حرائق كاليفورنيا.. تأملات مصرية كارثة تتجاوز قدرات الإدارة وكفاءتها
تشهد ولاية كاليفورنيا فى الولايات المتحدة حرائق شديدة منذ عدة أيام، فى مدينة لوس أنجلوس أتت النيران على الكثير من المبانى والفيلات والقصور المملوكة لشخصيات عامة من كبار نجوم هوليوود وغيرهم، آلاف المبانى دُمرت بالكامل، التقديرات المبدئية للخسائر، حتى ظهر يوم السبت بلغت حوالى 150 مليار دولار، أجهزة الإطفاء فى الولاية عجزت عن التعامل مع الحرائق، رغم أن لديها طائرات وسيارات ضخمة مجهزة، الحرائق مرشحة أن تستمر عدة أيام أخرى، تعددت التفسيرات لهذه الحرائق، حتى ذهب البعض إلى أنه ربما كان هناك مَن أشعل النيران عمدًا، لكن مسئولًا بالولاية سارع إلى نفى تلك المقولة، لأنه لا شواهد عليها، فضلًا عن أنه لم يفتح تحقيقًا بعد فى الأمر، الرئيس جو بايدن ألغى زيارته إلى إيطاليا، وكان مقررًا أن يختم بها فترته الرئاسية، نائبة الرئيس كمالا هاريس ألغت جولة خارجية لها أيضًا، ضخامة الحريق واستمراره تستدعيان تواجد الرئيس ونائبته.
وسط هذه الحرائق، كان هناك الشامتون.. الذين يسعدون بالخراب فى أى مكان بالعالم، وهناك مَن اعتبروا ذلك انتقامًا من الله سبحانه وتعالى، لكن الله عادل وهو أرحم الراحمين، عقاب الله يكون فى الآخرة.. وهناك مَن ذهب إلى تفسيرات سياسية وأنها أسوأ ختام لرئاسة بايدن ونائبته هاريس وإدارته كلها، على الأغلب ذلك رأى بعض الجمهوريين.
هذه كلها شئون أمريكية خاصة، لا تشغلنا إلا فى جانبها الإنسانى، لكن علينا أن نتأمل جيدًا معنى هذه الحرائق ودلالتها، وهى عديدة.
الولايات المتحدة هى الأغنى اقتصاديًا على مستوى العالم، حتى هذه اللحظة، الصين لديها اقتصاد ضخم، لكن قياسًا على تعداد السكان تعد أمريكا هى الأغنى والأقوى.. هى كذلك لديها «إدارة حديثة»، وكل ولاية لديها سلطات هائلة، إذ لا تعتمد على الحكومة المركزية إلا فى أمور محددة، باختصار لا تنقصها الإمكانات المادية ولا الآلات والأدوات، أقصد أنهم لا يعانون نقصًا فى سيارات الإطفاء ولا فى الماء، وليست لديهم إجراءات روتينية، ولا ولا.. رغم هذا أخفقوا فى التعامل مع هكذا حريق، نحن إلى اليوم مازلنا نتساءل عن حريق القاهرة فى يناير 1952، ونفتش فى أسراره «المعروفة» من يومها، وبكل بساطة هو حريق يهون كثيرًا فى حجمه ومدته وفى أضراره بما نراه فى كاليفورنيا، حريق القاهرة دام عدة ساعات، وتمت السيطرة عليه بسرعة.
باختصار أى إدارة مهما كانت كفؤة ومجهزة، يمكن أن تواجهها مشكلة طارئة أو كارثة طبيعية تعجز معها عن مواجهتها، ورغم الخسائر الضخمة وأن الحرائق مرشحة للاستمرار ومرشحة لأن تمتد إلى مدن أخرى، لكن الحياة فى الولايات المتحدة مستمرة وتتواصل، أقصد أنهم لم يعتبروا الحريق رغم فداحته نهاية العالم أو آخر الدنيا، ولا دعى أحد إلى أن تتوقف الحياة ولا نصبوا مناحات، الحياة السياسية تمضى فى وتيرتها العادية، الرئيس بايدن يستعد لمغادرة البيت الأبيض مع إدارته، الرئيس المنتخب دونالد ترامب يتجهز لتولى الرئاسة وإقامة حفل التنصيب، يوم 20 يناير، وإن كان بدأ يمارس بالفعل بعض الأدوار، لم تتعطل الحياة لحظة، مجلس النواب اجتمع مع مجلس الشيوخ يوم 6 يناير واعتمدوا نتيجة الانتخابات الرئاسية، ولا أغلقوا دور السينما ولا توقف قطار الحياة، هى كارثة فى موقع محدد لديهم، تتعامل معها الجهات المختصة، الجميع يتفهم ما يحدث -لم يطلب أحد الإطاحة بالمسئولين ولا نصب المشانق لآخرين ولا البحث عن كبش فداء هنا أو هناك.. المهم لدى الجميع هو سرعة إيقاف الحرائق.
