رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


"أطلال" عمر الفلبيني

3-2-2025 | 13:07


أحمد فضل شبلول

 عندما كنتُ أعملُ مسئولا ثقافيًّا في إحدى المحطات التليفزيونية بالكويت، صدرتْ لي تعليمات أن أختارَ الأغاني المغناة باللغة العربية الفصحى لإذاعتها بعد كتابة كلمات الأغنية لتظهر على الشاشة وقت نطق المطرب أو المطربة بها. وهذا الأمر يحتاج إلى مونتير جيد مع بعض أعمال الجرافيك وبعض اللمحات الفنية الأخرى، مع تدقيق الشاشة جيدا.

كان أول اختيار لي هو قصيدة "الأطلال" لأم كلثوم (1898–1975)، من أشعار إبراهيم ناجي (1898–1953) وتلحين رياض السنباطي ( 1981-1906). أتينا بكلمات القصيدة المغنَّاة في صيغة وورد (Word) لتركيبها على الصوت وإظهارها على الشاشة.

وتم اختيار مونتير فلبيني ماهر يعمل معنا، ولكنه لا يعرف من العربية إلا القليل، فكان لزامًا عليَّ أن أصاحبه في كل خطوة وأوجهه عندما يستفسر عن شيء ما أو كلمة ما، وأقترح عليه بعض الاقتراحات التي تفيد العمل، وأراجع وراءه كل كلمة على الشاشة في نفس توقيت النطق أو التغني بها، مع ملاحظة التكرار الكثير للكلمات أثناء الغناء، وكتابته على الشاشة، كما هو منطوق، ليكون العمل مكتملا. بعد الجلسة الأولى مع المونتير عمر الفلبيني اكتشفتُ أن الأغنية تروق له لحنًا وأداءً وصوتًا وإن كان لا يعرف معنى معظم الكلمات التي يسمعها.

وبدأ يسألني عن صاحبة هذا الصوت الساحر التي لم يكن سمع عنها من قبل، فأخبرته أنها أم كلثوم واحدة من أجمل وأقوى الأصوات العربية على مر العصور، وحدثته عن السنباطي وموضعه من الموسيقى العربية، وعن الشاعر إبراهيم ناجي، وأخذت أستخرج له صورهم من شبكة الإنترنت ليراها ويتعرف إليها، ونحوّل المعلومات العربية عنهم إلى ترجمة إنجليزية ليعرف أكثر، فبدأ يدرك ويعرف مَن هؤلاء الذين نعمل لهم تلك الفقرة الغنائية من الأغاني العربية الفصحى التي سنبدأ إذاعتها بالقناة.

وبدأ صوت أم كلثوم يشكل أيقونة ذهبية لعمر الفلبيني، إلى أن وصلنا لمقطع "هل رأى الحب سُكارى مثلنا" فلاحظت الذهول يسيطر على عمر من سحر هذا المقطع، وكان يناديني باسم "أبو محمد" فقال لي: أبو محمد ما هذا؟ أنا لم أسمع مثل هذا من قبل. كان عمر يستمع إلى بعض الموسيقى والأغنيات الأوروبية والأمريكية، ليتسلى بها أثناء عمله في مكتبه ووسط أجهزة الكمبيوتر التي يعمل عليها، وكانت له ذائقة موسيقية جيدة، ولكن عندما بدأ يستمع للأطلال، بدأت ذائقته تتحول ناحية صوت أم كلثوم وموسيقى رياض السنباطي والموسيقي الشرقية بعامة، كان لم يزل غير مدرك لمعاني الكثير من الكلمات، ولكنه مع شغل المونتاج وتركيب الكلمات المكتوبة على الصوت أثناء خروجه من فم أم كلثوم، مع شرحي المتواضع له بدأ يفهم معنى الأطلال ومعنى كلماتها، ومعنى القصة العاطفية والإنسانية كلها. في نهاية رحلة العمل المتواصل التي استغرقت أكثر من أسبوع كان عمر قد حفظ معظم "الأطلال"، وبدأ يغنيها بكلمات عربية مكسَّرة بطبيعة الحال. وكان يعرض المقاطع العربية لبرنامج ترجمة في "جوجل" ليفهم معناها، وأحيانا كنتُ أقرِّب إليه المعنى بطريقة أفضل من "جوجل". لقد جُن عمر بمقطع: هل رأى الحبُّ سُكارى مثلنا كم بنينا من خيال حولنا وخاصة عندما كان يستمع إلى تجاوب جمهور المسرح وتصفيقهم وحماسهم وانفعالاتهم وصيحاتهم. أحيانا كان يقوم من على كرسيه ويرقص ويصفق على إيقاع موسيقى هذا المقطع الذي لم يسمع مثله من قبل، ضمن الأغاني التي كان يسمعها سواء الفلبينية التي لم أفقه منها شيئا، أو الأوروبية والأمريكية.

