رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


إبداع لن يجود الزمان بمثله

3-2-2025 | 12:58


شوقى بدر يوسف

شوقى بدر يوسف

 عندما وقفت أم كلثوم يومى 13 و15 نوفمبر 1967 على مسرح «أوليمبيا» فى مدينة النور «باريس» فى حفلتيها الشهيرتين بعد ستة أشهر من نكسة يونيو 67 فى حشد غير مسبوق من مستمعى فنها الغنائى من جميع أنحاء العالم فى هذا المناسبة الفنية الكبيرة، كان من بينهم الملك حسين بن طلال ملك الأردن، الذى كان موجودا فى باريس فى ذلك الوقت، مع عدد من سفراء الدول العربية المعتمدين، أما الجمهور العربى والأجنبى الذى حضر فحدث ولا حرج، جمهور كبير من جميع الأنحاء حضر هذه الحفلة الغنائية التاريخية، وكان حضور هذا الحشد الكبير إيذانا بأن العالمية قد طالت شدو أم كلثوم وفنها الأصيل، وأن أم كلثوم تربعت على العرش الذى تربعت عليه "أديث بياف" مطربة فرنسا الأولى، وغيرها من مطربى وفنانى أوروبا الكبار، وكان غناء أم كلثوم لروائعها على خشبة مسرح أوليمبيا حدثا تاريخيا لا زالت أصداؤه حاضرة حتى الآن فى تسجيلات هاتين الحفلتين، ولا زالت إذاعتها تعاد بين الحين والحين. غنت فى حفلة يوم 13 نوفمبر "أنت عمرى"، و"الأطلال"، و"بعيد عنك"، وفى حفلة يوم 15 "أمل حياتى"، و"الأطلال"، و"فات الميعاد".

أى أن قصيدة "الأطلال" احتلت مكانتها الكبيرة فى الحفلتين، وعقب انتهاء الحفل فوجئت أم كلثوم ببرقية تصلها من شارل ديجول رئيس جمهورية فرنسا آنذاك يقول فيها ": أيتها الفنانة العظيمة.. مرحبا بك فى فرنسا.. حققتى نجاحا عظيما، وأنت تقدمين فنا راقيا.. وتقاليد فنية لها أصول وجذور تاريخية..ونحن نرحب بك فى بلدنا". وبدأت وسائل الإعلام فى كل مكان تتناول هذا الحدث الفنى التاريخى على مسرح مدينة النور فى باريس، و بدأ العالم يعى هذا الحضور الكبير لهذا القامة الفنية المصرية الكبيرة القادمة من قرية صغيرة فى ريف مصر اسمها "طماى الزهايرة" لتقول كلمتها فى أكبر مسارح العالم الذى اعتلاه مشاهير الفن من كل مكان فى العالم فى هذا الوقت بالذات، وهو الوقت الذى كانت فيه أم كلثوم تبحث لوطنها مصر عن طريق يرد له اعتباره عقب نكسة 1967 مباشرة، ووقوفها بهذا الشموخ، والحضور القوى فى عاصمة النور لتضئ الطريق إلى صوت مصر ليمهد بقوة شخصيتها الفنية التى تمتلك منها طاقة مصرية كبيرة نحو استعادة المجهود الحربى الذى وجدت فيه ضالتها لمآزرة وطنها وشعبها وأرضها الجريحة فى ذلك الوقت.

ولا شك أن هذا الطريق الذى سعت إليه أم كلثوم بذكائها الخاص، وحدسها الذى شكل شخصيتها، وجبلة طبيعتها طوال سنوات عمرها المديد. فى إقامة هذا الحفل الكبير والذهاب إلى مناصرى العدو فى عقر دارهم وإقامة هذا الحفل دعما للمجهود الحربى المصرى هو المقاومة بأجل معانيها استخدمت فيه أم كلثوم فنها وعبقريتها التى حباها بها الله، وقد أقامت أم كلثوم على مسرح أوليمبيا حفلتين استمع إليها فى هذا اللقاء حشد كبير من المستمعين، وأنبهر به كل من حضر الحفلتين، وكل من استمع إليها عن طريق الأثير، جاء هذا الحشد الكبير من كل مكان فى العالم ليسمع أبنة مصر وكوكب الشرق وهى تردد هذا النداء الشعرى الوثاب فى قصيدتها العاطفية "الأطلال" التى تغنت بها فى الحفلتين: "أعطنى حريتى أطلق يديا" والتى كانت تغنيها بكل وطنية جوارحها، وبكل ما تحمله المعانى الحاضرة فيها، وبكل ما تستطيع من قوة، لإذابة كل ما يتعلق بهذه المرحلة من شوائب فرضها هذا العدوان البغيض على وطنها.

