«جددت حبك ليه ... بعد الفؤاد ما ارتاح حرام عليك خليه ... غافل عن اللى راح» لم يكتب رامي رائعة العصر والأوان «جددت حبك ليه ؟» .. بل اعتصرها من دمه و شعوره وإحساسه رحيقاً جميلاً طالما جاد به لتلتقطه أم كلثوم جامعة الرحيق الأشهر من بساتين الإبداع في مصر ليتحول عبر حنجرتها إلى عسل فيه شفاء للناس.
كلما زارت "الست" خيالي أجد صوت نغمات السنباطي الخالدة في مقدمة "جددت حبك" تتردد في روحي.. في البداية تتسلل خافتة ناعمة كأنها قادمة من حجرة في نهاية البيت بابها نصف مفتوح ونصف موصد وبينما يغرق البيت في ظلام الليل وهدوءه ينبعث الضوء الدافئ من انفراجة باب الغرفة ومعه صوت المقدمة الموسيقية لجددت حبك ليه وكأن أحدهم نسي المذياع مفتوحاً في تلك الغرفة أو كأن روح الست نفسها تسكن في الغرفة التي تأبى أن تغرق في الظلام كبقية البيت ويأبى بابها أن يوصد كبقية الأبواب.
في ٣ فبراير ١٩٧٥ رحلت أم كلثوم.. صعدت روحها من ضاحية المعادي على نيل مصر الخالد بعد صراع مع المرض بمعنى كل حرف في كلمة "صراع".. في تلك الغرفة من أحد طوابق مستشفى المعادي للقوات المسلحة مرت الساعات "سجال" بين ثومة من ناحية وبين الموت من ناحية أخرى.. فجأة تشير الأجهزة إلى الوفاة.. يظهر للأطباء أن العمليات الحيوية في الجسد المُتعب قد دخلت في سكون عنوانه الرحيل.. يتسرب الخبر من تلك الغرفة التي يتحلق حولها الأطباء وطاقم التمريض.. الكل يسأل و الكل ملتاع "الست عاملة إيه دلوقت ؟!".. يتسرب الخبر عن مؤشرات الأجهزة و صافرات الرحيل التي تعلنها متواصلة ويستقر في يقين الجميع أنه الفراق.. يذيع التليفزيون المصري خبر الوفاة و يغرق الشعب العربي في كل مكان في صدمة الحزن و لوعة الفُراق.. ثم فجأة ترتعش أجفان أم كلثوم وتعود الأجهزة لتنقل صافرات متقطعة تفيد بالحياة.. أم كلثوم لم تمت إذن.. بالحرف تصارع الموت.. يضج الطابق الذي يضم غرفة الست بالفرحة ويتبادل الناس نظرات الأمل..لم تمت بعد.. يضطر التليفزيون المصري إلى إعلان نفي للخبر الذي سبق وأن بثه وتناقله العالم العربي.. بل ويضطر وزير الإعلام أحمد كمال أبوالمجد إلى تقديم اعتذار جاء في نصه إنه لجمهور أم كلثوم ولطاقم مستشفى المعادي فالست لم تمت ويا لها من فرحة ويا له من أمل..الأطباء محتشدون من كل التخصصات وعمليات نقل صفائح الدم تتم.. القلب تتحسن حالته ولكن المخ يدخل في حالة سكون.. يعود اليقين بأنه الفراق متسللاً من باب الغرفة نصف المغلق أمام الحياة.. نصف المفتوح أمام الموت.
وفي الرابعة والنصف من مساء يوم الثالث من فبراير أعلن القلب الاستسلام بعد المخ و الكُلى.. كان القلب آخر ما وضع السلاح في مواجهة الموت و رفع يديه مستسلماً بعد صراع ١٠٠ ساعة لتُقر "الست" بأنه الفراق وأنه لا جدوى من مناجزة الموت و الموت حق. إذن كانت ضاحية المعادي آخر مكان شهد آخر أنفاس وآهات خرجت من صدر السيدة العجوز التي طالما تعلق العالم العربي بأنفساها وآهاتها وهي تغني، ولكن الزمالك كانت المستقر والمقام لسنوات طويلة سواء في بيتها الأول بالقرب من قصر آل لطف الله "ماريوت الزمالك حالياً" أو في بيتها الجديد على نيل الزمالك وقبل كل ذلك شارع قولة في عابدين حيث أول بيت لها في القاهرة بعد الاستقرار منتصف العشرينيات.. أين في كل الأماكن تلك من القاهرة نبحث إذن عن روح أم كلثوم! * "ده انا لو نسيت اللى كان... وهان عليا الهوان أقدر أجيب العمر منين؟!... وارجع العهد الماضي أيام ما كنا إحنا الاتنين...إنت ظالمني وأنا راضي" في العام الأول لمشروعي الهادف إلى الحفاظ على الذاكرة المصرية "القاهرة عنواني" الذي أطلقت من خلاله سلسلة عروض تبحر في تاريخ المصريين من خلال العلاقة بين البشر والمدينة كان يقيني أن اسم "أرواح في المدينة" هو الأنسب للحديث عن آلاف من المصريين الذين قدموا ما يستحق الذكر عبر تاريخنا ولا نعرف عنهم إلا القليل أو كلام معاد ومكرر دون الخوض في عمق ما قدموا.
