صالح جودت يكتب.. وداعًا أم كلثوم
بيت من الشعر غنته أم كلثوم أضرم في قلوب أبناء مصر ثورة قبل ثورة 23 يوليو ببضع سنوات، البيت من قصيدة شوقي، وهو: وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا وهو وارد في الشوقية التي مطلعها: سلوا قلبي غداة سلا وتابا لعل على الجمال له عتابا كانت أم كلثوم تغني هذه القصيدة، فما إن تصل إلى هذا البيت، حتى تلتهب عواطف المصريين، الذين بلغ بهم السخط على الاستعمار البريطاني يومئذ مداه.
وهكذا أصبح هذا البيت في ذلك العهد شعارا لمقاومة الاستعمار، يكتب على رؤوس الصحف، ويتردد في كل خطاب وطني مما حمل الحكومة على إلغاء المعاهدة المصرية البريطانية (معاهدة سنة 1936) وحُول العمال المصريون في معسكرات الجيش البريطاني بمنطقة القناة إلى جيش للمقاومة، وأشعل فتيل المعركة المأثورة معركة رجال الشرطة المصرية ضد جنود القاعدة البريطانية التي سقط فيها عشرات من الشهداء.. ولكنها كانت إرهاصا بكل ما حدث بعد ذلك، حتى كان جلاء الجيوش البريطانية عن أرض مصر في سنة 1954.
هذه أم كلثوم… وهذه هي شعلة الوطنية الثائرة.. شعلة الحرية.. التي كانت فنانة الشعب تلهبها في وجدان هذا الشعب. ونعود إلى ذلك البيت: وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا كانت لأم كلثوم، منذ صباها الأول، مطالب عند المجد. مطالب لم تنلها بالتمني.. وإنما نالتها بمغالبة الأيام والصبر على قسوة الأحداث. قالت لى إنها وهى صبية في أول العمر، كانت تطوف بالقرى، مع أبيها وأخيها تغني القصائد والتواشيح في بيوت أعيان القرى، وكثيراً ما اضطرتهم الظروف إلى السير على أقدامهم مسافات طويلة في طلب لقمة العيش... وكثيرا ما كانوا يهرعون إلى محطات السكك الحديدية في ساعات متأخرة من الليل لإدراك آخر قطار، فإذا فاتهم ناموا على الرصيف! وتذكر من بين تلك الليالي ليلة قارسة البرد، لم يجدوا فيها مكانا تبيت فيه الصبية الصغيرة إلا حاصلا (أي حظيرة) فيها جمل..
وارتمت الصبية في ركن من الحاصل طوال الليل، وهى ترتجف مرتين... مرة من البرد، وأخرى مخافة أن يرفسها الجمل: ونزحت أم كلثوم -في أول شبابها- مع أبيها وأخيها وفرقة المنشدين المصاحبة لهم إلى القاهرة وغنت في "قهوة ريش" التي لا تزال قائمة في شارع طلعت حرب وكانت يومئذ ذات حديقة واسعة محيطة بها.. كما غنت في "صالة سانتي" التي كانت قائمة وسط حديقة الأزبكية.
