كان ذلك أواخر سنة 1973 أو أوائل سنة 1974. لا أذكر بالتحديد. كنت شاباً يبحث عن طريقه. غير واثق من الخطوات التى يمكن أن أقوم بها في ذلك الزمان البعيد. لذلك لم أكن معنياً بتدوين تواريخ ولا وقائع إطلاقاً. لكنى كنت متأكداً أن الواقعة جرت عندما كنت مجنداً فى القوات المسلحة المصرية وجيش مصر العظيم. كنت ضمن المجندين الذين قرر الزعيم الكبير جمال عبد الناصر عدم خروجهم من الخدمة العسكرية إلا بعد تحرير كامل التراب الوطنى. وهكذا مكثت فى الخدمة الوطنية منذ ديسمبر 1965 حتى أكتوبر 1974.
توجهت لمبنى الإذاعة والتليفزيون. كنا فى ذلك الوقت نقول كلمة الإذاعة قبل التليفزيون. لأن الراديو كان له سلطانه على الأذن أكثر من تأثير شاشة التليفزيون على العين. كان التليفزيون فى أيامه الأولى. وكان إرساله بالأبيض والأسود. ولم نكن نشاهد فيه سوى مسلسلات الدراما التليفزيونية التى كانت جديدة علينا.
كنت ذاهباً إلى البرنامج الثانى فى الإذاعة. يقع فى الدور السادس من ذلك المبنى المهيب الضخم الذى كان حديث العهد فى ذلك الوقت. وبالقرب منه كانت إدارة الموسيقى والغناء فى الإذاعة أيضاً. كانت الإذاعة قبلتنا وهدفنا. نصل إلى المبنى من أجلها. ولا نفكر فى الاقتراب من التليفزيون. ربما لأنه لم يقترب منا. أيضاً لإحساسنا أنه أمر آخر. وأن أقصى أحلامنا لا تتعدى الراديو الموجود فى قُرانا. أما التليفزيون فى ذلك الوقت فقد كان عملة نادرة. كانوا يفرضون ضريبة على من يشتريه. تحصل مع فاتورة الكهرباء. وهذا جعل انتشاره شبه محدود في تلك الأيام البعيدة التي نوشك أن نتذكرها بصعوبة.
بعد أن زرت البرنامج الثانى – وهو نفس البرنامج الذى كان يقال عنه البرنامج الثقافى فى الإذاعة المصرية – مررت على إدارة الموسيقى والغناء. وكانت إدارة مستقلة مهمتها تشجيع الغناء واكتشاف المواهب الجديدة. واعتماد الشعراء الذين يكتبون الأغانى والموسيقيين الذين يلحنونها. وإعطاء الفرصة لأى صوت جديد حتى يفرض نفسه على الساحة.
أعتقد أن هذه الإدارة لم يعد لها وجود الآن بعد أن تخلت الإذاعة المصرية عن دورها فى اكتشاف المواهب ورعايتها. حتى تثبت نفسها وتصبح حقيقة من حقائق الغناء العربى. ما زلت أذكر أن عمل هذه الإدارة لم يكن قاصراً على المصريين فقط. ولكن أى شقيق عربى كان يصل إلى القاهرة كان يحصل على ما يحصل عليه المصرى ابن البلد وربما أكثر.
وهكذا كان أى مطرب أو مطربة فى أى مكان من الوطن العربى لا بد أن يشد الرحال إلى القاهرة ليحصل منها على ختم الحصانة وجواز المرور والاعتراف به. وبدون هذا كان من الصعب أن يعرف طريقه للجماهير العربية كلها من أقصى المحيط إلى أقصى الخليج. ولعبت هذا الدور الإذاعة المصرية بشكل أساسى فى ستينيات القرن الماضى وإلى حد ما سبعينياته.
ما زلت أذكر المشهد كأنه جرى بالأمس. عندما دخلت طرقة إدارة الموسيقى والغناء بالإذاعة والتليفزيون لأعبرها إلى مكان فيه سلم أستطيع النزول منه إلى الدور الأرضى حتى أخرج من المبنى. كنت قد قضيت حاجتى فى البرنامج الثانى وقررت الانصراف. خصوصاً أننى كنت بالقوات المسلحة وأحصل على تصريح بالخروج يحسب بالدقائق والساعات. يكتب فيه من ساعة كذا حتى ساعة كذا. ولا بد من العودة للوحدة قبل ساعة النهاية الخاصة بالتصريح.
