رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


أم كلثوم.. وتطوير فن الغناء

3-2-2025 | 13:11


د. ياسر ثابت,

صنَعَتْ أم كلثوم لنفسها كوكبًا خاصًّا ووضعتنا جميعًا في كوكبها.

تغني بانكسار أو تترنم بكبرياء. تعطي الكلمات صفة الأنين، وتخترع صوتًا يحتوينا، وتمنحنا أذنًا ثالثة.

تحمل النّون بحنجرتها مثل وترٍ ما، وهذا ما كتب عنه محمود عوض في ما بعد مقالًا سمّاه «النّون المغنّاة».

في العناق المتخيّل، والحسرة النادمة، تهيئ روحك للصيد في غابة الحُبِّ المتوهج. عناقٌ طويل، تسقط بعده الحياة.

أخذتْ أم كلثوم موهبتَها مأخذ الجِدِّ بقدرٍ من الصرامة والإحسان؛ لتُجسِّد في المخيلة الشعبية حلم رقي الوطن بقدر كبير من الاكتمال الإنساني: الفلاحة المصرية الفقيرة تخرج من أعماق القرية في مفتتح القرن العشرين، فتظهر مُربِّتة على كتف أبي الهول في تمثال مختار، قبل أن يصدح صوتُها متحررًا طليقًا في صعوده في سماء الفن ليصبح «كوكب الشرق».

في رحلة صناعة اسم أم كلثوم، انتقلت من كونها فتاة ريفية مقنّعة في زي ولد إلى فتاة مدينية لديها جيش من الموسيقيين والوكلاء والمحامين. في 6 ديسمبر من العام 1922 كان حفلها الجماهيري الأول، وفي 7 ديسمبر 1972 كان حفلها الأخير، أي أننا أمام خمسين عامًا متصلة لم تغادر خلالها أم كلثوم خشبة المسرح تصدح بصوتها وتطرب جمهورها. 

استغلت أم كلثوم الإقبال على حفلاتها حتى ترفع أجرها، وحين وقعت عقدًا مع شركة «أوديون» عام 1926 جعلت مدير الشركة اليهودي ألبرت ليفي يراهن عليها ويدفع لها خمسة أمثال أجر محمد عبد الوهاب وبما يعادل 2.5 مثل أجر الشيخ سلامة حجازي، ليربح ليفي الرهان ويبيع 15000 أسطوانة لأم كلثوم في ثلاثة شهور، فاستغلت الأمر حتى توقع بضعف الأجر مع شركة «جرامافون» لصاحبها منصور عوض. وحين تفاوضت على أجرها في فيلم «وداد» 1936 طلبت أجرًا يوازي سُبع ميزانية الفيلم وقدره ألف جنيه، واشترطت ألا تزيد الميزانية عن سبعة آلاف جنيه بعد أن حسبت العائدات المتوقعة التي طالبت بـ40 بالمائة منها.

أنعم عليها الملك فاروق بوسام الكمال ونالت لقب «صاحبة العصمة» في 17 سبتمبر 1944، بعد أن تغنت باسم فاروق في إطار أغنية «يا ليلة العيد آنستينا» خلال إحيائها حفلًا في حديقة النادي الأهلي.

في دراسته القيّمة عن صوت أم كلثوم، يقول المايسترو سليم سحاب: «إنه صوت يتميز بست خصائص فريدة تجعل منه ظاهرة لا يمكن تكرارها: أولاها مساحته العريضة؛ إذ يغطي صوتها ديوانين كاملين وهو أمر نادر في أصوات المطربات في العالم.. وثانيتها: التملك من الصوت، فهي تستطيع أن تؤدي بسهولة جملًا غنائية صعبة للغاية بزخرف صوتي يصل إلى حد الإعجاز.. وثالثتها: قوة الصوت، فالغناء المعتمد على الحجاب الحاجز في أسفل الرئتين يجعل ضغط الهواء في الحنجرة مساويًا مرتين ونصف المرة للضغط الجوي، أما غناؤها فكان يعتمد على حنجرتها ولهذا السبب كانت تبتعد عن الميكروفون أكثر من متر في حفلاتها حتى لا تحترق ذرات الكربون فيه، فإذا ارتفعت نبرة الغناء ابتعدت أكثر، وهذه الفصيلة الصوتية انقرضت الآن.. ورابع الخصائص: هي القوة البدنية، فقد كان في إمكانها أن تغني لمدة أربع ساعات متواصلة، في حين أن أطول مدة يمكن أن يغنيها مطربو الأوبرا العالميون لا تتجاوز 40 دقيقة فقط. وخامستها: طول العمر الغنائي لصوتها، حيث بدأت الغناء منذ أن كانت طفلة واستمرت حتى سن الثالثة والسبعين، أي ما يزيد على 60 سنة كاملة، وليس في تاريخ الغناء ظاهرة مماثلة أو حتى مقاربة.. وسادستها: دقة الصوت، وقد أجريت عام 1975 تجارب إلكترونية لقياس نسبة النشاز في الأصوات المصرية المعروفة وأظهرت الأجهزة الحساسة أن دقة صوت أم كلثوم بلغت واحدًا على الألف من الطنين..».