وكانت قصيدة "الأطلال" نفسها على الرغم من عفوية أدائها كقصيدة عاطفية فى هذا اللقاء غير المسبوق على أرض فرنسا، وفى أكبر مسارح أوروبا على الإطلاق تشير إلى أن القصيدة العربية بصوت أم كلثوم هو حدث، حدث كبير غير عادى لا يعرفه سوى العارفين بجماليات الكلمة العربية الحاملة لمواطن العاطفة الجياشة والصدق الفنى فى هذا الطقس الغنائى الجمالى بكل ما فى الكلمة من معنى. من هنا، من العربية الفصحى التى غنتها أم كلثوم، وما حملته قصيدة "الأطلال" الذى لحنها السنباطى، وترددت فى حفلتين متعاقبتين فى مسرح "الأوليمبيا" الكبير نعود إلى الوراء فى مسيرة أم كلثوم الغنائية الفنية للوقوف على القصيدة الغنائية فى حياتها الفنية والغنائية، ونتعرف على هذا المشوار الفنى الكبير الذى تبلورت فيه فن القصيدة فى الغناء الكلثومى كيف كان؟ وكيف أصبح؟.

أم كلثوم والقصيدة

لا شك أن غناء "أم كلثوم" للقصيدة الشعرية له مذاقه الخاص فى التعبير الغنائى القادر على الدخول إلى القلب والعقل معا، فالنبض العاطفى والفلسفى فى تعبير الفصحى يتواصل بسرعة فى صوتها منغما شجيا ليصل إلى القلب، ومن ثم يحمل معه المعنى المجازى للكلمات العربية فى لغتها العربية الأصيلة لتتغلغل فى ثنايا العقل، وهى فى حالة موسيقية تراوح القلب والعقل معا. فقد غنت أم كلثوم أشكال غنائية معروفة وهى: الدور، والطقطوقة، والموال، والموشح، والمونولوج، ثم القصيدة الشعرية، وقد فطنت إلى خاصية كل نوع من هذه الأشكال الموسيقية المتنوعة إلا إنها منذ مقابلتها للشيخ أبو العلا محمد، وسمعت منه قالب القصيدة بهذه الأنغام الساحرة فطنت إلى أن اللغة العربية الفصحى لها سحرها الخاص فى الطرب والتنغيم، وأن اختيار الكلمات العذبة المنغمة بالموسيقى الشجية النابعة من اللفظ والحاملة للمعنى الراقى فى التعبير وتآلفهما ليصلا معا إلى القلب والعقل من أقصر الطرق، من هنا سارت أم كلثوم وعادت إلى ما تعلمته من أبيها الشيخ إبراهيم البلتاجى فى بداياتها ثم من الشيخ أبو العلا محمد كشكل فنى لا بد من توافقه فى مشوارها الفنى فى مجال الغناء وهو غناء القصيدة العربية، وقد قيض لها الله كل من الشيخ أبو العلا محمد، والشاعر أحمد رامى، ثم أمير الشعراء أحمد شوقى الذين ساهموا جميعا فى هذه النقلة النوعية فى غناء أم كلثوم للقصيدة الشعرية الخالصة.

