رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


مستجير.. فارس الثقافتين مسيرة عطرة من الميلاد إلى الرحيل

23-1-2025 | 00:03


صورة أرشيفية

بقلـم: صلاح البيلى

عرفت د. أحمد مستجير سنة 1993م وتوطدت علاقتى به حتى رحيله سنة 2006م، وزرته فى بيته مرارًا، وعرفت أسرته، وقرأت جميع كتبه، المؤلفة، والمترجمة، وحاورته أكثر من مرة، وكنت وسيطًا بينه وبينه رئيس تحرير (المصور) مكرم محمد أحمد، لنشره مقالات فى مجلتنا الغراء، إنه مصرى موسوعى، عاشق للغة العربية، وشاعر نشر ديوانين، وعالم بالإنجليزية، وترجم عنها أربعين كتابًا، جمع فى شخصيته بين الأدب والعلم، وهما جناحا التقدم لأى أمة، وعرفانا بمنجز الرجل تحتفى به مصر كشخصية العام لمعرض القاهرة للكتاب هذا العام، وهو احتفاء واجب، وهذه السطور إبحار فى سيرة د. مستجير ومنجزه العلمى.

ولد د. أحمد مستجير فى الأول من ديسمبر سنة 1934م بقرية الصلاحات، مركز دكرنس، بمحافظة الدقهلية، وهى محافظة غنية فى تربتها وثروتها البشرية، وكما قدمت لمصر تاريخيًا أجود أصناف الأرز والقطن والذرة وغيرها من المحاصيل، قدمت ثروة بشرية متقدمة فى كل مجالات العلوم والمعرفة من علماء دين، ورياضيات، وفنانين، وكتاب، وأدباء، ويكفى أن نذكر أمثلة من روادنا كأم كلثوم، ورياض السنباطى، والشيخ الشعراوى، وصالح جودت، وعلى محمود طه، ومحمود مختار، وحسن الإمام، ود. عبدالرحمن بدوى، والشيخ جادالحق، والقارئ عبدالوهاب الطنطاوى، والشحات أنور، وأنيس منصور، وكامل الشناوى، وغيرهم الكثير فى كل الأجيال.

 

وعن هذه النشأة الريفية يقول د. مستجير: أنحاز إلى الأرض الريفية لأنى ابنها، وربما كان تفوقى فى كلية الزراعة، أو (كلية الفلاحين) كما يحلو للبعض أن يسميها، سببه عشقى للزراعة والأرض، ولون الزرع الأخضر، وحبى للخيال الرحب، فالريف هو عشقى الأبدى، ومنبع كل الرومانسية المتأججة بداخلى.

 

وكما انحاز الرجل للأرض الخضراء والريف، انحاز للقلم والكتابة والإبداع، خاصة الشعر، منذ بواكيره الأولى، وذكر فى مقدمة كتابه (قراءة فى كتابنا الوراثى)، الصادر عن (دار المعارف) أنه وهو فى الصف الرابع الابتدائى، وعمره دون العاشرة كتب خطابًا لرئيس وزراء مصر، يقول:

 

(كان مدرس الإنجليزية شفيق أفندى، وسأل مرة صديقى يوسف شطا سؤالاً عجز عن الإجابة عنه، فقال له المدرس: روح موت، وزجره بشدة، فغاب صديقى ثلاثة أيام، وفى اليوم الرابع وصلنا خبر موته، وبكيت هذا الظلم، وحزنت عليه بشدة، واعتبرت أن المدرس قد قتله، وفى الفسحة كتبت خطابًا لرئيس الوزراء، كان أحمد ماهر باشا، لا أعرف ماذا كتبت، آه لو أعرف، ومضيت خارج المدرسة مع زميل اسمه ضرغام، وكان سمينًا، اشترينا مظروفًا وطابع بريد، وحينما هممت بإلقاء الخطاب فى الصندوق، إذ بيد تمسك زراعى، كان سعد أفندى عبدالملك مدرس الحساب، سألني: ما هذا؟ بكيت، فأخذ الخطاب منى واصطحبنى عائدًا إلى المدرسة، وحاول فى الطريق أن يخفف حزنى، ثم مضى بى إلى مكتب الناظر توفيق أفندى عفيفى، كنت على رأس طابور يضم كل تلاميذ الفصل، عددنا ثمانية عشر، بكيت أمامه، ولم أستطع أن أعتذر عما فعلت، فما الخطأ فيما فعلت؟!).