ويمكن القول «إن أم كلثوم تأخذ اللحن فتُكَلْثِمه»، كما يقول الموسيقار محمد عبد الوهاب.

غير أن جمالها ليس محض طلاوة صوت لامع كعين الشمس أو حُسن أداء، وهو ليس مجرد قدرة استثنائية على الارتجال، والسباحةِ بين المقامات، وانتقاءِ الزخارف الصوتية في مواضعها. إنما جمالها الملهِم حقًا هو مشروعٌ نهضوي كامل يقوم على استبطان روافد الثقافة المصرية الأصيلة في سريانها بين قلاع الوجدان العربي الراسخة. هو استرجاع الموروث التليد من ألحان القصور العباسية، ومجالس الغناء والطرب الأندلسية المزدهرة قبل حروب الاسترداد ومحاكم التفتيش، ذلك الموروث المعتّق الذي احتفظتْ به ذاكرةُ الطرق الصوفية وعادت تبثه في تنويعاتٍ جديدة خلّاقة، طـبـَّعت الغناءَ بطابع الحنان، وأعادته إلى أصله كسبب لترقيق القلوب، وتطهير الأرواح، واستنهاض الهمم، ثم أشاعته في سرادقات المدائح النبوية وفي حلقات الذكر في القرى وفي الأحياء الشعبية، حيث كانت هي في الانتظار، تلتقط أذنُها تلك الثروة وتتهيأ للخروج عليها بثورة.

نجحت أم كلثوم -بالتعاون مع كوكبة من فرسان الكلمة واللحن- في المزج بين ثروة هذا الموروث التقليدي العريق وبين روح الثورة المجددة للمعاني والألحان والقيم الاجتماعية، الصائغة لحداثة نابتة من تراب الأرض المصرية الطينية الخصبة المرويَّة بمياه النيل العظيم. حداثةٌ تُـبدد حالة الانفصام التام عن الهوية التي سادت عند مفتتح القرن العشرين قبيل بزوغ نجمها، حين تسيَّـدَتْ الساحةَ الفنيةَ حالةٌ من الاضمحلال والسوقية في المعاني والألحان استتبعها الاستعمارُ البريطاني في ركابه.

شاركت أم كلثوم في تطوير فن الغناء من الإنشاد بلا موسيقى إلى الغناء في إطار التخت الشرقي.. إلى الغناء في إطار الأوركسترا.

كما ساهمت في ترقية كلمات الغناء بانتقاء شعر الفصحى الراقي وشعر العامية الرفيع لأحمد رامي وبيرم التونسي. وبانتقاء الكلمات والمعاني السامية، نقلت أم كلثوم الغناء من الهامش اللاهي والعابث إلى قلب المجتمع، بما أكسبها الاحترام في الوسط العام والأوساط الخاصة، وبما أحاط فن الغناء نفسه بالتقدير في المجتمع.

في سياقها الزمني، استطاعت أم كلثوم تغيير النظرة المجتمعية للمرأة المطربة، فبعدما كانت المطربة امرأة لعوبًا تغني للرجل، وتطلب أن «يرخي الستارة» أو «بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة» أو «على سرير النوم دلعني»، صارت الموجة الغنائية التي قادتها وغلبت عليها أم كلثوم هي الغناء للحُب وتساؤلاته، وتحوَّلت فيه المرأة إلى نموذج للمرأة القوية المحبة غير الخاضعة لرغبات الرجل، ففي خياراتها الغنائية تمثّلت نموذج المرأة المحبة، القوية، غير الخاضعة، في عدة أغنيات مثل «ما تصبرنيش بوعود وكلام معسول وعهود، أنا ياما صبرت زمان، على نار وعذاب وهوان، وأهي غلطة ومش حتعود»، أو المرأة المتحدية لحبيبها، مثلما كانت في «مادام تحب بتنكر ليه»، إلا أنها أيضًا أظهرت نبرة القهر في بعض أغنياتها الأخرى مثل «يا ظالمني».

