مبرر لمبانٍ جديدة ولا منشآت حديثة، والحجة التى تظهر دائما أن ذلك يعد إهدارًا للمال العام، الشركة المالكة للعاصمة الإدارية أصدرت بيانًا أكدت فيه أن هذه المبانى لم تكلف ميزانية الدولة مليمًا، الشركة هى التى قامت بكل شيء، والحق أن ما جاء فى البيان ليس جديدا، أثير مثل هذا الأمر من قبل سنة 2019 ورد الرئيس السيسى بنفسه، مؤكدا أن الدولة لم تتحمل شيئًا فى المنشآت بالعاصمة الإدارية، وهكذا فإن الجدل والملاحظة ليست جديدة، وأعتقد أنها سوف تتردد مرات قادمة، مع الاطّلاع على كل منشآت أخرى فى العاصمة الإدارية أو فى أى مدينة جديدة، خاصة المدن الذكية.
الواقع أن هناك مدرستين فى التاريخ الإنسانى، الأولى ترى أن واجب الإنسان هو البناء والإضافة إلى الحضارة، تارة يبنى الهرم وتارة أخرى يقيم مكتبة أو أكاديمية مثل مكتبة الإسكندرية أو يبدع أو تمثالًا أو مجموعة من التماثيل، يؤسس المتاحف ويقيم البيوت والقصور، فضلا عن دور العبادة من مساجد أو كنائس أو معابد، وغير ذلك كثير ويذكر لنا التاريخ أن مصر والمصريين برعوا طوال مراحل التاريخ فى تقديم الجديد إلى الحضارة الإنسانية كلها.
وهناك مدرسة ثانية، ترفض كل ذلك، وترى أن كل ما يملكه الإنسان أو يقوم به يجب أن يتوجه نحو الطعام والشراب والحاجات الأساسية جدًا ولا داعى لكل هذه المنشآت الحضارية.. ويصبح الإنفاق على بنائها نوعًا من السفه والبذخ فى الإنفاق أو إهدارا للمال العام وتبذيرا، وتبدو الحجة وجيهة إذا ما كانت هناك مشكلة أو أزمة اقتصادية.
حين شرع محمد على فى بناء القناطر الخيرية، قبل حوالى قرنين لتنظيم الرى فى الدلتا والحفاظ على مياه النيل رفعت فى وجهه تلك المقولة، الناس فقراء ولا ضرورة لهذه القناطر الضخمة لكنه لم يتوقف، كانت لديه دراسات حول جدوى ذلك المشروع، كانت التكلفة عالية صحيح، لكن العائد المنتظر كان كبيرًا، وهو كذلك إلى يومنا هذا.. كانت فترة الدولة العثمانية، مرت دون مشروع واحد على النيل، لم تُحفر ترعة واحدة ولا أُقيم جسر على النيل فى أى موقع، ظلت الحياة كما هى زمن المماليك.
وفى زمن الخديو إسماعيل، تقرر نقل مقر الحكم من قلعة صلاح الدين إلى قصر جديد يتم بناؤه هو «قصر عابدين» وقتها ثار نفس الاعتراض، كان إسماعيل باشا، يريد أن يؤسس للحداثة، لأن الحكم من القلاع رمز العصور الوسطى، وهو أراد الخروج بالبلاد إلى العصر الحديث، ثم بنى “قصر القبة” فازدات الاعتراضات، لكن إلى اليوم نحن نفاخر بالقصرين، ليس فقط للقيمة العمرانية والتاريخية، بل لأنهما من الأيقونات العالمية، مضى إسماعيل باشا إلى المنفى وغادر البلاد ثم لقى وجه ربه، وترك لنا كل القصور التى بناها، لم يكن يؤسسها لنفسه ولا حتى لبنيه، فى النهاية هى أصول مصرية، تُحسب للبلد كله، كثيرون يحسدوننا عليها الآن.
الذين يعترضون على هذه المنشآت، ذهبوا إلى التاريخ القديم والوسيط لمحاسبته بنفس المقولات البائسة، توقفوا عند بناء الأهرامات، وراحوا يحسبون تكلفتها فى زمانها وعدد العاملين بها، وحالتهم الاقتصادية والاجتماعية، وانتهوا إلى إطلاق أسوأ الأحكام حول بناء الأهرام، وفى مصر المملوكية فعلوا الشيء نفسه.
تميز العصر المملوكى ببناء المساجد العظيمة معماريا وحضاريا أنفقوا عليها وخصصوا أوقافًا للإنفاق عليها وعلى طلابها والفقهاء بها، كان التعليم فى مدارس المساجد مجانيًا، بل كان الطلاب يمنحون الجراية، أى الطعام، وملبسا فى الصيف وآخر فى الشتاء ويُحسب ذلك للمماليك، بدءًا من عصر السلطان حسن إلى المؤيد شيخ ومسجد قايتباى وقلاوون وغيرهم وغيرهم، راحوا يعايرون سلاطين المماليك بتلك المنشآت، التى بُنيت بينما كان الناس فقراء ويعيشون أزمات اقتصادية.. رددوا ذلك رغم أن هناك دراسات جادة تبنت العكس، لم يكن المصريون فقراء على النحو الذى يصوره البعض.