أو عمق تجاربهم وكيف تأثروا بمدينة القاهرة وكيف أثروا هم في هذه المدينة. كان لأم كلثوم نصيب لا يستهان به بينما أبحر في أرشيف الصحافة المصرية وأرشيف السينما والإذاعة والتليفزيون.. ما كل هذا الحضور الطاغي والتواجد القاهر لكل التحديات والعابر للأجيال! ومن بين كل الأسماء العظيمة.. من بين كل المبدعين وكل القادة والمفكرين والعلماء والمغامرين والأبطال والوجهاء وأصحاب القصص الكبيرة.. قررت أن تكون أم كلثوم فقط من نحتفي بذكراها كل عام في موعد معلوم هو الأول من يناير.. تخيلته عيداً لأم كلثوم.. نبحث عن روحها في حضور جمهور كبير لا يفوت الميعاد و بحثاً في سيرتها المتجددة.
كل سنة نجد الجديد بالبحث والتنقيب. كان من الصعب فعلاً البدء في البحث عن روح أم كلثوم.. من أين يبدأ هذا البحث ؟!.. هل من تاريخ ميلادها الغامض والذي اختلف حوله المؤرخون فرجع البعض في الزمن إلى عام ١٨٩٨ وعلى الطرف الآخر من قال ١٩٠٨ وفي المنتصف من قال ١٩٠٤ و ١٩٠٢.. وكل صاحب رأي كون رأيه من شواهد ما اقتنع بها.. المهم في الأمر كله أن تاريخ ميلاد الست يوم ٣١ ديسمبر والدليل كونها كانت تحتفل به كل سنة وهناك أخبار عن ذلك نشرت في سنوات عديدة عن احتفال الست بعيد ميلادها في ڤيلا الزمالك.
هل نبدأ البحث من طماي الزهايرة تلك القرية التي اكتسبت شهرتها من شهرة الطفلة التي طالما لعبت في غيطانها وعلى جسور ترعها وكانت تغني بينما تجمع القطن مع بقية الأطفال في مواسم الحصاد ؟ روح أم كلثوم ليست مرتبطة فقط بأول نفس تردد في "طماي الزهايرة" أو آخر نفس تردد في "المعادي".. ففي الرحلة الطويلة محطات كثيرة تستحق البحث فيها وعنها. في شارع الشريفين حيث مقر الإذاعة الذي زارته كثيراً للغناء والتسجيل؟ ولم يكن هو أول مقر للإذاعة الرسمية التي انطلقت في مقر أصغر يوم ٣١ مايو ١٩٣٤ حين صدح صوت أم كلثوم في أول حفل شهري لها من خلال الإذاعة أم في مبنى ماسبيرو الذي شهد تسجيل أهم روائع الست مع بليغ وعبد الوهاب و سيد مكاوي في استديوهات خالدة.. خلدت بمن مر بها وما شهدته من إبداع؟ هل نبحث في حديقة أم كلثوم التي تحمل اسمها على نيل "المنيل" أمام جامع صلاح الدين حيث ولد حلماً لها اختفى برحيل جسدها كمنزلها الذي اختفى بعد وفاتها بفعل الطمع وإعلاء قيمة المادة على كل قيمة.