عمر بحسه الموسيقي أدرك الحزن والشجن الذي يحمله المقطع الأخير في "الأطلال" فكان يسألني: أبو محمد فيه "موت" هنا؟ ابتسم وأقول له: فعلا يوجد ما يشبه الموت.. إنه الرحيل عن الحبيب ودياره التي أصبحت أطلالا. كان يحدثني عن الدراما الرائعة التي استمع إليها في موسيقى الأطلال، ويقارن بين صوت أم كلثوم وموسيقى السنباطي في مقطع "هل رأى الحبُّ سكاري" ومقطع "يا حبيبي كلُّ شيءٍ بقضاء/ مـا بأيدينـا خُلقنـا تعسـاء". فهو بحسه الفطري أدرك الفارق بين هذا وذاك. فأسماها بالدراما الغنائية والموسيقية، وهي فعلا كذلك. عرضنا أغنية "الأطلال" -كأول تجربة لنا- على مالك القناة فاستحسنها، وسألني: متى ستذيعون؟ قلت له:

الخميس الأول من الشهر القادم.. سألني عن سر تحديد الموعد، فأخبرته أن أم كلثوم اعتادت أن تقيم حفلاتها في الخميس الأول من كل شهر. فقال لي: إذن فلتخصص الخميس الأول من كل شهر لأم كلثوم، ولن نكتفي بالأطلال. أخبرته أنني أجهز بعد "الأطلال"، "أراك عصي الدمع"، يعقبها "هذه ليلتي". فقال: يعطيكم العافية، ولكن لا تنسَ مطربي الفصحى الآخرين. أخبرته أننا أعددنا قائمة جيدة لكل مطربي الفصحى في الوطن العربي. كنا في القناة نُعيد فقرات السهرة صباح اليوم التالي، وبعد مرور وقت على إذاعة "الأطلال" وردت إلينا رسالة -من أحد المتابعين- تخبرنا بأنه لا يجوز إذاعة أغاني في القناة، مثل "الأطلال" تحديدًا والناس يستعدون لصلاة الجمعة، والقناة تذيع "هل رأى الحب سكارى مثلنا"، إنه لا يجوز ذلك على الإطلاق. كنا نهتم بردود أفعال المتابعين والمشاهدين، ونسعد بها، ولكن هذه الرسالة جعلتني أتوقف كثيرًا أمامها، وكنتُ أقولُ في نفسي: هناك قنوات كثيرة تذيع شعائر الصلاة والقرآن الكريم، فلماذا هذا المتابع يضع -في هذا التوقيت بالذات- مؤشره على قناتنا، التي سوف تلهِّي الناس عن الاستعداد لصلاة الجمعة من وجهة نظره. عندما جاء عمر الفلبيني مكتبي لاحظ انشغال فكري بأمر ما يخصُّ القناة، فسألني: ما يشغلك أبو محمد؟ فعرضتُ عليه الأمر، باعتباره شريكًا في صناعة الأغاني التي نذيعها بالقناة. ووجدت الحل عنده. قال لي: ما في مشكلة أبو محمد. قلت له: كيف؟ قال: نحن نذيع يوم الخميس أم كلثوم، ولا نذيع صباح الجمعة.

سألته: كيف؟ نحن نعيد البث كاملا صباح الجمعة، ولا ننتقي منه شيئًا يُذاع، وشيئًا لا يُذاع. أخبرني أنه سيجلس مع موظف "البلاي ليست" الذي يبرمج مادة مساء الخميس، وفيه الأغنية المختارة مثل "الأطلال" أو غيرها. ثم نُعد بلاي ليست آخر لصباح الجمعة يشتمل على كل الفقرات المذاعة الخميس، مع استبدال الأغنية بمادة أخرى مناسبة لصبيحة الجمعة، سواء كانت مادة دينية أو لغوية أو أي مادة تناسب توجهات القناة نضعها مكان الأغنية. وجدته حلا مناسبا، ولكن سيأخذ وقتًا وجهدًا أكبر أو مُضاعفا. ولكنه أخبرني أن لا أقلق من هذا الأمر، وسيقوم هو به مع موظف "البلاي ليست" وعليَّ فقط أن أراجع وراءه اختيار المادة لتكون مناسبة لصباح يوم الجمعة قبل الذهاب إلى الصلاة.

عمر كان يعرف أنني من الإسكندرية، فسألني: أبو محمد هل أم كلثوم كانت تغني في الإسكندرية؟ قلت له: طبعا. تذكرتُ ساعتها حفلات أم كلثوم في سينما "الهمبرا" بالإسكندرية، وعرفت أنها كانت تقيم في فندق سيسل بمحطة الرمل الذي يطل على البحر وعلى حديقة سعد زغلول، ولا يبعد سوى خطوات عن سينما الهمبرا. فذكرت هذا لعمر، وذكرت بعض الأغاني التي غنتها أم كلثوم في حفلاتها بالإسكندرية مثل: أنت عمري، وحا سيبك للزمن، وأسأل روحك وغيرها. وأنها كانت تمشي في شوارع الإسكندرية وتدخل محلاتها وتشتري منها ما يروق لها. بعد أن شرب عمر قهوته خرج من مكتبي يدندن بعربيته المكسَّرة: هل رأي الحبُّ سُكارى مثلنا .. كم بنينا من خيال حولنا.