الإعلام الأمريكى الذى يمد بعض البلدان والدول بأخبار قد لا تكون دقيقة طوال الوقت، وقائع غزة وجنوب لبنان وسوريا أثبتت أنهم أحيانًا يرددون أكاذيب، لترويج موقف سياسى ما، هذا الإعلام فى حرائق كاليفورنيا، أطلق عبارة “ريح الشيطان” والمقصود الرياح التى أدت إلى سرعة انتشار الحرائق، والتسمية على هذا النحو، تعنى أنهم بإزاء حالة قدرية/ شيطانية، أى ليست مسئولية الإدارة ولا بعض المواطنين، باختصار كارثة طبيعية، ومن ثم لا يتم التفتيش حول احتمالات أن تكون مدبرة ولا اتهام لمسئول بالتقصير ولا إلى الإدارة بالعجز أو الضعف، كل ذلك ليس واردًا فى قاموسهم بالنسبة لتناول مشكلاتهم، أكبر قدر من الدقة فى التوصيف، بما يضع الأزمة فى حيزها الذى يريدون للمشكلة أن لا تتجاوزه، وهذا جيد، باختصار لا تربص لديهم فى التناول والمعالجة الصحفية ولا محاولة تحريض لأى من المواطنين ضد الإدارة ولا اتهام للمسئولين.
خصوم الإدارة لم يتهموهم كإعلام بالمهادنة ولا بالنفاق ولا التهوين.. هذا هو المناخ العام هناك الذى يضبطه الإعلام.. ذلك أن مهمة الإعلام هى أن يقدم المعلومة والواقعة، وليس التحريض ولا التهييج باختصار يقدم المعلومة ويقوم بدور الباحث عن الوقائع، وليس أن يصير الإعلام معقلًا لنشطاء سياسيين وشعبويين.
اللافت هنا هو تعاون الأهالى الذين أصابت الحرائق بيوتهم مع جهات الإدارة، استجابوا على الفور إلى طلبات الإخلاء وغادروا بسرعة، تفهموا ما يحدث.. تقبلوا قرارات وخطوات الإدارة، ثم راحوا يبذلون الجهد للتعاون مع الجهات المسئولة عن الإطفاء.
انطلقت بالطبع بعض الشائعات، لكنها محدودة وفى إطار الحديث عن حجم خسائر فلان وممتلكات علان ولم يتوقف عندها الكثيرون، ولم تجد ما يسمى «السوشيال ميديا» تنصب محافل الأكاذيب والوقائع المفبركة، حتى رجال السياسة والإعلام لم يتدخلوا لركوب موجة ما أو خلق «تريند زائف»، أقصى ما حدث أن الجمهورى «إيلون ماسك» علق قائلًا إن الحرائق تثبت فشلًا لإدارة الديمقراطية فى الولاية، وأنها أى “كاليفورنيا” تستحق إدارة جمهورية.
هل هذا يعنى أننا بإزاء مجتمع مثالى أو المدينة الفاضلة..؟ بالتأكيد لا، ليس هناك مجتمع مثالى ولا مدينة فاضلة، بل مجتمع بشرى، فيه الضعف والقوة.. التى تسير مع الإخفاق.. القوة والعجز، المهم هنا هو عدم الانهيار إن لم حادث وقع، مهما كان خطيرًا وسخيفًا، لابد من الثبات للمواجهة والتعامل مع الموقف.. فى النهاية هناك ضرورة إنسانية وهناك مواقف وحالات تتجاوز القدرة الإنسانية، المهم أن نعترف ونقر بذلك.
الولايات المتحدة لديها أقوى اقتصاد وإدارة حديثة، رغم ذلك ليس هناك إنكار ولا استنكاف أن يتعرضوا لكارثة ما، وأن تقع خسائر كبيرة.. فى أزمة كورونا «كوفيد - 19»، كانت الولايات المتحدة صاحبة أعلى معدل وفيات من جراء هذا المرض اللعين على مستوى العالم، ومع ذلك لم نسمع أحدًا هناك يتهم بلاده بأنها متخلفة ولا أنها الأسوأ ولا ولا.. تقبلوا المسألة، صحيح أنه كانت لديهم مآخذ على الإدارة وقتها، لكنها ظلت فى هذا النطاق، أى الموقف السياسى.