فى تاريخنا القريب يمكن أن نتوقف عند مشهد بناء السد العالى وبناء مدينة نصر ثم تأسيس مدينة أكتوبر، لا يحتاج السد العالى إلى حديث مطول لإثبات نفعه العميم بالنسبة لمصر فى مسألة مياه الرى والحفاظ على حقنا السنوى فى مياه النيل فضلا عن إيجابياته الكثيرة الأخرى، حين قررت مصر سنة 1956 البدء فى بنائه ارتفعت الصيحات بارتفاع التكاليف وشدة احتياج المواطنين إلى كل مليم، ولما لم تجد تلك الصيحات، راحوا يشككون فى جدوى المشروع كله، وألصقت بالفكرة كل ما هو سلبى وسيئ، سواء بالنسبة للتربة الزراعية أو مجرى النيل قيل إنه سوف يؤدى إلى انهيار المدن والمبانى على طول النيل وتبوير الأراضى الزراعية لحرمانها من الطمى وهكذا.. والآن تجاوز عمر السد النصف قرن، وكل يوم نتأكد من إيجابياته وفوائده العميمة على مختلف المستويات العمارات التى بنيت مطلع القرن العشرين على النيل لا تزال بحالة جيدة، إنتاجية الفدان من معظم المحاصيل تضاعفت وغير ذلك كثير.
وحين اتجهت مصر لتأسيس حى مدينة نصر، انطلقت الأحاديث عن الأموال التى يتم ردمها فى رمال الصحراء، وأن المبانى سوف تُقام للمحظوظين من رجال الحكم وأقاربهم، انطلقت شائعات وقتها عن قصور سوف تُقدم للمحظوظين، تمت إشارات وتلميحات إلى بعض الأسماء وقتها، ثم مضت الأيام وها هى المدينة صارت مدنًا عدة، نقطنها جميعا، كل المصريين بلا تمييز ولا تفرقة.. سكانها بالملايين، ولولا تلك المدينة لانفجرت القاهرة القديمة بأحيائها وسكانها.
ولما شرع الرئيس السادات فى بناء مدينة أكتوبر، انطلقت النكات والشائعات أنها سوف تكون منتجع الفيلّات للمحظوظين من رجال الحكومة والقطط السمان، كان ذلك المصطلح رائجًا وقتها، بعد الاتجاه نحو سياسة الانفتاح الاقتصادى.. اليوم هناك ملايين بالمدينة ونشأت حولها مدن وأحياء أخرى جديدة، بها أحياء لمحدودى الدخل وأخرى لمتوسطى الدخل وهكذا.
لا يحتاج أى مشروع من تلك المشاريع اليوم إلى الدفاع عنه ولا تقديم تبرير لبنائه ولا الاعتذار عنه، كما أن أحدًا لا يتذكر الاعتراضات التى قبلت حول كل مشروع منذ بناء الهرم الأكبر، وحتى يومنا هذا.
ومنذ أن تسلم الرئيس عبدالفتاح السيسى مهامه فى يونيو سنة 2014، قرر أن يضيف إلى مساحة المعمور المصرى مدنًا جديدة، فى أنحاء مصر، أكثر من عشرين مدينة وشبكة طرق حديثة، ومقرا إداريًا أو العاصمة الإدارية، لأن القاهرة لم تعد تتحمل كل الهيئات الرسمية بها، فضلا عن تقادم بعض هذه المقرات والمنشآت.. مثلا مقر مجلس الوزراء فى شارع قصر العينى، كان فى الأصل بيتًا مملوكًا للأميرة شويكار زوجة الملك فؤاد الأول وتم تحويله إلى مقر للمجلس، أى أن المجلس بلا مقر رسمى فعلا بُنى لهذا الغرض.. قصر الاتحادية كان فى الأصل فندقًا ثم تطورت الأمور ليصبح قصرًا ثم مقرًا للحكم، وهكذا.. زحام وسط المدينة لا يسمح بالعودة مجددا إلى قصر عابدين ولا إلى قصر القبة، هذه القصور كانت مقرات حين كان عدد سكان القاهرة يقدر بمئات الآلاف نسمة، الآن يمكن أن نجد فى حى واحد عدة ملايين، سكان العاصمة أو القاهرة الكبرى يقتربون من العشرين مليون نسمة والمرافق الرئيسية بها لم تكن مجهزة لمثل هذا الرقم.