هذا الحلم الجميل بإنشاء دار أم كلثوم للخير مشروع ثومة الذي أطلقته مطلع السبعينيات وكانت تحلم بأن يضم استوديوهات بأسماء كبار الفنانين الذي آثروا حياتنا ودار للمسنين من الفنانين والعازفين وفندق يدر دخلاً للإنفاق على هذا كله.. قليل من يعرف أن سر تسمية الحديقة باسم أم كلثوم كونها اختارتها مع محافظ القاهرة وقتها كمكان لمشروعها.. بل ووضعت حجر الأساس باسمها هناك مع عثمان أحمد عثمان رئيس شركة المقاولون العرب.. و اطلقت يا ناصيب للمشروع وجمعت حوالي ٧٠ ألف جنيها وتبرعت بمبلغ مماثل و لكن الحرب في أكتوبر ١٩٧٣ ثم المرض كانا أبرز ما أعاق المشروع و شاع وقتها أيضاً أن ضغوط ومعوقات من سيدة مصر الأولى وقتها جيهان السادات وقفت أمام المشروع كون چيهان السادات وقتها المسئولة عن أهم الجمعيات الخيرية العاملة في هذا المجال وعلى رأسها الوفاء والأمل. * "صعبان عليا أقول لك كان... والحب زي ما كان وأكتر وأفكرك بليالي زمان... وأوصف فى جنتها وأصور" يستمر صوت ثومة المنبعث من الغرفة ذات الباب نصف الموصد نصف المفتوح في آخر البيت يتسلل إلى نفسي بينما فيض النور يتدفق من انفراجة الباب وبينما أسمعها تغرد مع السنباطي ورامي "جددت حبك ليه" في حفلها الشهري بمسرح حديقة الأزبكية.. كانت ثومة في قمة تألقها وكانت مصر كلها تصدح معها "جددت حبك ليه بعد الفؤاد ما ارتاح".. كانت ثومة جميلة كمصر.. متألقة كمصر.. مبدعة كمصر. إذن فلنبحث عن روح ثومة في حديقة الأزبكية.. لما لا؟!.
أليست تلك الحديقة التي ضمت مطلع العشرينيات أول جمهور منتظم في القاهرة للآنسة القادمة من الدقهلية أم كلثوم إبراهيم؟!.. هنا في صالة سانتي المقابلة للباب البحري لحديقة الأزبكية حيث غنت في بداياتها للشيخ أبو العلا محمد و للشيخ سيد درويش وأطربت أهل القاهرة فعشقوا صوتها.. تلك الصالة التي اختارها لها المعلم صديق أحمد أول متعهد حفلات لها والذي ربح ثروة طائلة من صوت أم كلثوم أضاعها كلها على عشرات الزيجات انتهت كلها بالطلاق فرتبت عليه أحكام شرعية بالنفقة وخلافة تعدت المئة حكم فانتهت حياته متسولاً على رصيف شارع عماد الدين بعد أن كان لقبه "إمبراطور عماد الدين". هل كان يستحق المعلم صديق هذا المصير؟!.. لا أستطيع الجزم.. ولكن لماذا لم تتدخل أم كلثوم في سنوات مجدها لإنقاذ المعلم صديق.
لماذا تركته ملقى على رصيف عماد الدين متسولاً وهو رفيق سنواتها الأولى؟! تحكي الست أم كلثوم لأستاذ وجدي الحكيم الإذاعي الكبير في قصة حياتها قصتها مع صديق أحمد بألم وغيط فلقد استغل سذاجتها هي ووالدها في البدايات أسوأ استغلال ويكفي أنه كان يمنع الجمهور من دخول صالة سانتي حتى الدقائق الأخيرة من رفع الستار وكان يأتي بأم كلثوم ووالدها من الكواليس ويفتح لهم الستار ليطالعوا المقاعد الفارغة في الصالة ويوهم الفتاة الصغيرة أن الجمهور غير مقبل عليها وبالتالي يخسر صديق أحمد الطيب أمواله بالشغل مع أم كلثوم فتخجل من نفسها وإذا ما بدأ الحفل يُفتح الباب ويدخل الجمهور وتستبشر الفتاة ووالدها بذلك يسارع صديق إلى الادعاء بأنه "لَمّ" الجمهور من على المقاهي المجاورة مجاناً من أجل خاطر الفتاة الصغيرة "أم كلثوم"!! الحق أن أم كلثوم قابلت سفالات كثيرة في حياتها ولكنها لم تقف مكتوفة الأيدي في أي وقت.. في حياتها قصتين أراهما حاسمتين وضروريتين في البحث عن روحها المتشعبة والموجودة في أكثر من مكان.. الأولى كانت قصتها في الكُتاب مع زميلتها التي كانت تناصبها العداء وتحرض عليها الشيخ عبد العزيز شيخ الكُتاب القاسي الذي طالما عاقب الطفلة أم كلثوم بالضرب.
