مع قدوم شهر رجب المعظم تبدأ أجواء الاستعداد لاستقبال شهر رمضان المعظم، نسمات الهواء تتبدل تملأ الشوارع روائح الايمان تسكن النفس شعور بالفرح والسكينة، ربما يختلف استعداد كل شخص لهذا الشهر الكريم، ولكن يجمعنا جميعا الحنين لأيام الكرم والذكريات العائلية التي تميز هذا الشهر عن غيره من الشهور فيكفي سماع " رمضان أهلا.. مرحبا رمضان بصوت النقشبندي" والأذان بصوت شيخنا الجليل محمد رفعت هذا الزمن الذي كنا نتمنى البقاء فيه أبد الدهر، فمن منا ينسى أطفال الجيران وهم يجمعون المال لتعليق الزينة، تلك المال كان يظهر على هيئة فرحه مزينة من قصاقيص من الورق الملون ومع مرور الزمن تطور أشكال الزينة وأصبح أضواء هلالية وفوانيس، ومن ذكريات كثيرة يظل محفور بالذاكرة صانع الكنافة والقطايف، الذي كان ينصب خيمته المزينة بالألوان المبهجة ويبني داخلها فرنا تقليديا، كنا نصطف في طوابير طويلة بعد صلاة العصر للحصول على الكنافة الطازجة والقطايف المحشوة.
ولا يمكننا نسيان بائعي العصائر المثلجة التي كانت تضفي اللمسة المنعشة على الإفطار، بجانب بائعي المخللات الشهية ومحال ألعاب الأطفال الذين كانوا يزينون بفوانيسهم المنورة هذا الشهر، أما الفوانيس الصاج محلية الصنع فكانت رمز خاص لهويتنا، بعيدا عن الفوانيس المستوردة التي فشلت في طمس تلك الهواية، هؤلاء البائعون كانوا جزء لا يتجزأ من أجواء رمضان، يظهرون خلال الشهر ثم يختفون ليتركوا أثر لا ينسى.
ينتابني ضحكة داخلية مع كل هلال جديد لرمضان وهو مشهد المسلسل الكوميدي "ساكن قصادي" عندما أجتمع الجيران على مائدة رحمن بعد نفاذ أموالهم وبدأ كلا منهم الضحك على الأخر بحجج كوميدية، تلك الروح الجماعية التي تتجلى في التجمعات العائلية والصداقات كانت تزدهر حول موائد الإفطار، كنا نتفق دائما على الإفطار الجماعي في إحدى موائد الرحمن، لنعيش مشاعر الألفة والمحبة التي تتجاوز الفوارق بين الناس وتوحد القلوب في هذا الشهر الفضيل.
أسابيع قليلة وينير هلال شهر رمضان وتتزين السماء بنور الإيمان، وتتألق الشوارع بالأضواء والزينة، رمضان ليس فقط شهر صيام وعبادة بل نبض حياة تجمع بين الروحانية والبساطة والحنين لأيام زمان، يفوح بالذكريات الذكية ودفء التقاليد، والمورثات فبعد الإفطار حتما ولابد من الكوب الشفاف من الشاي الساخن المطعم بالنعناع مع قطعة ساخنة من "الكنفاني" ملك السهرات الرمضانية حلوى الطعم اللذيذ بصناعة محلية "وسيبكم من كنافة المانجا مفيش أحلى من البلدي" .
مهما تمر السنين وتتبادل الأرواح والأجيال سيظل الكنفاني صانع البهجة وحارس التقاليد رمز المحبة والعطاء، كان يقف عند زاوية الشارع خلف عربته الصغيرة، التي كانت بمثابة مصنع مصغر للسعادة بأواني نحاسية لامعة وأدوات بسيطة، كان يصنع الكنافة والقطايف، اللتين لا غنى عنهما في الموائد الرمضانية.
مشهد إعداد الكنافة كان يمثل جزء كبير من البهجة الرمضانية يسعد الكبير قبل الصغير، يصطف الناس حوله يراقبون حركة يديه السريعة وهو يسكب عجينة الكنافة على الصاج الساخن بحرفية وإتقان لتتحول إلى خيوط ذهبية تنبعث منها رائحة تغازل أنفى الآن.
أما القطايف فهي قصة أخرى، عجينتها الطرية تملأ الهواء برائحة الدفء، بينما كان الأطفال يتسابقون للحصول على القطعة الأولى ولا أخفيكم سراً كنت أتناول ثلاثة وربما أكثر دوائر عجين القطائف وهي سخنة قبل الحشو والقلي.
رمضان ما قبل التكنولوجيا محفور بقلوبنا، صوت المسحراتي ودقات الطبول التي توقظ النائمين، تلك الأيام لم تكن ذكريات عابرة بل تشكيل للوجدان رمضان حنين إلى ما كان، ورغم تغير الزمن إلا أن حلاوة رمضان القديمة تظل حاضرة في القلوب، ربما الكنفاني لم يعد كما كان و لكن رائحة الكنافة والقطايف لا تزال تذكرنا بأيام الطفولة، حين كنا ننتظر بفارغ الصبر قطعة الكنافة الساخنة الملفوفة بالسكر.
رمضان قصة حياة مليئة بالذكريات وشحن للطاقات نحيا بها من العام للعام، تمنحنا فرصة لتذوق السعادة الحقيقية كما كنا نفعل أمام الكنفاني زمان في أزقة الزمن الجميل والشوارع والحارات وبين أصوات المسحراتي وأناشيد الأطفال، الكنفاني صاحب السعادة بحبات من الطوب في زمن لم تكن فيه الماكينات الحديثة تغزو كل شبر من حياتنا، كان يقف ذلك الحرفي الذي يعيد الحياة للطوب القديم ينسج من خلالة قلوب الناس بأواصر من المحبة، اختفت مهنة الكنفاني تقريبا، وحل مكانه الآلات الضخمة والمواد الحديثة، لكن ذكراه لا تزال حية في قلوب من عاشوا تلك الأيام، فهو لم يكن مجرد عامل بل كان صانع للحياة في زمن جميل.
في رمضان هذا العام ونحن نعيش في زخم الحياة السريعة، ربما نحتاج إلى أن نستعيد روح الكنفاني، تلك الروح التي تقول إن كل شيء يستحق فرصة أخرى، سواء كان طوب يحتاج للترميم أو قلوب تبحث عن التجديد، رمضان ليس فقط شهر العبادة، بل شهر للعمل والإنسانية تماما كما كان الكنفاني يعلمنا كل يوم، بحبات الطين وأثر يديه على جدران الزمن، اللهم بلغنا رمضان لا فاقدين ولا مفقودين.