الرئيس السيسى منذ أن تولى مسئولياته أدرك تلك الأزمة، فقرر الاتجاه نحو بناء المدن الجديدة، وتأسيس العاصمة الإدارية لتفريغ القاهرة من زحام المقرات الرسمية، ولم يكن لائقا أن يُقام بيت متواضع مقرًا للحكم، الدول تُقاس الآن بعدة أمور، أهمها مقرات الحكم، الرئاسة والبرلمان ورئاسة مجلس الوزراء والوزارات.. لا يصح لأسباب كثيرة تتعلق بطبيعة العمل أن يكون مقر إحدى الوزارات عبارة عن شقة فى عمارة أو دور داخل مبنى سكنى.. لأسباب كثيرة لا يصح ولا يليق ذلك.
منطق المعترضين على بناء قصر رئاسى فى العاصمة الإدارية بحجة ضغط الإنفاق، يكمن أن يقودنا إلى نتائج كارثية، أخشى أن يأتى علينا يوم ويطالب هؤلاء بإغلاق المدارس الحكومية والجامعات، لأنها مكلفة اقتصاديا، والإنفاق عليها يدخل فى باب الإهدار أو السفه، وقد يقال ذلك عن المستشفيات العامة والمنشآت الصحية وغير ذلك كثير، للتاريخ فقط حين شرعت الحكومة سنة 1942 فى تأسيس جامعة الإسكندرية، ارتفعت الصيحات والصرخات تندد بالسفه فى الإنفاق، وأن جامعة واحدة تكفى، وتعددت الاستجوابات فى مجلس النواب، ولتحرير المشروع قيل إن الجامعة سوف تحترم أبناء الإسكندرية وأبناء محافظة البحيرة، لكن هيهات، تكرر الأمر مع إنشاء جامعة عين شمس سنة 1950، نفس الضجيج والاعتراضات، بعضها يدخل اليوم فى باب النكات السمجة.
والحق أن الرئيس عبدالفتاح السيسى لم يفاجئنا كثيرا بتلك الإنشاءات ولا أخذنا على غرة، من يراجع تصريحات المشير عبدالفتاح السيسى - حين كان مرشحا للرئاسة سنة 2014- أعلن نيته إنشاء شبكة طرق فى أنحاء البلاد، وأنه سوف يتوسع فى الصحراء شرقا وغربا، قال يومها سوف يتم رفع كفاءة الطرق والمنشآت الموجودة والإضافة إليها، ونحن انتخبناه على هذا الأساس، وفاز بأغلبية ساحقة.
من حقنا أن نفخر وأن نعتز بحجم ما تحقق فى السنوات الأخيرة، كنا نقيم على 6 فى المائة من مساحة مصر، توسعنا حتى صارت الآن 14 فى المائة بفضل الاتجاه نحو الصحراء شرقًا وغربًا، وهذا الانفتاح على الصحراء لم يكن يتم لولا شبكة الطرق الحديثة والجيدة، وهذا الاتجاه إلى الصحراء تحقق بفضل بناء مدن جديدة، تليق بنا وبالعصر الحديث، وتكون جاذبة للمواطنين، فضلًا عن السياح.
أما مقرات الحكم، فلننظر إلى الكرملين فى روسيا، حتى الثورة الشيوعية حافظت عليه وأضافت إليه، البيت الأبيض فى واشنطن، قصر الإليزيه فى فرنسا وقصر باكنجهام فى بريطانيا، نحن دولة عظمى، وهذا ما يليق بنا ونستحقه، لدينا أزمة اقتصادية، لكن لا يجب أن تستذلنا هذه الأزمة ولا أن تصبح قدرًا علينا، لابد من أن نتصرف كدولة كبرى وعظيمة تاريخًا وحضارة وثقافة.
هناك ملاحظة على الفريق الذى يعترض على تلك المنشآت، وهم أنهم يتركزون فى دنيا أو عالم السوشيال ميديا، لكن المواطن المصرى العادى سعيد بذلك، هذا المواطن ليس معاديًا للبناء ولا الإضافة الحضارية والمعمارية، هذا المواطن الذى تبرع واكتتب فى مطلع القرن العشرين لبناء الجامعة المصرية، التى افتُتحت سنة 1908، وهو نفسه المواطن الذى اكتتب لبناء تمثال نهضة مصر ثم تمثال سعد زغلول بعد ذلك وهو نفس المواطن الذى شعر بالحزن يوم أن احترقت دار الأوبرا سنة 1971، فى ميدان الأوبرا وسعد بإعادة افتتاحها زمن الرئيس السابق حسنى مبارك، المواطن المصرى سليل البناء والحضارة، إنما الذين يعترضون، فهم فريقان.. الأول أنصار مدرسة فقر الفكر والخيال وأن الحياة طعام وشراب فقط، هؤلاء موجودون طوال التاريخ، كانوا ومازالوا وسوف يظلون على موقفهم وعلى أفكارهم، ليسوا فى مصر وحدها، فى كل بلاد الدنيا.
الفريق الثانى، هو فريق المكايدة السياسية، الذى يبحث عن ثغرة لإفساد كل شيء، التشكيك فى كل فعل وأمر.. وهؤلاء أباطرة السوشيال ميديا.