رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


أم كلثوم التي أحبها سعيد الطحان

3-2-2025 | 13:18


يسري الفخراني,

لا أتخيل حفلات أم كلثوم بدون صرخة الحاج سعيد الطحان (عظمة على عظمة على عظمة يا ست)، لقد أحببت الست وأنا طفل صغير من نداء هذا الرجل الذي يظهر من بين جمهورها بجلباب بلدي بنصف انحناءة بيد ممدودة وهو يُغازل أم كلثوم وسط شدوها العذب، فتتوقف ثواني بينما آلات الموسيقى خلفها بعضها مستمر في العزف باستسلام، تبتسم لجمهورها وكأنها تعاتبه ليس لأنه قطع اندماجها مع الأغنية لكن لأنه تأخر في هذا الغزل الذي يُلهمها مزيدا من العظمة، حين وَعيت قليلا لاحظت أن هذا الرجل بملامحه الصارمة وشنبه الكث يمثل الطاقة التي يحتاجها الفنان لكي يُضاعف إبداعه أو يصل إلى الذروة، وتأكدت أن أم كلثوم ليست مجرد مطربة ذات صوت جميل وأغنيات بديعة، إنما هي ساحرة تُخبئ في منديلها المدلى من بين أصابعها  شيئا من السحر ما إن تُلقيه على جمهورها حتى تتلقف الإعجاب والآهات، يذوب الجمهور كما تذوب النجوم من السماء إذا اكتمل القمر، كان سعيد الطحان عصا ثومة السحرية ما إن يُنادي على السيدة التي تبتعد عن ميكرفونها  بمسافة تزيد عن متر لكي لا يحترق من قوة وحلاوة صوتها حتى يُسحَر الحاضرون في المسرح وفي الإذاعة في كل مكان في العالم، يصبحون (جميعا) وأم كلثوم على درجة تردد واحد، تصمت يصمتون،تُغني يُحلقون، تميل يميلون، تناشد الله يرفعون أكفهم إلى السماء، تنتظر الإعجاب يرددون خلف سعيد الطحان (عظمة على عظمة على عظمة يا ست) ويتبادلون السجائر المشتعلة كأنهم في حضرة مقام ولّي يشتعلون كسجائرهم وهم يجلسون في مقاعدهم.

يُقال والعهدة على أبي الذي لم يكتف بعشقها لكنه أقام مأتما حين رحلت، أن الرجال والنساء على مدى العالم العربي كانوا يدخرون ليلة الخميس الأول من كل شهر موعد حفلتها المُعتاد لكي يرمموا مشاعرهم في الحب ويقطعوا صمت الخصام بالعتاب مرة وبالاندماج مع أغنياتها مرات، كان حضور سيدة الغناء الأولى يبدو مثل حلقات تدخين الممنوعات عند الطبقات الدنيا يُذهب عقولهم لكنه يُلهب قلوبهم، اختارت أم كلثوم بذكاء ليلة الخميس الأول من كل شهر موعدا لحفلها الساهر منذ منتصف الثلاثينيات وحافظت على هذا الموعد دون أن ينافسها أحد عليه، فهو اليوم الأسعد حظا في حياة المصريين حيث اعتادوا على أن يجعلوا ليلة الخميس ليلة حب، وحيث قَبض الشهر لا يزال كاملا يمثل نوعا من السعادة والأمان للأسرة وبالتالي يوفر أقصي حالات المزاج الرائق للاستماع لصوتها دون ما يعكر أو يشغل العقل. 

تُحجز ليلة الخميس الأول مبكرا، تُلغي الأشغال ويُكتفى بتذكرة للحفل في الأزبكية أو قصر النيل أو النادي الأهلي أو صُحبة أُسر وأصدقاء في بيت حول الراديو العملاق وعشاء فاخر.
في الفلاحين وفي قُرى الصعيد عُرفت ليلة أم كلثوم بليلة سلق البطة السمينة على العشاء كأنه عيد، وفي المُدن كان العشاء مُحاطا باهتمام سيدة البيت مُقدس ودليل وجاهة قبل الوصلة الأولى لأم كلثوم.
لم يُسجل غياب واضح أو انصراف أو تجاهل للمصريين عن حفلات أم كلثوم إلا قليلا خاصة من بعض التيارات التي رأت أن أم كلثوم تُمثل مزاجا لا يمثلها. نوعا من التعالي على فنها أو الخوف منه على مصالحهم وأفكارهم.