فى ثقافتنا الشعبية هناك تهكم وتنديد بالمبالغة فى بعض الأمور «يعمل من الحبة قبة» والمعنى هنا ليس إنكار المشكلة أو الأزمة، بل المبالغة فيها والتهويل منها، ما يجرى فى كاليفورنيا نموذج أمامنا، كارثة كبرى بكل المقاييس، لكن تظل فى حدود الولاية والمدينة التى وقعت بها، وفى نطاق أنها كارثة حتى الآن طبيعية، أى لا دخل لأحد فيها، وقد بذلت الإدارة ما فى وسعها، لكن المشكلة أكبر من الإمكانات المتوفرة.
هذا النموذج يحتاج إلى التأمل العميق منا، ذلك أن بيننا دعاة الولولة واختراع الحبة كى يجعلوا منها قبة.. ومَن يستغلون أى مشكلة مهما كانت محدودة لإطلاق سيل من الشائعات السوداوية وإطلاق حالة من اليأس والإحباط العام، فضلًا عن حوادث الهدم والتخريب وغير ذلك مما نعرفه.
يحتاج المجتمع الأمريكى إلى أن نتأمله، ليس فقط فى مسألة الحرائق الملتهبة فى كاليفورنيا، بل فى عديد الحوادث، التى تقع هناك باستمرار.. إطلاق نار وضحايا داخل مدارس أو أماكن عامة.. عمليتان إرهابيتان الأسبوع الماضى، عملية إرهابية فى لويزيانا راح ضحيتها 15 فردًا، فضلًا عن إصابة 30 فى المستشفيات ومع ذلك لم تتوقف الحياة، كل حادثة سيتم التحقيق فيها وإعمال القانون.. لكن لم يذهب أحد هناك إلى أن تلك الحوادث نهاية الدنيا، ولا زعم أي منهم أن المجتمع فى انهيار، ولا أن الدولة والإدارة فى عجز، ويجب الهياج ضدها.
نحن هنا بإزاء ثقافة تستحق التوقف عندها.. وعى عام لا يهول من أى شيء كما لا يهول كذلك فى أى مشكلة.. لكل حادث حديث.
الثقافة العامة هناك لا تنبنى على الشكاية الدائمة ولا تحمل حذرًا أو ميلًا تاريخيًا نحو اتهام الإدارة وإلقاء كل العبء عليها.. فى حرائق كاليفورنيا، مثال من ذهب إلى أن نيزكا سماويا حل عليهم أشعل النار، وهناك مَن رآها “ريح الشيطان».. لكن كذلك كان هناك التفسير العلمى ومحاولة عقلنة الحادث، بالقول إن المنطقة جافة وكانت معرضة للحرائق، أى إن الجانب العلمى لم يتراجع ولا حل الارتباك بهم.
الثقافة الأمريكية لا تستغرب الألم ولا الغرق فى مشكلة ما، حين تورطوا فى حرب فيتنام وخسروا فيها الكثير، خرجوا منها سنة 1972، ولم يعتبروها عقدة تحكمهم ولا جعلتهم يلعنون ويحذرون من كل شيء، تأمل حالنا نحن وحال ثقافتنا مع حرب اليمن -مثلًا- سنة 1962.
مرة أخرى يجب أن نقارن بعض المواقف، حين داهم العالم “كوفيد -19» ، قام بعض المولولوين بيننا يبشرون فى وجوهنا أن مصر ليس لديها مستشفيات كافية ولا نظام طبى ولا ولا.. وأننا سنفقد فى شهور 800 ألف مصرى على الأقل، ومرت الكارثة، خرجنا منها بأقل قدر من الخسائر، عملت الإدارة المصرية بكفاءة شهد بها الجميع، بينما فقدت الولايات المتحدة حوالى نصف مليون مواطن، خلال سنة.. هناك تعاملوا مع المشكلة فى حدودها، وهنا لم يعتذر المتشائمون ولا أقروا بخطئهم، لسبب بسيط أن فيهم مَن يقصد الندب والولولة لذاتها، ولا طالبهم أحد بالاعتذار أو رفع صوته باللوم لهم، لأن توقع الشر أو ما هو سيئ مقبول عند البعض منا، حين يضحك أحدنا بعمق ومن قبله، ينتبه بعد ذلك قائلًا: «اللهم اجعله خير؟» إذ يعتبر الضحك والانبساط الشديد هو مقدمة أو تمهيد لكارثة كبرى أو نذير شئوم، وهناك المتربصون بهذا الوطن شعبًا ودولة.