فجأة وجدت أمامى أم كلثوم "31 ديسمبر 1898 – 3 فبراير 1975" واقفة وحولها جمعٌ من الصحفيين والصحفيات والمعجبين والمعجبات. تتحدث معهم. يسألونها وتجيب. لم يكن الأمر على شكل مؤتمر صحفى من الذى نشاهده فى هذه الأيام. لكنه كان وقفة ربما تمت بالصدفة. أنا لم أعرف ممن يحيطون بأم كلثوم أحدا. لم أكن قد عملت بالمهنة بعد. ولا حتى رأيت أحدا من الواقفين فيما بعد.
توقفت مكانى. لم أتحرك. توقفت حتى أنفاسى. استمعت إلى ما تقوله. كان كلامها عن الغناء الوطنى ووقوف المطرب مع وطنه فى المحن والشدائد. كانت ظلال أكتوبر من قبله ظلال يونيو ما زالت ماثلة. ورغم أن أم كلثوم غنت كثيراً من الغناء العاطفى. إلا أن أهم الأغانى الوطنية فى تاريخنا من غناء أم كلثوم. منذ ثلاثينيات القرن الماضى وحتى رحيلها فى منتصف سبعينيات القرن.
كان صوتها عميقاً. هو نفس الصوت الذى تغنى به. وكان عالياً صداحاً. وكانت لها شخصية آمرة وحضور من نوعٍ خاص. قلت لنفسى إنها تدرك حجم موهبتها. ودور موهبتها وتعتز بذلك. وتتصرف على هذا الأساس. تعرف أن الله سبحانه وتعالى حباها موهبة حقيقية لم يحصل عليها غيرها من مجايليها ولا حتى من أتوا بعدها. ولذلك تتصرف بهذا الاعتزاز بالنفس الذى ربما فسره البعض بعد رحيلها عن عالمنا بالغرور.
مع أن اهتمامها بعملها وتعمقها فى كل بيت شعر قامت بغنائه. ومراجعتها لكل لحن وتغييرها لكلمات كثيرة فى الأبيات الشعرية التى تغنت بها. يؤكد أنها كانت فنانة مجتهدة حتى لحظات عمرها الأخيرة. كانت تعتبر أن دورها هو مبرر وجودها فى الحياة. ظل صوتها الذى استمعت إليه وهى ترد على أسئلة الصحفيين بحزم وحسم يرن فى أذنى سنوات.
بعد ذلك عندما قرأت سيرتها توقفت أمام مشهد فى هذه السيرة يؤكد لى مدى اعتزازها بموهبتها. أى بصوتها. تلك الهبة الربانية النادرة. فى سيرتها أنها عندما فكرت فى إنتاج أول فيلم سينمائى ذهبت إلى اقتصادى مصر الأول محمد طلعت حرب. الرجل الذى بنى أول استوديو سينما فى مصر. وأنشأ أول شركة طيران مصرية. وأول شركة سياحة مصرية. وأول مصنع مصرى للغزل والنسيج.
قابلها طلعت حرب فوراً بمجرد وصولها إلى مكتبه. وعندما استمع لطلبها نادى على سكرتيره الخاص. وكلفه أن يقوم بعمل سلفة مالية بالمبلغ الذى تطلبه الآنسة أم كلثوم لإنتاج فيلم سينمائى. سأله السكرتير سؤالاً وظيفياً حكومياً:
- بأى ضمانة نقدم لها السلفة؟ أنت تعرف يا سيدى أن أى أموال تصرف من البنك – كان يقصد بنك مصر – الذى أسسه ورأسه محمد طلعت حرب. لا بد أن تقدم ضمانات من عقارات أو ممتلكات أو أموال سائلة فى البنك حتى يصرف.
تراجع طلعت حرب للوراء وقال له:
- بضمانة صوتها.
هل هناك بلاغة أكثر مما قاله طلعت حرب؟ إنه نفس الصوت الذى سمعته يتكلم بعد هذه الواقعة. ربما بنصف قرن. وكان هو سرها وعبقريتها.
يمكن القول عنها بدون مبالغة إنها التي أسست الغناء العربي من المحيط إلى الخليج. وأن من قالوا عنها كوكب الشرق كانوا يدركون الدور العظيم الذي قامت به.
في ذلك اللقاء الوحيد رأيتها، وربما لم أتكلم معها لإحساسي في تلك الأيام البعيدة أنني سأراها مرات أخرى كثيرة قادمة. ولكنها لم تعش بعد حرب السادس من أكتوبر أعظم حروبنا جميعاً سوى عامين فقط. ورحلت ولوحت لنا بمناديل الوداع، وتركت لنا الذكريات التي نتنقل بين ذكرى وذكرى، بين لحظة وأخرى.
ليرحمها الله رحمة تصل المسافة بين الأرض والسماء.