وكانت في غنائها في ذلك العهد تعتمد على ترديد أصوات المنشدين حولها، إذ لم يكن معها عازفون ولا آلات موسيقية. وفي تلك الفترة، عرفها رامي... الذي كان قد عاد لتوه من بعثة دامت سنتين في السوربون بباريس، لدراسة الآداب الشرقية وفن المكتبات. ويروي رامي القصة، فيقول إنه ذهب ذات ليلة لا ينساها -تاريخها 26 يوليه سنة 1924 - إلى بار في شارع بولاق (26 يوليه الآن) كان يملكه ويديره المرحوم زكي رستم (الذي أصبح بعد ذلك من أعلام المسرح) فالتقى بصديق قديم قال له إن مغنية جديدة متألقة الموهبة قد ظهرت، اسمها أم كلثوم وإنها ستغني الليلة في صالة سانتي. ودعاه إلى الذهاب معه لسماعها وذهبا.. وجلسا في الصف الأول وإذا به يفاجأ بما لم يكن يتوقع.. يفاجأ بأنها تغني قصيدة له، مطلعها:
الصب تفضحه عيونه وتنم عن وجد شئونه وكان اللحن لأستاذ أم كلثوم الأول المرحوم الشيخ أبو العلا محمد.. واستولى عليه الشجى حتى لمعت الدموع في عينيه.. والتفتت له أم كلثوم فهمس لها -وهو في مكانه- بأنه كان في ديار الغربة... في باريس... وأنه سعيد بأن يسمعها في أول ليلة يعود فيها إلى أرض الوطن. ولم يقل لها من هو ولكنها بما جبلت عليه من اللماحية قالت له باحتفاء: أهلا ... سي رامي .. وبعد انتهاء الحفلة التقيا، وتحدثا، وسألته أن يزورها في بيتها وكانت تسكن يومئذ في ميدان عابدين- فسألها عن العنوان فقالت له بخفة ظلها المعهودة:
الله؟ ... انت إزاي ما تعرفش بيت أم كلثوم؟ دا الملك فؤاد ساكن قصادي ... وذهب إليها في اليوم التالي .. وبدأ معها الرحلة الثنائية الخالدة التي دامت خمسين سنة. كان رامي -قبل أن يعرف أم كلثوم- لا ينظم إلا شعر الفصحى فلما عرفها لم يرق له أن تغني منظومات ذلك العصر وكانت متهاوية الكلمات ومنها: الخلاعة والدلاعة مذهبي من زمان عاشق صبابه والنبي فبدأ يغير لها الكلمات المتهاوية.. ففي هذه الأغنية مثلا استبدل بكلمتي "الخلاعة والدلاعة" كلمتي "الخفافة واللطافة".
ومع هذا .... أحس أنه لم يصل إلى هدفه بمثل هذه التعديلات في أغانيها، وصارح أم كلثوم بذلك، فقالت له: * طيب ما تكتب لي انت أغاني باللغة العامية... واستجاب لها، وكتب أول أغنية عامية في حياته، مطلعها: الشك يحيي الغرام ويزيد في ناره لهيب ونجحت الأغنية، واستمرأ رامي الفكرة، وكتب لها من اللغة الدارجة الأغنية تلو الأخرى ومنها أغنيته الأثيرة: إن كنت أسامح وانسى الأسية ما اخلصش عمري من لوم عنيه وهي من تلحين القصبجي رحمه الله وتعد علامة ضخمة على طريق الموسيقى العربية، لأنها كانت أول أغنية مصرية صاحبت الأوركسترا بدلا من التخت الشرقي وقد بيعت منها مليون أسطوانة... وهو رقم قياسي في تاريخ الأغنية العربية. أما نصيب رامي منها، فكان مائة قرش... كان هذا هو سعر الأغنية الكبيرة في ذلك العهد! كانت أم كلثوم قدرا في حياتي. ذلك أنني نشأت منذ صباي على حب الأدب دون أن يدور بخلدي أن صناعة القلم ستكون قدري في يوم من الأيام. وذات يوم، وأنا في الثانية عشرة من عمري تلميذا بمدرسة المنصورة الثانوية وقعت عيناي في مجلة "الصباح".
وهي أم مجلات الفن يومئذ- على مقال بإمضاء "محمدين". وهو الاسم الذي كان الناقد الفني المرحوم محمد عبدالرازق يوقع به مقالاته- يحمل فيه على أم كلثوم حملة قاسية ويزعم أن الهالة التي تحيط بها، لا فضل لها فيها وإنما الفضل كله لكلمات رامي وألحان القصبجي. وكنت في صباي، كما ظللت طوال حياتي مفتونا بصوت أم كلثوم حتى أني لا أنام ليلة دون أن أسمع لها شيئا. وهكذا غضبت لأم كلثوم عقب قراءة ذلك المقال، وأمسكت بالقلم لأكتب أول مقال في حياتي، دفاعا عن أم كلثوم. وبعثت به إلى مجلة "الصباح" وأنا قليل الأمل في نشره فقد كنت أعرف أن الصحف لا تنشر إلا لأصحاب الأسماء المعروفة.. وكان منهم على صفحات "الصباح" المرحوم الدكتور زكي مبارك وصديقنا الطبيب الكاتب الشاعر الزجال الدكتور سعيد عبده وغيرهما.