البدايات كانت البدايات الأولى لغناء أم كلثوم للقصيدة الشعرية فى مراحلها المبكرة حينما كانت تخرج مع أبيها فى الحفلات الخاصة، لتغنى القصائد والتواشيح الدينية التى يعشقها الناس فى تلك المرحلة، لكن البداية الحقيقية لاهتمام أم كلثوم بغناء القصائد فى شعر الفصحى كان من خلال تأثرها بأستاذها الشيخ أبو العلا محمد كما ذكرنا، وكانت قصائد الشيخ أبو العلا قد لحنها قبل أن تغنيها أم كلثوم بفترة طويلة، وبعض منها مسجل على أسطوانات كانت أم كلثوم كثيرا ما كانت تسمعه من فونوغراف العمدة، نستثنى منها قصيدة أحمد رامى "الصب تفضحه عيونه" التى لحنها الشيخ أبو العلا خصيصا لأم كلثوم وشدت بها على الأرجح عام 1924، قبل عودة أحمد رامى من باريس، ووقوعه أسير صوتها، كما تعتبر قصيدة "وحقك أنت المنى والطلب" أيضا من أشهر القصائد التى لحنها الشيخ أبو العلا محمد لأم كلثوم، وشدت بها أيضا فى بداياتها، وهى من نظم الشيخ عبد الله الشبراوى شيخ الأزهر فى عصره، وجاءت القصيدة فى ستة عشر بيتا، وتتسم بجزالة اللفظ وقوة التعبير وهى من عيون شعر الغزل القابل للغناء.

الشدو القديم تنقسم مرحلة غناء القصائد عند أم كلثوم إلى مرحلتين: الأولى وهى الخاصة بالشعر العربى القديم الذى كان زادها التعليمى فى بداياتها الأولى خاصة عندما غنت قصيدة "أراك عصى الدمع" للشاعر أبو فراس الحمدانى وهو من شعراء العصر العباسى وكانت هذه التجربة من أوائل بدايات أم كلثوم أصالة وحيوية فى غنائها لقصائد الشعر العربى، وهى القصيدة التى سمعتها من أستاذها الشيخ أبو العلا محمد، وكانت تقلده فيها من فرط إعجابها بهذا اللون من الغناء من أستاذها ومثلها الأعلى، وهى فى الأصل من ألحان عبده الحامولى، وقد سجلها الشيخ أبو العلا على أسطوانات وقامت أم كلثوم بغنائها عام 1926، وهى مكونة من ستة أبيات فقط، كما قام الشيخ زكريا أحمد بإعادة تلحينها مرة أخرى عام 1944 وغنتها أم كلثوم إلا أنها لم تسجل على أسطوانات، وسبق أن غناها بواسطة عديد من المطربين بألحان مختلفة، ونظرا لشهرة هذه القصيدة فى نظمها وغنائها ومذاقها الخاص فقد قام الموسيقار المجدد رياض السنباطى بوضع لحنا ثالثا لهذه القصيدة قامت أم كثوم بغنائها فى حفلة أقيمت يوم الخميس الموافق 3 ديسمبر 1964 بعد أن أضافت إليها أبياتا أخرى من القصيدة.

وقد أبدع السنباطى فى لحنها استخدم لها صوت آلة البيانو الغربية فى خطوة غير مسبوقة فى ألحان القصائد، وتاريخ هذه القصيدة مع أم كلثوم من الأهمية بمكان نظرا لعنصر البدايات عندها، وقوة النص فى سبك نظمه ومعانيه، وأهمية تاريخ الشاعر وقد أشار لها كل من أرخ لهذا الجانب الأصيل فى مسيرة أم كلثوم وهو جانب غناء الشعر العربى الأصيل خاصة فى بداياتها الأولى. وكانت هذه القصيدة فاتحة خير لغناء أم كلثوم للعديد من الشعراء العرب فى عصورهم المختلفة، وكانت أبياتها التى تغنت بها أم كلثوم هى: أراك عصى الدمع شيمتك الصر أما للهوى عليك نهى ولا أمــر نعم أنا مشتاق وعندى لوعـــــــــــــــة ولكن مثلى لا يذاع له ســــــــــــر إذا الليل أضوانى بسط يد الهوى وأذللت دمعا من خلائقه الكبر تكاد تضى النار بين جوانحــــــــى إذا هى أذكتها الصبابة والفكر معللتى بالوصل والموت دونــــــــه إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر وقالت لقد أغرى بك الدهر بعدنا فقلت معاذ الله بل أنت لا الدهر كما أختارت أم كلثوم من قصائد الشاعر الفارسى عمر الخيام "رباعياته" التى تعد أشهر أعماله الشعرية والتى نقلها أحمد رامى للعربية شعرا ثم لحنها رياض السنباطى، وغنتها أم كلثوم كما لم تغن من قبل، ولكونها تتألف من مقاطع رباعية صغيرة فى كل مقطع قافية خاصة به، سميت بـ "رباعيات الخيام"، وهى تختلف عن القصيدة التقليدية من حيث عدم التقيد بقافية واحدة، ومن أسرار نجاح هذه القصيدة غنائيا أنها مليئة بالحكمة وفلسفة الحياة وقد حقق غناؤها فى مسيرة أم كلثوم نجاحا باهرا. وقد شدت بها أم كلثوم لأول مرة عام 1949 بعد عام واحد فقط من حرب فلسطين، ومن أبياتها:

سمعت صــوتا هاتفا فى السحر نادى من الغيب غفاة البشر هيا املأوا كـأس المنى قبل أن تملأ كأس العمر كف القدر لا تشغل البال بماضى الزمان ولا يأتى العيش قبل الأوان وأغنم من الحاضر لذاتـــه فليس فى طبع الليالـى الأمان كما كان لأم كلثوم تجارب أخرى مع قصائد كبار الشعراء العرب الذين ظهروا خلال العصر العباسى الأول والثانى أمثال الشريف الرضى الذى غنت له بعض أبيات من قصيدته "أيها المجد الرائح تحّمل" بلحن الشيخ زكريا أحمد فى فيلم "دنانير" عام 1935، وكذلك الشاعر العباسى العباس بن الأحنف الذى غنت له جزءا من قصيدته "يا بعيد الدار" من ألحان محمد القصبجى فى فيلم "نشيد الأمل" الذى وضع قصته على أحمد باكثير، كما غنت لصفى الدين الحلى قصيدة "مثل الغزال نظرة" من ألحان أبو العلا محمد عام1931، وقصيدة "أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا" لابن النبيه المصرى، وهى أيضا من ألحان الشيخ أبو العلا.

وفى عام 1931 غنت من ألحان الشيخ أبو العلا قصيدة "أكذّب نفسى" للشاعر الصعلوك ابن النطاح الحنفى، الملقب بأبى وائل وهو من شعراء العصر العباسى، وتمثل هذه القصيدة خاتمة المرحلة الأولى من المراحل الفنية التى غنت فيها أم كلثوم قصائد الشعراء من العصور القديمة. أم كلثوم وشعر شوقى بدأت أم كلثوم غناءها للشعر العربى الحديث بالقصائد الدينية لأمير الشعراء أحمد شوقى بعد رحيله ولم تغنى له حال حياته بسبب تبنى أمير الشعراء لمطربه الأثير محمد عبد الوهاب المنافس الشرس لكوكب الشرق داخل عقل وقلب أمير الشعراء فى ذلك الوقت، وتمثل ما غنته أم كلثوم من شعر شوقى حالة خاصة ومنطقة لها خصوصيتها فى غناء الشعر، نالت مكانة كبيرة فى مجال السميعة، فى مرحلة من أهم مراحل غناء القصيدة الشعرية فى مسيرة أم كلثوم الفنية.

وقد ذكرت أم كلثوم أنها التقت بـ شوقى فى أواخر أيامه، وكانت أول مرة تراه فى كلوب "سولت" المجاور لمحلات شيكوريل بشارع فؤاد، وكان معه النقراشى باشا والدكتور محجوب ثابت، وقد دعاها للغناء فى فيلته "كرمة ابن هانئ" وذهبت مع والدها وشقيقها خالد، وغنت أم كثوم فى هذه الليلة غناء لم تغنه من قبل فرحا واحتفالا بشخص أمير الشعراء أحمد شوقى الذى رأته يتمايل طربا من غنائها، وفى أحد الأيام زارها أمير الشعراء فى منزلها، وأعطاها مظروفا وقال لها: "هذه هدية متواضعة تعبّر عن إعجابى، إنها من وحيك". وفتحت المظروف لتجد به قصيدة مطلعها : سلو كؤوس الطلى هل لامست فاها واستنجدوا الراح هل مست محياها وغنت أم كلثوم هذه القصيدة بعد رحيل شوقى فى أكتوبر عام 1932. أما القصائد العشر التى غنتها أم كلثوم من قصائد أمير الشعراء فكانت بالترتيب:

"الملك بين يديك" عام 1936، "ولد الهدى فالكائنات ضياء"، "وقى الله شر مقاديره" من قصيدة السودان، "ريم على القاع بين البان والعلم" من نهج البردة، "سلو قلبى غداة سلا وتابا"، "سلوا كؤوس الطلى هل لامست فاها" وقد جاء ذكر أم كلثوم مجازا فى هذه القصيدة، وفى عام 1949 غنت له أم كلثوم أيضا "قصيدة النيل التى مطلعها "من أى عهد فى القرى تتدفق"، وأخيرا غنت قصيدة "إلى عرفات الله يا خير زائر" عام 1969 وكانت أم كلثوم كثيرا ما تغير فى ترتيب بعض الكلمات أو الأبيات، وقد التزمت فى قصيدة "سلو قلبى" بالأبيات الستة الأولى وفق ترتيب شوقى، أما باقى ما غنته فقد اختارته عشوائيا وفق رغبة الملحن رياض السنباطى الذى احتكر تلحين قصائد شوقى لأم كلثوم خلال هذه السنين جميعها، وقد اجتمعت فى هذه الفترة عبقرية أم كلثوم مع عبقرية السنباطى مع العبقرية الشعرية لأمير الشعراء لتشكل مرحلة غنائية لها خصوصيتها فى تاريخ فن الغناء العربى المعاصر للقصيدة الشعرية.

ونذكر فى هذا السياق أن أول قصيدة غنتها أم كلثوم لشوقى كانت هى قصيدة "عيد الدهر" المعروفة بمطلعها "الملك بين يديك فى إقباله... عوذت ملكك بالنبى وآله" وكان شوقى قد نشرها فى الجزء الأول من الشوقيات تحت عنوان "عيد الدهر وليلة القدر" وكانت هذه القصيدة فى مديح السلطان محمد رشاد الخامس، اختارت منها أم كلثوم أبياتا لتغنيها فى مناسبة تولى الملك فاروق عرش مصر بحساب سنوات بلوغه سن الرشد بالتوقيت الهجرى، وكان ذلك عام 1936، وكانت هذه الأغنية بالتالى أغنية مناسبة سياسية، تعرف فقط بالمناسبة التى قيلت فيها، كما كانت أغنية "السودان" هى الأخرى من نفس شعر المناسبات وهى من شعر شوقى أيضا، وقد شدت بها أم كلثوم عام 1954، فى مناسبة اشتداد الحراك السودانى للمطالبة بالاستقلال، وتعتبر هى الأخرى قصيدة مناسبة وطنية خارج سرب ما خلده شوقى فيما غنته أم كلثوم من أعمال مشهود لها بالخلود فى نهج غنائها وهى بترتيب ظهورها:

"سلو كؤوس الطلى هل لامست فاها"، سلوا قلبى غداة سلا وتابا"، "نهج البردة"، "النيل"، "ولد الهدى فالكائنات ضياء"، "إلى عرفات الله"، "بأبى وروحى"، وقد لحن رياض السنباطى هذه القصائد جميعها، ومن ثم اجتمعت لهذه الكوكبة من القصائد ميزات كثيرة منها فصاحة النظم وقوة اللحن وبراعة الغناء الذى أعطته أم كلثوم من روحها وفنها الكثير. كذلك غنت أم كلثوم لشاعر النيل حافظ إبراهيم قصيدته "مصر تتحدث عن نفسها" عام 1951، والتى تقول فى مطلعها: وقف الخلق ينظرون جميعا... كيف أبنى قواعد المجد وحدى فى وقت كانت أم كلثوم تشعر كما يقولون – إن قلب المؤمن دليله - إحساسا خاصا بأن هناك شيئا ما يحدث فى الخفاء، وأن مصر قادمة على شئ غير طبيعى فى هذه الأيام، لذا كان اختيارها لهذه القصيدة ليس من فراغ، إنما لأن احاسيسها حدثتها بأن مصر فى احتياج إلى من يقف بجانبها، وقد حدثت بوادر ما أحست به أم كلثوم أولا فى حريق القاهرة فى يناير 1952، ثم بقيام ثورة يوليو 1952، وكان هذا الاختيار فى محله وهى قصيدة قومية وطنية، قيلت بعد حرب فلسطين عام 1948، وكانت أم كلثوم تريد أيضا بهذه القصيدة العصماء أن تشد أزر الجيش المصرى فى مهمته الخطرة المرتبطة بإنقاذ الأمة من الفساد الذى كان قد استشرى فيها بحسب الملك السابق وأعوانه، وفى هذه القصيدة تغنت أم كلثوم بعظمة مصر وتاريخها العريق على مر الزمن، ورغم ما فى هذه القصيدة من عبارات التحريض إلا أن الملك والقصر سمحا بإذاعاتها، وربما كانت مغازى كلماتها لم يفطن إليها المسئولين فى القصر وأعوانهم وهى فى كلماتها ومعانيها تحمل دعوة صريحة إلى الثورة التى قامت بالفعل فى 23 يوليو عام 1952، وقد لحن هذه القصيدة أيضا السنباطى وأبدع فيها إبداعا خاصا، وعندما قامت الثورة كانت هى النشيد الدائم للثورة طوال فترة إذاعة بياناتها الثورية.

أم كلثوم والشعراء العرب غنت أم كلثوم لعدد من الشعراء من الدول العربية أمثال عبد الله الفيصل من السعودية الذى غنت له "ثورة الشك" 1962، و"من أجل عينيك" عام 1971 وفى هاتين القصيدتين أبدعت أم كلثوم بألحان السنباطى، و"ثورة الشك" أبياتها مجتزئة من بعض قصائد ديوانه "وحى الحرمان" وقد اختارت أم كلثوم عنوان "ثورة الشك" بدلا من عنوانها فى ديوان الشاعر وهو "عواطف حائرة"، أما "من أجل عينيك" فهى من ديوان "حديث قلب" وقد اختارت أم كلثوم أبياتها من عدة قصائد شكلت توليفة هذه الأغنية بعد مراجعة الشاعر لها وموافقته على الشكل النهائى للقصيدة التى تغنت بها أم كلثوم. أما نزار قبانى شاعر المرأة والغزل فقد اختارت له أم كلثوم كلمات قصيدة وطنية بعيدة عن عالمه الملئ بالتغنى بالمرأة وأنوثتها وعطورها وغير ذلك من طبيعة شعره، اختارت قصيدة "طريق واحد"، وغنتها تحت عنوان "أصبح الآن عندى بندقية" بألحان الموسيقار محمد عبد الوهاب، وكان هذا الاختيار موفقا إلى حد كبير ومواكبا لأحداث اندلاع الانتفاضة الفلسطينية عام 1969. أما الشاعر اللبنانى جورج جرداق وكان صديقا لعبد الوهاب، فقد كتب قصيدة "هذه ليلتى" فى جلسة خاصة مع عبدالوهاب وسرعان ما لحنها عبد الوهاب وغنتها أم كلثوم فى لبنان قبل أن تغنيها فى القاهرة.

أما الشاعر السودانى الكبير الهادى آدم من السودان، حيث أحست أم كلثوم بعد أن أحيت حفلتين فى ربوع السودان بدفء الأهل والعشيرة فى جنوب وادى النيل، مما فتح شهيتها للغناء لشاعر من السودان، واختارت أم كلثوم قصيدة "أغدا ألقاك" للشاعر الهادى من سبعة قصائد منتقاة من سبعة دوواين اقترحهم لها الشاعر صالح جودت وكان غناء هذه القصيدة بألحان رياض السنباطى يوم الخميس 6 مايو 1971، وعلى أحمد باكثير من اليمن، وكما اختارت أم كلثوم أن تغنى من تراث الشاعر الفارسى عمر الخيام، اختارت من أشعار شاعر باكستان الفيلسوف محمد إقبال قصيدة "حديث الروح" وغنتها يوم الخميس 7 أبريل 1967 بعد رحيل القصبجى، وقد تم اختيار هذه القصيدة من ديوانه "صلصلة الجرس" وكانت تحت عنوان "شكوت إلى الله".