نعود إلى الصفوف الأولى في حفلات السيدة أم كلثوم التي كان يحضرها ما يقرب من ألفي من الجمهور حسب ما يحتمل مكان حفلتها، لنرى جمهور مازال يُضرب به المثل في الأناقة والرُقي والهيام بالست وأغنياتها، هذا الجمهور بلا شك كان جزءا من المصريين ولا يمثل كل المصريين لكن وجود هذا الجمهور كان انعكاس لقدرة المواطن المصري البسيط والطبقة المتوسطة والغنية على الاستمتاع بالفن الراقي والاندماج في طبقة واحدة أنيقة مُهندمة رائقة متصالحة مُحبة للحياة، وعندما بدأ التليفزيون يُسجل حفلات أم كلثوم بداية الستينيات وتنتشر بأغانيها صوتا وصورة بدا هذا نوعا من نشر ثقافة الرُقي في بيوت المصريين، ومن امتلك جهاز تليفزيون أصبح يُتابع أم كلثوم وجمهور أم كلثوم، فحدث نوع من رغبة الجمهور العريض أن يكون بملامح وأناقة الجمهور الخاص الذي يحضر حفلاتها، وبلا شك تأثرت ملايين السيدات وملايين الرجال على الأقل بما يرتديه الجمهور وما ترتديه أم كلثوم شخصيا، فأصبح الخياطين والخياطوت يستقبلون زبائن يرغبون في تفصيل هذه الملابس، ولدى آلاف البيوت صندوق صور أو صور مُعلقة على الحائط لآباء وأمهات ورجال وسيدات لهم ولهن نفس ملامح جمهور الست.

هنا تبدو عبقرية تأثير أم كلثوم وحفلاتها التي كانت حُلما لمن استطاع الحضور ولمن لم يحضر، وامتد تأثيرها حتي لأماكن فقيرة ألقت فيها جزءاً من ثقافتها على سكانها ولو بمجرد الحلم، كانت لأم كلثوم تذكرة بجنيهين وتذكرة بمائة، لذلك امتلك الموظف البسيط قدرة على توفير خمسة جنيهات لاصطحاب زوجته ولو مرة إلى حفل أم كلثوم في مسرح قصر النيل مع العشاء في كبابجي الألفي في وسط البلد في ليلة لا تُنسى والعودة إلى المنزل في سيارة أجرة.

كان سعيد الطحان تاجراً ثرياً من طنطا وكما يبدو من اسمه يمتلك مخازن حبوب ومطاحن لها، وقد بدأ ولهه بأم كلثوم من زمن سبق حضوره حفلاتها بانتظام مدهش، فقد تشجع وحضر بجلبابه الشهير الثمين إلى حفلها في قصر النيل وكان الوحيد بين حضورها المُطرز بالبدل الفاخرة والفساتين المُدلة على بعضها الألماس الذي سمح لنفسه بشجاعة وسُمح له الحضور بالجلباب، لكنه لم يمتلك شجاعة التعبير عن نفسه وانسجامه التام وهيامه الحقيقي بالست وأغانيها إلا بعد حضوره الأول بحفلتين حيث انطلق حُرا على فطرته يناجيها بعبارة منحوتة من أصالة مجتمع الفلاحين حين ينشدون الجمال فهتف بالعبارة التي أصبحت صك عُملة لأم كلثوم وحدها (عظمة على عظمة على عظمة يا ست) وتلاحظ أنه نغمها ومدها وجعلها جملة موسيقية لا نشاز فيها مع أغاني أم كلثوم إذا تقاطعت معها، إن أم كلثوم بحسها الفني أو عبد الوهاب بقدرته الموسيقية أو بليغ والسنباطي والموجي والقصبجي بعبقريتهم الفذة ما كانوا يختارون أجمل ولا أرقى ولا أنظم منها جملة تُعبر عن محبة خالصة لها.