وكانت دهشتي بالغة حينما فوجئت في الأسبوع التالي بالمقال منشورا في مكان حقي.. و"بقلم الأستاذ الكبير صالح جودت". ويبدو أن صاحب المجلة وقع في لبس اسمى واسم شخصي، كان من كبار رجال القضاء والأدب معا في ذلك الحين ولعل هذا كان سر عبارة "الأستاذ الكبير".. التي استغللتها فجعلت أبعث للمجلة كل أسبوع بمقال أو قصيدة، والمجلة تنشر كل ما أبعث به وتقرنه بعبارة "الأستاذ الكبير"! ومنذ ذلك العهد لم أنقطع عن الكتابة في مجلة "الصباح" وفي غيرها كمجلة "الأسبوع" للأستاذ "أدى"... وهو من كبار النقاد في ذلك العهد..
ثم في مجلة "الرسالة" للأستاذ الزيات.. و"المجلة الجديدة" لسلامة موسى .. إلخ .. حتى وجدت نفسي في يوم من الأيام صحفيا محترفا.. وبأجر طيب... وأنا طالب بالجامعة. وهكذا كان مقالي عن أم كلثوم الذي جرني إلى احتراف صناعة القلم.. وقدر آخر.. قدر حزين.. ربط بيني وبين أم كلثوم في أيامها الأخيرة. ذلك أن محنة صحية قاسية ألمت بي في أكتوبر الماضي وانتهت بي محمولا -في غيبوبة تامة- إلى مستشفى القوات المسلحة بالمعادي، حيث قضيت شهرين وبعض الشهر. وكانت أم كلثوم -رحمها الله- تسأل عني كل يوم بالتليفون حتى أثقل عليها المرض الأخير، وكان معالجوها هم نفس الأطباء الذين يعالجونني... الدكاترة زكريا الباز وصبري إسماعيل وعمر كاظم.. فكنت أعرف أنباءها منهم وكان الدكتور كاظم يتفضل فيحمل دعائى لها ودعاءها لى كل يوم.. إلى أن تدهورت حالتها، وقيل إنهم سينقلونها من بيتها إلى مستشفى المعادى. ولم تكن بالمستشفى غرفة خالية لائقة بها، فرأيت أن أتعجل خروجي لأفسح لها مكاني. وغادرت المستشفى لأفسح مكاني لها.. وكانت تؤثر في الألوان، اللون الوردي، فطلوا لها الجناح الذى كنت أرقد فيه، باللون الوردي. ولكن حالتها ازدادت سوءا، فلم تذهب إلى الجناح الوردي بل إلى غرفة العناية المركزة... أو "الإنعاش" كما يسمونها هناك... وهى الغرفة التي قضيت بها: ثلاثة عشر يوما في أيام الغيبوبة الكاملة. وظلت أم كلثوم في هذه الغرفة حتى صعدت روحها إلى بارئها، دون أن تشهد الجناح الوردى. كان من ميزاتها الأصيلة، عرفان الجميل... مهما قل حجم هذا الجميل. من ذلك مثلا، أنها حين التقت بي لأول مرة عقب ذلك المقال في الدفاع عنها، غمرتني بكلمات حلوة لا أحسب أنني كنت أستحقها في تلك السن، وأحسست يومئذ بأنها حنان يتدفق فيضفي على من تحدثه نشوة روحية ساحرة.
وكنت ألتقي بها بعد ذلك عند أمير قراء الذكر الحكيم، المرحوم الشيخ محمد رفعت، في بيته بشارع الزيدي بالسيدة زينب وكان الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب يحرص هو الآخر على التردد على بيت الشيخ رفعت، لأنهما -أم كلثوم وعبدالوهاب- من حفظة الكتاب، ومن أصحاب النشأة الدينية والاتجاه الصوفي.. وهما من أكثر المفتونين بصوت الشيخ وكان الشيخ ظريفا في مجلسه.. يلون الحديث والغناء وكثيرا ما كان يمتعنا بغناء نداء الباعة في حواري القاهرة باعة الخبز والجميز والتوت وعلي لوز وغزل البنات.. وإن أنس لا أنسى ليلة غنى لنا فيها أغنية أم كلثوم: وحقك أنت المنى والطلب وأنت المراد وأنت الأرب غناها.. ولونها.. وتصرف فيها حتى بلغ السماء. وقد تتلمذت أم كلثوم على أصوات المشايخ، وأولهم والدها الشيخ إبراهيم ثم الشيخ أبوالعلا محمد والشيخ محمد القصبجي (كان شيخا في أول حياته) والشيخ على محمود والشيخ سيد درويش والشيخ محمد رفعت والشيخ زكريا أحمد. ولست أنسى ليلة أيقظتني فيها بالتليفون بعد منتصف الليل وقالت لي: اسمع. وأخذت تغني وتعيد وتجيد وتزيد في أغنية الشيخ سيد درويش المشهورة: سالمة يا سلامة رحنا وجينا بالسلامة وذكرت لي أن هذا اللحن يؤرقها من جماله وأنها تتمنى أن أكتب لها كلمات جديدة على إيقاع هذا اللحن نفسه. * عرفت أم كلثوم منذ أكثر من ثلاثين سنة.. ولا أذكر أنني اختلفت معها طوال هذه السنين إلا مرة واحدة في مطالع سنة 1971 إذ سار بيننا بالوقيعة صحفي لبناني كتب عني كلمة غير طيبة، ونسبها إلى أم كلثوم.