 

وهنا تتبلور البدايات لشاعر وكاتب ومترجم، أراد التعبير عن ذاته، ودفع الظلم، وإقامة العدل عن طريق الكتابة والقلم، كانت إرهاصة أولى، وتعبيرًا مبكرًا عن كاتب معتبر محب للحق والجمال والحياة.

 

حصل د. مستجير على بكالوريوس الزراعة من جامعة القاهرة سنة 1954م، وعقب تخرجه عمل مهندسًا زراعيًا فى أكتوبر من العام نفسه، ولمدة خمسة وخمسين يومًا فى (عزبة الفؤادية)، فكانت الكتب التى اصطحبها معه لمدة شهرين هى زاده المعرفى والوجدانى فى عمله الجديد كمغترب بعيدًا عن أسرته وناسه، ولم يكن بلغ بعد العشرين من عمره.

 

ولما لم يجد فى هذا العمل ما يرضى طموحه العلمى والمعرفى إضافة لملابسات أخرى عرفها من خلال وجوده فى هذا المكان النائى، أدرك أن هذا العمل الحكومى لا يمكن أن يتواءم معه إلا من يجيد لعبة (البيضة والحجر)، فترك عمله ذلك، واتجه للعمل فى المركز القومى للبحوث، وفى تلك الأثناء درس رسالة الماجستير فى كل الزراعة حول (تربية الدواجن)، وحصل عليها سنة 1958م، ثم عين معيدًا فى كلية الزراعة التى تخرج فيها.

 

وآنذاك راسل عالم الوراثة البريطانى الشهير (آلان روبرتسون) ليساعده فى مشواره العلمى فى معهد الوراثة فى (جامعة أدنبرة )، فابتعث إلى هناك، وحصل على دبلوم وراثة الحيوان بامتياز من تلك الجامعة سنة 1961م، فكانت المرة الأولى التى يحصل فيها باحث مصرى على هذا التقدير العلمى الكبير من هذا المعهد المميز، ثم أكمل مشواره العلمى، فحصل على الدكتوراه فى (وراثة العشائر) تحت إشراف أستاذه (آلان روبرتسون).

 

عاد د. مستجير من بعثته، وتدرج فى السلك الجامعى من معيد لمدرس لأستاذ، حتى أصبح عميد كلية الزراعة فى جامعة القاهرة لدورتين متتاليتين وبالتزكية والإجماع، رغم أنه كان ضد تعيين العمداء ورؤساء الجامعات، وكان رأيه مع الترشيح وانتخابهم، وبعد أن بلغ سن الستين عُرض عليه منصب العميد فى أكثر من جامعة خاصة، وفى الكويت فرفض، كما اعتذر عن منصب وكيل جامعة القاهرة، واختار أن يتفرغ لمؤلفاته، وللبحث العلمى، ولترجماته، ولحياته الأدبية والثقافية.

 

كان د. مستجير يؤمن بأن الخيال الخصب لا ينفصل عن التفكير العلمى، وأن عشق الأدب والأسلوب الأدبى لا يتنافى مع الأسلوب العلمى، بل هما يكملان بعضهما البعض، وكان يستفزه السؤال العقيم عن علاقة الأدب بالعلم، وكان يؤكد دائمًا أن غالبية الابتكارات العلمية، والمنجزات الحضارية بدأت بخيال خصب، ولذلك فحاجة العالم إلى الخيال المحلق لا تقل عن حاجة الأديب أو الفنان.

 

وعندما عاد د. مستجير من بعثته العلمية إلى (أدنبرة )، وعُين مدرسًا فى كلية الزراعة بجامعة القاهرة، كان مؤمنًا بأهمية (التخطيط العلمى) لسنوات، وأهمية (المتابعة) لتنفيذ تلك الخطط تحت إشراف (أستاذ كرسى أو سنيور) كما هى العادة فى الدول الأوروبية المتقدمة التى تُنفق بسخاء على البحث العلمى، وكان يرى أن وظيفة العالم أن يجيب على أسئلة نظرية، وأن يحل المشاكل التطبيقية المعقدة، ولذلك كان ضد سياسة (الجزر المنعزلة)، والبحث العلمى (بالقطعة)، وأجواء (الشللية) و(العشوائية) المسيطرة على حياتنا الجامعية والعامة معًا.