صاغ جمهور الست إجمالا مزاجها العام، ومنحها قوة على قوة لكي تجتاز رحلتها من قرية طماي الزهايرة إلى القاهرة إلى العالم، من هذه الصُحبة الصغيرة التي كانت تستمع لها في دوار ملاصق للغيطان في الأفراح وليالي الموالد حيث تُحيا، مرورا بالملك فؤاد الذي أحب صوتها على الرغم من ضعف قدرته على فهم اللغة العربية لكنها كانت تُشجيه، حتى اقتنصت لقبها ووسامها الأهم نيشان الكمال من الملك فاروق في ليلة عيد بالنادي الأهلي حين غيرت كلمة من كلمات أغنيتها حال تشريفه فشدت له (يعيش فاروق ويتهنى ونحيي له ليالي العيد)، إلى جمال عبد الناصر المفتون بها كنجمة ملء السمع والبصر مستمعا لحفلاتها كمعجب لا يستهان به إلى أنور السادات الذي كان في أوقات كثيرة وسيطها في مجلس قيادة الثورة ومن بعدها ترك لها مساحة لتناديه وهو رئيس دولة باسمه مجردا أنور حتى لو أغضب ذلك السيدة الأولى جيهان السادات الذي وجدت أن لقب السيدة من حقها الأول.

ولابد أن نقف عُمرا كاملا احتراما لسيدة الغناء التي استطاعت وحدها توحيد جمهورها من كل الطبقات، اجتمع عندها الفقير والغني والخفير والرئيس والملك (وأغلب الملوك في العالم العربي كانوا أصدقاء لها يمدون روابط هذه العلاقة بشكل جيد عبر لقاءات مباشرة أو بواسطة سفرائهم في مصر)، كما يُشهد لها أنها وحدت العالم العربي ليلة الخميس يوم كان عشرين دولة ومائتي مليون عربي. وتولت إذاعة صوت العرب نقل حفلاتها ووصفها وإعدادها وإعادتها لكل جهاز راديو من المغرب العربي حتى حدود الخليج العربي، مليون جهاز راديو ضخم كان يهتز ويرق وينقل صوت الست على الهواء مباشرة وكان يُسمع صوتها على أطراف جنوب أوروبا، فكان الجريك والطلاينة والقبارصة الذين عاشوا أو مروا من مصر ينتظرون حفلها يوم الخميس الأول من كل شهر بنفس الشغف.

استمرت حفلات الخميس لأم كلثوم حتى كان حفلها الأخير في 17 نوفمبر 1972، غنت يومها للأستاذ عبد الوهاب (ليلة حب) وكان قد خلف عاداته بالانصراف من الحفل بعد المقطوعة الموسيقية التي تمثل المقدمة، وتسمر في الكواليس علي شمال أم كلثوم وهي تغني، وقد أيقن ليلتها أن ثمة وَهن قد مر على حنجرة أم كلثوم، وقد رأوا بعض شهود الحفل دموعاً في عينيه وهو يتمسك بالستار مستندا عليه من دوار مسه، ووسط الجمهور لم يكن حاضرا سعيد الطحان والحقيقة لم يكن كثيرا من جمهور أم كلثوم الحقيقي حاضرا ليلتها كأنها تُغني لجمهور زمن آخر، كان الطحان قد مَرّض ويُقال إنه أفلس وظل طريح الفراش، وعندما سألت أم كلثوم عن سر غيابه وأخبروها زارته في بيته في طنطا وقد سبقتها هدية خاصة منها، كان راديو ماركة فيليبس حديث، بكت أم كلثوم حين رأت ضعفه وقد بدى هزيلا للغاية، قالت له إن الراديو ليسمعها في كل وقت من غرفته  ومنحته دعوة مجانية ليحضر حفلاتها في الصف الأول مدي الحياة، ولم تنس قبل أن تُغادر أن تقدم له مظروفا مُغلقا اكتشف بعد انصرافها أنه عقد قطعة أرض كان قد اضطر لبيعها فأعادتها إليه . بكى الطحان بكاء مُرا، واستعاد شريطا من ذكرياته مع حفلات أم كلثوم التي دامت أكثر من خمسة وثلاثين عاما، ولم تمض أيام حتى توفي الطحان وكُتب خبر صغير عن وفاة معجب أم كلثوم الأول في جريدة الأهرام لكن لم يلتفت له أحد حيث كانت مصر في أوج معارك نصر أكتوبر .

وكلما استمعت إلي تسجيل حفل (ليلة حب) تمنيت لو لصقت بالشريط الأصلي صوت الطحان وهو يهتف (عظمة على عظمة على عظمة يا ست)، ويصفق الحضور للسيدة التي تستحق كل عظمة، قبل أن يتبعها صوت الطحان من جديد مجلجلا (تاني والنبي يا ست ده أنا جايلك من طنطا)، فتبتسم فالود موصول والغَزّل مسموح والإعادة للست عِز الطلب والسلطنة.