تتناول الباحثة الفرنسية ميريي تييش- لوبيه «الحُب في أغاني أم كلثوم»، وتشير إلى أن موضوع الفراق و«بكاء الأطلال» -الذي تعود جذوره إلى تقاليد الشعر الجاهلي- كان أشبه بمكون رئيسي تعمق واتسع استخدامه في أغاني أم كلثوم، وتعتقد تييش- لوبيه أن النسيب (النَّسِـيبُ هو: رَقيقُ الشِّعْر في النساءِ) الذي انعزل عن القصيدة وتراجع لحساب التعبير عن ألم الفراق قد ولّـد ما يمكن أن نسميه «أغنية المعاناة». ورأت أن ما قدَّمته أم كلثوم في قصائدها المغناة ليس مجرد إعادة إنتاج لذلك الإرث التقليدي، بل هو صياغة جديدة لتلك القوالب الجامدة لتقديمها بأسلوب أكثر مرونة.

تمثل أغاني أم كلثوم العاطفية نحو 78 بالمائة من رصيدها الغنائي، من بينها 80 أغنية تدور حول موضوع فراق الأحبة و«بكاء الأطلال» (بمعنى آخر 35.5 بالمائة من مجمل الأغاني العاطفية) و46 منها هي محور دراسة تييش- لوبيه. برغم تعددية موضوعات أعمال أم كلثوم فإن الباحثة الفرنسية تشير إلى اتجاهين غالبين على موضوع الفراق في مجمل أعمالها، بل وفي تاريخ الغناء المصري عمومًا: فراق يشوبه اليأس والاستسلام لمحبوب قاس ظالم يخضع له المحب في ذل وألم، فتكون «ثومة» هنا هي «الضحية». وفراق يصحبه شعور بالسلوان أو التمرد، وفيه يكون على المحبوب ذي القلب القاسي أن يدرك ويلات الفراق، وهنا تكون أم كلثوم «الثورية».

يعد الاتجاه الأول هو الغالب على معظم أغاني «سيدة الغناء العربي» (31 من 46 قصيدة) وهو واضح في مشوارها الفني منذ الثلاثينيات حتى الستينيات. أما الاتجاه الثاني فيغلب على موضوعات 15 من القصائد الأخرى موضوع البحث، ست منها في الستينيات والسبعينيات. كتب رامي من بينها ست قصائد، وبيرم التونسي اثنتين، أما البقية فهي موزعة بين شعراء الجيل التالي.
خرجت أم كلثوم عن اللحن في كثيرٍ من أغانيها، ليتفرّد صوتها في التطريب والتطويل، واستعراض قوته الاستثنائية، تاركةً فرقتها الموسيقية في حالة توقفٍ عن العزف، وتستعد للحاق بصوتها الخارق، حين تقرّر الست أن تعود إلى النوتة، وتكمل مع الفرقة باقي الحفلة. 

هذه الفرائد أو «التفاريد»، في الأغلب، خاصة بأم كلثوم، ليس لأنها الوحيدة من المطربين العرب التي كانت تخرج عن النوتة، تاركة لصوتها أن يحلق وحده، بل لأنه لم يوجد صوت عربي أو غيره يمكنه أن يحلّ مكان فرقةٍ موسيقيةٍ كاملة، في حفل جماهيري، على مسرح كبير، من دون أي نشاز أو خروج عن المقام، بل بقدرةٍ مذهلةٍ على التنقل بين المقامات، ثم العودة إلى المقام الأصلي، من دون أن يشعر أحد بذلك، ليس فقط لأن صوتها كان مدرّبًا على هذا النوع من التنقل، بل لأن لصوتها خاصية السيطرة والسلطة والهيمنة الآسرة، التي تنتقل إلى مستمعيها، ليس فقط في المسرح، حيث يستمعون إليها مباشرةً، بل عبر وسائط التسجيل المختلفة، قديمها وحديثها.

لم تكن أم كلثوم المرأة الأولى التي تؤدي القوالب الموسيقيّة العالمة التي يفترض أنّها كانت قبلها حكرًا على الرجال. فمنيرة المهديّة مثلًا قدَّمت إلى جانب طقاطيقها المشهورة ومسرحها أدوارًا وقصائد موقعة، وذلك أرقى وأعقد فنون الموسيقى المصريّة العالمة. غير أن تميّز أم كلثوم يأتّى من أنّها أول امرأة تؤدّي الغناء الدنيوي بعد أن تُدرّب موسيقيًّا على الفنون الدينيّة، وبالتحديد: التواشيح والمدائح. ويعني ذلك أنّها كانت قادرة على استدخال تقنيات وجماليات فن الإنشاد كما عرفته الدلتا المصرية إلى فنون الغناء الدنيوي، في حين أن العوالم الأخريات أتين من عالم الغناء الخفيف حتى وإن قمن أحيانًا بتأدية غناء أكثر تعقيدًا، بكفاءة.