 

كان د. مستجير كما رأيته فى مكتبه وهو عميد كلية الزراعة فى جامعة القاهرة، ثم فى بيته لاحقًا، إنسانًا جم التواضع مع علمه الغزير، بسيطًا مع عمقه فى الفكر والطرح، وكان قادرًا على الحوار لساعات طويلة فى الأدب والعلم وفى الترجمة وفى مناحى الحياة كافة، وكان قادرًا على الغوص فى التفاصيل بكل دقة، ومع ذلك واسع الأفق، يقبل كل سؤال، ويجيب عن كل استفسار، ولا يسخر من أحد، ولا يخوض فى السياسة بما لا طائل منه، بل كان يشغل وقته بما يفيد من تأليف وترجمة، وتربية أجيال من الطلبة على الوعى واليقظة العلمية والنزاهة، وأنه لا نهاية فى العلم، فكلما وصلت لقمة ستجد نفسك فى ملاحقة قمة أخرى، وكان يسعد بكل متفوق، ويعامل الجميع برحابة صدر وكرم أخلاق، مثله فى ذلك مثل كل أصحاب الرسالات.

 

نظريته فى عروض الشعر

 

ويرجع الفضل إلى د. مستجير فى ابتكار نظرية جديدة فى تحليل ودراسة بحور الشعر العربى، ضمها فى كتابين، الأول وصدر سنة 1980م بعنوان (الأدلة الرقمية لبحور الشعر العربى)، والثانى صدر سنة 1987م بعنوان (مدخل رياضى إلى عروض الشعر العربى)، ومحاولته تلك تُعتبر أول محاولة عربية فى العصر الحديث لدراسة بحور الشعر العربى رياضيًا، ومحاولة تطويع الشعر وبحوره لبرامج الكمبيوتر، حيث ذهب د. مستجير نفسه فى وضع وتصميم برنامج كمبيوتر لتحليل قصائد الشعراء، وبواسطته نعرف على وجه الدقة تفاعيل القصيدة وبحرها، ومدى تطور الشاعر عبر تراكم إبداعه ومضى الزمان، وهو ما شرحه لنا فى حواره معنا بالتفصيل.

 

نال د. مستجير جائزة الدولة التشجيعية فى العلوم الزراعية سنة 1974م، ثم وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وفاز بلقب صاحب أفضل ترجمة علمية سنة 1993م عن كتابه (الهندسة الوراثية للجميع)، ونال جائزة (مبارك) فى العلوم سنة 2001م، وحصل على جائزة الدولة التقديرية سنة 2002م، ونال عضوية الأكاديمية الملكية فى السويد.

 

اعتز د. مستجير بعضويته فى مجمع اللغة العربية منذ عام 1994م، ومن عرفه عن قرب يعرف إخلاصه وحبه للغة العربية الفصحى، واطلاعه الواسع على الشعر العربى فى عصوره، وكان بحكم سفره للدول الأوروبية يطالع كل جديد فى إصدارات الكتب الأجنبية، ويتخير منها المهم، والمتوافق مع فكره، ويقوم بترجمة الكتاب للعربية، وبذلك أضاف للغة العربية زخمًا جديدًا، خاصة أنه ترجم أربعين كتابًا، وكأنه ألفها لروعة أسلوبه، وقدرته على تطويع اللغة العربية لترجمة أى مصطلح علمى مهما كان معقدًا أو خاصًا جدًا، وكان يقوم بهذا الدور بحب خالص، ودون انتظار ثمرة أو عائد مادى، ومع ذلك – وكما قال لى مرة – كان يغضب من معاملة المترجم فى ثقافتنا العربية، معاملة أقل من معاملة المبدع أو المؤلف، وكان يتحسر على تلك المعاملة التى لا تليق بالمترجم الجاد لا أدبيًا ولا ماديًا، ومع ذلك كان يقول إنه يكتب ويترجم لأنه يحب كل ما يقوم به، وليس من أجل عائد مادى أو تكريم من أى نوع أو وجه.