ورأيت أن أخاصمها في صمت، ولم أصارح أحدا بذلك إلا عبدالوهاب. حتى كانت ليلة لا أزال أذكر تاريخها- 2 مايو سنة 1971 - وكان سفير السودان بالقاهرة قد وجه دعوة لبعض أصدقائه إلى العشاء في حديقة بيته بالمعادي. وكنت من بين المدعوين.. وذهبت وكان حول أول مائدة صادفتني أربعة لم أتبين منهم في بادئ الأمر إلا عبدالوهاب فتعانقنا وقال لي: اقعد معانا... فيه كرسي فاضي. وتلفت إلى مجالسيه فإذا هم محافظ الجيزة والمهندس محمد الدسوقي- ابن شقيقة أم كلثوم- وأم كلثوم. وحلا للموقف، اكتفيت بأن أقول لهم "السلام عليكم" بلا مصافحة فقال لي عبدالوهاب: ما تسلم على ثومة... والا لسه زعلان منها؟ قلت: طبعا وبدت الدهشة على أم كلثوم وقالت: زعلان مني؟ ليه؟ وروى لها عبدالوهاب القصة فأقسمت بالله ثلاثا أنها لم تقل تلك الكلمة غير الطيبة ولم تقرأ المجلة اللبنانية التي نشرتها وأضافت إلى ذلك قولها: ولك أن تكذب هذا الصحفي على لساني وكل اللي قاعدين شهود. وجذبتني من يدي فتصافحنا بحرارة، وصدقتها من الأعماق..
وكثيرا ما سألتني أم كلثوم أن أنظم لها بعض الأغاني ولكنني كنت أعتذر لها دائما خشية أن يغضب رامي وهو أعز أصدقائى وهو -إلى جانب ذلك- أولى المؤلفين بها وأنجحهم معها. وكانت تعرف سبب اعتذاري الدائم وتقدره لأنها جبلت على الوفاء فكانت تقدر وفاء الصديق للصديق. وحدث في السنوات الأولى من ثورة سنة 1952 أن أراد رجال الثورة إحياء ذكرى الزعيم الاقتصادي الخالد طلعت حرب الذي لقى كثيرا من الجحود في أخريات أيامه، رغم الصروح الشامخة التي أقامها على أرض مصر. وسألني القائمون على تنظيم الحفل أن أنظم أغنية في هذه المناسبة تغنيها أم كلثوم فأحلتهم إلى رامي الذي اعتذر لهم بأنه لم يكن على صلة وثيقة بطلعت حرب وأحالهم إلىَّ بدوره لأنني عملت مع طلعت حرب بضع سنوات في بنك مصر قبل اعتزاله.