ومن مصر غنت أم كلثوم بخلاف شوقى وحافظ، لكل من على الجارم، وإبراهيم ناجى، وعزيز أباظة وطاهر أبو فاشا، وإسماعيل صبرى الذى غنت له عام 1926 ثلاثة أبيات من شعره فقط لحنهم لها الشيخ أبو العلا محمد اختارت لهذه الأبيات عنوان "يا آس الحى" سجلتها على أسطوانة جرامفون فى العام نفسه. وغنت أم كلثوم للشاعر المعاصر محمود حسن إسماعيل فى ثلاث مناسبات وطنية وقومية، الأولى "رأيت خطاها على الشاطئين" غنتها عام 1956 فى مناسبة إعلان دستور ما بعد ثورة يوليو، والثانية غنتها عام 1958 بعد عامين، وهى "بغداد يا قلعة الأسود"، والثالثة شدت بها عام 1966 وهى قصيدة "ياربى الفيحاء" وكانت القصائد الثلاث من ألحان السنباطى، وحول أشعار صالح جودت فقد تغنت أم كلثوم قصيدتين الأولى بعنوان "حبيب الشعب" فى يونيو عام 1967 بعد أيام من وقوع النكسة وإعلان عبد الناصر التنحى، مما يبرز التلاحم الكبير بين الشاعر وأم كلثوم فى هذه الأيام الصعبة من تاريخ مصر، والثانية بعنوان "الثلاثية المقدسة" عام 1972. أما شاعرنا الكبير طاهر أبو فاشا فقد غنت له أم كلثوم فى عام واحد ست قصائد من إبداعاته، تغنت بها فى أوبريت "رابعة العدوية" الشهير، وكان أولها عام 1975 قصيدة "عرفت الهوى" وهى قصائد قصيرة إلى حد ما حتى تتوافق مع مجريات أحداث أوبريت رابعة العدوية التى غنت فيه أم كثوم قصائدها. وقد اشترك السنباطى والموجى فى ألحان هذا الأوبريت الذى كان علامة مهمة فى مسيرة أم كلثوم الغنائية للشعر العربى الحديث. أما كامل الشناوى فقد غنت له أم كلثوم قصيدة من اروع قصائده وهى قصيدة "على باب مصر" التى ارتبطت بالمرحلة الاشتراكية فى مصر، ولحن هذه القصيدة عبدالوهاب.

وفى عام 1945 وهو عام توقيع ميثاق جامعة الدول العربية شاركت أم كلثوم فى هذه المناسبة العربية الكبيرة بقصيدة للشاعر محمد الأسمر "زهر الربيع" الذى يقول فيها: زهر الربيع يرى أم سادة نجب وروضة أينعت أم حفلة عجب؟ وقد لحنها زكريا أحمد وكانت تأليف هذه القصيدة مقترحا قدمه أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكى فى ذلك الوقت. أما الشاعر أحمد فتحى فقد تغنت أم كلثوم بقصيدته "قصة الأمس" عام 1958 من ألحان رياض السنباطى والتى يقول فيها: أنا لن أعود إليك مهما استرحمت دقات قلبى أنت الذى بدأ الملامة والصــــــدود وخان حبى وكما غنت أم كلثوم قصيدة "النيل" لأمير الشعراء أحمد شوقى غنت فى مناسبة بناء السد العالى وهو من المشاريع القومية المصرية التى أقيمت على النهر العظيم قصيدة وطنية أخرى هى قصيدة "السد" للشاعر عزيز أباظة والتى جاءت إذاعتها فى توقيت احتفالات البدء فى تنفيذ المشروع جنوب أسوان:

كان حلما فخاطرا فاحتمالا ثم أضحى حقيقة لا خيالا أما الشاعر إبراهيم ناجى صاحب "الأطلال" فكانت قصيدته التى شدت بها أم كلثوم هى حديث القصائد جميعها التى تغنت بها أم كلثوم، فقد وصلت أم كلثوم بشدو هذه القصيدة الرائعة إلى العالمية فى الغناء والإنشاد، وكانت أم كلثوم كثيرا ما تتحدث عنه فتقول:

لا أنسى الشاعر إبراهيم ناجى، وقد رأيته حين كان يزور نقابة الموسيقيين، كان يبدو بائسا محطما يجلس إلى الموسيقيين، فتشعر أنه يطوى فى صدره قصة حب بلا أمل، ولم يتحدث فى الشعر مرة، ولكنى كنت أحس فيه رقة المشاعر التى لا بد أن تؤتى ثمارا فنية طيبة فى مجال الشعر والموسيقى، وقرأت له ديوانه بعد رحيله ووقفت أمام الأطلال التى دفعت بها إلى السنباطى، وقد تغنت كوكب الشرق بالقصيدة بعد رحيل ناجى كما تغنت بشعر شوقى بعد رحيله عام 1966، ومن الصدف الغريبة أن هذه القصيدة تغنت بها أم كلثوم بعد رحيل محمد القصبجى ولم يكون بين الموسيقيين آلة العود الذى كان يعزف عليها القصبجى فى فرقة أم كلثوم.

أحمد رامى وأم كلثوم ارتبطت أم كلثوم بشاعر الشباب أحمد رامى، منذ عودته من بعثته فى فرنسا عام 1924، وكانت عودته هذه متسمة بالرومانسية شأنه شأن كل من درس بالفرنسية وعاد إلى موطنه مصر مثل طه حسين وتوفيق الحكيم ويحيى حقى وغيرهم، وهو ارتباط كانت له وشائجه القوية مثل أرقى علاقات الأدب بالفن الموسيقى والمسرح، وقد وصفت هذه العلاقة بقصة حب شهيرة تحدثت عنها الصحف، وسجلتها أضابير تاريخ الفن والأدب فى صفحاتها، وسميت هذه العلاقة بالعشق المستحيل الذى أثمر أجمل الأغانى التى تغنت بها كوكب الشرق أم كلثوم، وكان ذلك عندما سمعها فى حفلة خاصة وهى تغنى قصيدته التى لحنها الشيخ أبو العلا محمد، وعندما أستمع رامى لقصيدته بصوت أم كلثوم، أعجب بغنائها، وتحمل لصوتها مما دفعه بعد أن فرغت من وصلتها الأولى إلى أن يصعد إليها ويهنئها، وعرفته أم كلثوم بذكائها الفطرى وكانت قد سمعت عنه الكثير. ومنذ تلك اللحظة تعلق أحمد رامى بأم كلثوم وسعى إلى مقابلتها مرة أخرى، لكنها كانت قد سافرت عقب ذلك إلى رأس البر حيث اعتادت على قضاء شهور الصيف هناك فى ضيافة أسرة أمين بك المهدى الذى كان مولعا بالموسيقى والغناء خاصة غناء أم كثوم. وعندما عادت أم كلثوم من المصيف، غنت فى "تياترو البوسفور" وما أن ارتفع الستار حتى رأت رامى فى الصف الأول، فغنت له قصيدته، وأثناء الاستراحة، ذهب لتحيتها فعرفت أنه يكتب قصيدة جديدة، فطلبت أن تغنيها فوافق على الفور.

ومنذ هذه اللحظة بدأت علاقة رامى وثومة، علاقة الأستاذ بالتلميذة النجيبة فى مضمار الشعر العربى قراءته وفهمه والخوض فى بحوره وفلسفة معانيه، حيث كان أحمد رامى يحمل لها دواوين الشعر العربى أعذبها وأسلسها، فيقرؤها لها ويشرح لها مواطن الجمال فيها شكلا ومضمونا وكان ذلك يتم يوم أجازة رامى الأسبوعية فى دار الكتب. كانت هذه هى رحلة أم كلثوم مع القصيدة العربية غناء وشدوا وألحانا لا مثيل لها فى الغناء المعاصر ونظما اختارت له أم كلثوم من جميع الشعراء والمدارس الشعرية المختلفة القديمة والحديثة، وعايشت فى مسيرتها الغنائية مع نماذج من الشعراء والملحنين ما أثرى الغناء العربى المعاصر بهذه التحف والتجليات الغنائية التى أبدعها الفن العربى والذى لن يجود الزمان بمثله على الإطلاق.