 

أبحاثه وتحذيراته

 

ولعل أخطر وأهم ما توصل إليه د. مستجير فى مجاله الزراعى هو بحثه الناجح عن زراعة القمح والأرز على المياه المالحة، وفى الأراضى المالحة، من خلال التهجين مع نبات الغاب، وكذلك زراعته لنبات يجمع بين صفات البطاطس والطماطم، ونجاحه فى تحسين سلالات الجاموس المصرى، وتحسين سلالات الدجاج المصرى.

 

وأخطر أقوال د. مستجير فى جلساته الخاصة، وما عبر عنه فى بعض مقالاته، هو قوله إن (الهندسة الوراثية) خير للفقراء، وسكان العالم الثالث فى الجنوب قبل الدول الغربية الغنية والمتقدمة، وإنها بوسعها أن تنقذ الفقراء من أزمات مثل الجوع وندرة المحاصيل والموارد الطبيعية.

 

وحارب د. مستجير ما أسماه (بذور الشيطان)، وكان يقصد بها البذور التى نستوردها ولا يمكننا استنباتها مرة ثانية، ومن ثم تعتمد دول الجنوب فى غذائها على المصدر الغنى المتقدم!.

 

وحذر د. مستجير وحارب فكرة (السوبر مان الأبيض)، وحذر من عنصرية الرجل الأبيض الغربى والمستعمر، وقال إن فكرة تفوق الرجل الأبيض الغربى على سكان الجنوب الفقراء، فكرة عنصرية، كما أن التمييز بين الرجل الأبيض، والأسود أو الملون بسبب اللون فقط عنصرية غربية استعمارية أيضًا، وشبه تلك الدعوات بدعوة (هتلر) النازية العنصرية، حيث كان ينادى هتلر بتفوق الجنس الألمانى على أوروبا والعالم كله!.

 

وحذر د. مستجير من التطرف الدينى والغلو الفكرى، والأفكار الهدامة المعادية للعلم، وكان يرى أنه لا مستقبل لمصر، ولا للعرب بدون البحث العلمى، وسيادة التفكير العلمى.

 

وحذر مرارًا من خطورة استغلال منجزات البحث العلمى فى الحروب لتدمير البشرية، واستغلال العالم الغربى المتقدم للعالم النامى فى الجنوب بعنصرية بغيضة لا تعرف الرحمة، وكان يأخذ على بعض علماء الغرب المتقدم أنهم يتفانون فى خدمة أهداف الاستعمار والاستغلال والعنصرية، بتسخير ثمار أبحاثهم لأهداف عنصرية استعمارية، دون وجود أى اعتبار أخلاقى أو قيمى بما فى ذلك أخلاق العلم، وكان يرى ذلك يفتح الباب لتدمير العالم باستخدام منجزات العلم!

 

وسعى د. مستجير لتكوين مدرسة مصرية وطنية فى الوراثة الحيوانية والنباتية من زراعة القاهرة، وأسس المعامل، وأصبح له تلاميذ مخلصون فى مجاله، كما سعى لحفظ السلالات الحيوانية والنباتية المصرية من الاندثار، أو السرقة، أو من محاولة آخرين ادعاء تلك أو بعض السلالات لأنفسهم، كما ادعت اليابان أن الملوخية نبات يابانى، وسجلته باسمها، رغم أنه نبات مصرى!.. وادعاء دول أخرى احتكار القطن طويل التيلة باسمها مع أنه مصرى أساسًا، والأخطر أننا نستورد تلك المنتجات بعد ذلك على أنها غير مصرية!..

 

الرحيل

 

ظل د. مستجير يقظًا ومتفاعلاً فى الحياة العامة، الثقافية والجامعية، حتى كان العدوان الإسرائيلى الوحشى على لبنان سنة 2006م ورؤيته لمشاهد قتل النساء والأطفال، فلم يتحمل وهو الشاعر المرهف الحس، وفاجأته جلطة دماغية نُقل على أثرها للمستشفى، وكان يقضى إجازته السنوية مع أسرته فى النمسا فتدهورت حالته الصحية، ولقى وجه ربه عصر الأربعاء السادس عشر من أغسطس من عام 2006م، عن 72 عامًا، وشُيعت جنازته يوم الأحد 20 أغسطس من أمام كلية الزراعة فى جامعة القاهرة حيث قضى جل عمره، ورحل وهو فى أوج عطائه الثقافى والأدبى والعلمى، رحمه الله تعالى.