ونظمت الأغنية وغنتها أم كلثوم في الحفل وكان مطلعها: يا رجال الثورة البيضاء في الوادي الأمين مجدوه .. خلدوه .. إنه كان زعيم الثائرين وقدمت الإذاعة الحفلة، وسجلتها، ومن آسف أنها لم تحتفظ بالأغنية بل مسحتها فيما تمسح من الأشرطة ولكن التسجيل لا يزال موجودا عند نفر قليل من الهواة. ومرة أخرى.. التقينا، أم كلثوم وأنا في عمل أنجزناه تأليفا وتلحينا وأداء في ليلة واحدة من الليالي الأولى للنكسة لعله يرد للشعب بعض الثقة في نفسه وجيشه وزعامته ولعل هذا العمل لا يزال محفوظا في أرشيف الإذاعة، ومطلعه: "قم واسمعها من أعماقي... فأنا الشعب" ومرة ثالثة التقينا –أم كلثوم وأنا– في عمل فني هو "الثلاثية المقدسة".. وكان الفضل الأول في هذا العمل لصديقنا وأستاذنا الدكتور عبدالعزيز كامل -نائب رئيس الوزراء- الذي استوحينا الفكرة من حديث له في عيد الهجرة. ولم يفتني في هذه المرة أن أستأذن رامي، لأنني كنت يومئذ شديد الشوق إلى بيت الله -بعد النكسة- لعل بعض الدعاء ولو بالغناء يرفع عنا الغمة. وبعد نجاح الثلاثية المقدسة، أرادت أم كلثوم أن تصنع عملا إنسانيا جليلا.. أغنية في محاربة التفرقة العنصرية تسجلها لتذاع على نطاق عالمي. وكانت هذه الأغنية هي الأخرى مستوحاة من بحث للدكتور عبدالعزيز كامل عن موقف الإسلام من التفرقة العنصرية.
ورضيت أن أنظمها أولا اقتناعا بإنسانية هذا العمل وثانيا لأن رامي في ذلك الحين كان يعاني محنة اكتئاب نفسي تحول بينه وبين النظم. ولكن قسوة القدر لم تشأ أن تخرج هذه الأنشودة إلى النور لنشوب بعض الأحداث السياسية في ذلك الوقت. بيد أن أم كلثوم لم تنس هذه الفكرة فكانت تذكرني بها الفينة بعد الفينة وتتمنى لو حققتها، لولا أن أخذ الضنى يزحف إليها. أما آخر أغنية أرادت أن تغنيها لمصر فلها قصة حزينة رويتها على صفحات "المصور" منذ أسابيع قريبة وخلاصتها أنها في مطالع الصيف الماضي قالت لي إنها محزونة لأنها غنت لمصر في كل مناسبة حتى في النكسة ولم تغن لها يوم النصر لأن المرض كان يناوشها يومئذ في قسوة. وسألتني أن أنظم لها أنشودة تغنيها عن المعركة المنتصرة أي في 6 أكتوبر الماضي ونظمت الأنشودة وبدأ رياض السنباطي في تلحينها ولكن آلام المرض أخذت تزداد إلحاحا على أم كلثوم فلم تحقق لها آخر أمنية في آخر أغنية! وأختتم هذه الكلمات بحديث الشعر... عندما ظفر رامي بجائزة الدولة التقديرية للآداب، أقامت له جمعية المؤلفين حفلة تكريم في فبراير سنة 1967 بنادي السيارات بالقاهرة وكانت أم كلثوم في مقدمة المدعوين. ولم يكن هناك بد وأنا أحيي رامي في هذه المناسبة من أن أجعل لأم كلثوم نصيبا من قصيدتي فقلت له: يا أخا الخيام، يا باعثه في خير سامر في أغاني آية العصر وإعجاز الحناجر أم كلثوم التي ترقى بها بين الحواضر التي تنشد يا ليل... فتبيض الدياجر والتي تهتف يا عين...فتفديها النواظر والتي تنشج بالــ آه...
فتنشق المرائر وتر أجمل من وقع المثاني والمزاهر ولهاة في سماء الله لم توهب لطائر وهي في التاريخ مولاة الأوالي والأواخر وأغانيها دعاء... ولياليها بشائر وهي كالسد وكالأهرام في ثبت المفاخر وحين أنعم رئيس الجمهورية على أم كلثوم وعبدالوهاب بأرفع وسامين في الدولة، أقيمت لهما حفلة تكريم بنادي الضباط بالزمالك، وألقيت فيها قصيدة قلت عن أم كلثوم: يا أم كلثوم، وأم المنى وحلوة الآهات والجلجلة أم الليالي المنيرات التي لا تجعل الصبح له منزله قولي لنا... ماذا تقول الربي لو لم تقولي أنت يا بلبلة؟ ماذا يكون العيش... ما طعمه لو لم تكوني أنت يا مذهلة يا صورة مهما تمثلتها وجدتها أحلى من الأمثلة قولي لنا... من صاغ فيك الشجى من سكر الصوت... ومن عسله سبحان من أولاك إعجازه منغما... سبحان من أنزله.
الهلال مارس ١٩٧٥