اعتبرت ثومة أن زميلتها هي السبب واستقر في عقلها ضرورة عقاب هذه الزميلة الصغيرة فقررت الذهاب إلى الكُتاب مبكراً قبل الجميع وكسر لوح الإردواز الخاص بزميلتها التي تتسبب في تعرضها للضرب كل مرة.. (لوح الإردواز هو لوح حجري يستخدمه طالب الكتاب في الكتابة كسبورة صغيرة يسجل عليها فروضه وواجباته) وتحكي ثومة بروح طفولية ذلك واستمرت في رأيي بعد ذلك على نفس الوتيرة.. لا تسمح لأحد بإزعاجها.. ولا تتردد في عقاب من يعتدي عليها. شيء من ذلك أدى لأن أصبحت ثومة مهابة الجانب في كل العصور التي عبرتها بعمرها الطويل. القصة الثانية كانت بعد أن زاع صيتها في "الناحية" وعرفها أهل القُرى المجاورة.
حينها بات الطلب عليها معقولاً ثم أصبحت الدلتا كلها تطلب أم كلثوم الصبية الصغيرة بارعة الصوت وفرقتها المكونة من والدها وأخيها خالد و قريب لهما .. حينها عرفت ثومة القطار.. فكانت تتنقل من بلد لبلد ولكن المسافة بين كل قطار والذي يليه بعيدة تمتد لساعات.. أين ستجلس الصبية الصغيرة في برد الريف المصري في ليالي الشتاء.. لابد من الدخول إلى غرفة مغلقة دافئة ولا توجد في المحطة غرفة بهذه المواصفات سوى غرفة ناظر المحطة "أعلى مسئول فيها".. ولكي يسمح لها الناطر بالجلوس طويلاً هي و فرقتها المكونة من أسرتها كان عليها أن تغني للناظر.. وهكذا غنت أم كلثوم لكل ناظر محطة في دلتا مصر.. ثم غنت – في رأيي – لكل ناظر محطة قابلته في حياتها لا نفاقاً أًو طلباً لمصلحة.
ولكن الغرفة الدافئة في المحطة الباردة كانت دائماً بباب واحد و كان صوت أم كلثوم دائماً مفتاح هذا الباب.. أم كلثوم القوية لا تعرف سوى الأقوياء و تعرف كم هي قوية وتحترم ذلك فيحترمها الجميع. "أنت النعيم والهنا... وأنت العذاب والضنا والعمر إيه غير دول؟! إن فات على حبنا... سنة وراها سنة حبك شباب على طول" تقترب "جددت حبك ليه؟" من نهايتها ويأتي صوت تصفيق الجمهور الحار من انفراجة باب الغرفة في نهاية البيت و التي يتدفق منها النور الدافئ مع صوت "الست" وبينما تلتهب الأكف بالتصفيق و يطالب الجمهور في مسرح الأزبكية بالإعادة معجباً ومبهوراً برائعة أحمد رامي والسنباطي التفت إلى أن تاريخ الحفل كان ٣ فبراير ١٩٥٢.. نفس يوم الوفاة ولكن قبل ٢٣ سنة.. وفي فبراير ١٩٧٣ كان الجمهور على موعد مع صدمة كبيرة وهو عدم تمكن الست من تقديم حفلها الشهري بعد حفل يناير ١٩٧٣ الذي بدت فيه متحاملة على نفسها ومريضة ومرهقة وحزينة.
ثم لم تتمكن ثومة من تقديم أي حفل بعد ذلك.. انتظر الجمهور وقتها حفل فبراير ١٩٧٣.. انتظر ٢٤ شهر ليلتقي الجمهور أم كلثوم في أخلد لقاء التحم فيه معها في جنازة فبراير بدلاً عن حفل فبراير.. الجنازة الخالدة التي ودعت فيها مدينة القاهرة ومصر والعالم تلك السيدة التي لم تشبهها سيدة في تاريخ الفن العربي.. السيدة التي أثبتت أن غول النسيان يركع خاضعاً ليعلن الهزيمة أمام صوتها وسيرتها .. مرة أخرى يأتيني صوتها من الغرفة المضاءة في آخر البيت المظلم وقد انفرج بابها نصف المفتوح نصف الموصد ليتسلل منه صوتها مغرداً "أنساك!.. ده كلام؟.. أنساك! ياسلام!! أهو ده اللي مش ممكن أبداً".