رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


القصبجى سطوة النغم.. وسياط الألم

3-2-2025 | 14:19


محمد الشافعي,

 طائر مغرد، يحلق في سماوات الإبداع، يستحلب عذوبة وعذابات الكون، يغرسها في أرحام النغمات البكر، لتلد ألحان الشجى والبهجة، لكن الطائر المتفرد ، يدخل مرغماً ، وربما راغباً، شرنقة الأسى، ليئد أجنة النغم، ويغتال أجنحة التجديد والتجويد، ليتوه الإبداع المدهش، فى متاهات جب عميق، داخل سجون الخرس. مارد عملاق، عشقته عرائس الموسيقى، يتراقصن على أوتار عوده، يأسرن الألباب، يبهرن الأسماع، يسكن القلوب، لكن مارد الإبداع يترك مرغما، وربما راغبا، براح المدى، ولذة السبق والسباق، ليدخل فى (قمقم) مصنوع من كرسى خشبى. عاشق سباه العشق، فصار راهباً صوفياً، يجلس عند أقدام المحبوب، بل صار مازوخياً يستعذب العذاب، ويقتات مرارات الصد والجوى، حتى اكتوى الفؤاد، وشابت الخلايا، وطاردته أسقام القلب والقالب، ليرحل محمولا على أكتاف الإعجاب والشفقة واللوم والرحمة. إنه الرائد الموسيقى المجدد والمجيد الموسيقار محمد القصبجى، الذى كان المؤسس، والأكثر مشاركة فى صناعة أسطورة سيدة الغناء العربى أم كلثوم، ولكنه رحل مصلوباً على أعمدة تلك الأسطورة.

ولد محمد على القصبجى فى الخامس عشر من أبريل عام 1892 (نفس العام الذى ولد فيه سيد درويش)، بحى عابدين بالقاهرة، ليجد والده مقرئاً ومنشداً وعازفاً بارعاً لآلة العود، وقرر الوالد أن يدفع ابنه ليكون من علماء الدين، فدفع به إلى الكتاب ليحفظ القرآن الكريم، ومن الكُتاب إلى الأزهر الشريف، بينما كانت الأم تتمنى أن يصبح ولدها (أفندى)، يلبس الطربوش، ويتكلم بـ (الإفرنجى)، ولكن نداهة الموسيقى امتلكت فؤاد الفتى، حيث يعيش فى بيت موسيقى، ويذهب مع والده لمشاهدة مسرحيات الشيخ سلامة حجازى، وتعلم من والده فنون العزف على العود.

وتؤكد صورته التى انطبعت فى أذهان الناس، من خلال جلسته المستكينة محتضناً عوده، خلف أم كلثوم، إنه أقرب إلى الرهبان فى معابد مصر القديمة، أو المعابد البوذية، هادىء ومستكين يعيش فى ملكوته الخاص، إلا أن الرجل منذ شبابه الباكر كان مغامراً، ويدخل إلى عالم الأعمال الغريبة، حيث التحق أثناء دراسته بالأزهر بوظيفة مساعد سائق (عطشجى) فى السكة الحديد، ولكن سرعان ما تم فصله، لأنه تسرع بقيادة أحد القطارات، قبل أن يستكمل مراحل التعلم، وكاد أن يتسبب فى كوارث كبيرة، ومن السكة الحديد إلى إحدى المطابع، ليعمل فى (صف الحروف)، واعترض والده على عمله فى تلك المطبعة، فتركها وترك الأزهر، وذهب إلى مدرسة المعلمين عام 1911، وتخرج منها عام 1914، ليعمل مدرساً للغة العربية لمدة ثلاث سنوات مقابل جنيه واحد شهرياً، ولكن مغامراته العجيبة دفعت به إلى عالم تصليح الساعات، وهى الهواية التى لازمته حتى نهاية حياته، وعمل بالفعل إلى جانب التدريس، فى محل لاصلاح الساعات، لكنه لم يحتمل التدريس أكثر من ثلاث سنوات، واستثمر إجادته للعزف على العود، وعمل فى أكثر من تخت بدأها بتخت محمد العقاد الكبير عام 1919، ثم تخت سيد الصفتى، وتخت عبدالله الخولى، وتخت سالم العجوز. قرر القصبجى التفرغ للموسيقى والألحان، فلحن لنفسه وغنى بعض الأغنيات، التى لم تجد حظها من الشهرة والذيوع مثل (يا قلب ليه سرك تذيعه للعيون – الحب له فى الناس أحكام)، وكانت أول أغنية من نظمه وتلحينه بعنوان (ماليش مليك فى القلب غيرك).

وتم تسجيل هذه الأغنية بصوت المطرب زكى مراد، والد ليلى مراد، وأول عمل احترافى للقصبجى دور (وطن جمالك فؤادى يهون عليك ينضام) ، من كلمات شاعر عصره الشيخ أحمد عاشور، وبداية من عام 1920 أخذ القصبجى اتجاها جديداً فى تلحين الطقاطيق، التى كتبها الشيخ يونس القاضى، ومنها (بعد العشا – شال الحمام حط الحمام)، وغنى من ألحانه فى البدايات سيد الصفتى – صالح عبدالحى، وفى ذات العام تعرف على داود حسن وزكريا أحمد والمطرب الشاب محمد عبدالوهاب. وفى عام 1923 استمع لأول مرة إلى أم كلثوم، وهى تشدو بقصائد مدح الرسول وأعجب بصوتها، وصعد إلى المسرح ليقدم لها التحية وقرر أن هذا الصوت هو الجدير بأن يحمل ألحانه إلى الناس، وفى عام 1924 جاءت أم كلثوم لتستقر فى القاهرة، وفى ذات العام بدأ تعاونها مع القصبجى عن طريق شركة أوديون من خلال أغنية (قال إيه حلف ما يكلمنيش). وقد كتب القصبجى تفاصيل بداية تعرفه وتعاونه مع أم كلثوم قائلا (كان أبى من أصدقاء متعهد الحفلات الشيخ محمد أبوزيد، وصحبنى لكى نستمع إلي أم كلثوم، وأعجبت بصوتها، وصعدت إلى خشبة المسرح، لأرى عن قرب صاحبة هذا الصوت الجميل، وألقيت عليها التحية، فردت التحية وكان ذلك عام 1923، وفى منتصف عام 1924 لحنت لها عن طريق شركة أوديون أغنية (قال إيه حلف مايكلمنيش)، واصطحبنى ألبير ليفى مدير الشركة إلى بيتها فى شارع قولة بحى عابدين، وقام بتعريفى عليها قائلا (الشيخ محمد القصبجى صاحب قال إيه حلف .

ومنذ ذلك اليوم بدأت علاقتى بها، وهى التى عرفتنى بالشاعر أحمد رامى). وقد حرص القصبجى منذ بداياته الأولى، على أن يزاوج ما بين موهبته الفطرية الكبيرة، وثقافته الموسيقية الواسعة، فغاص فى أعمال الموسيقى الشرقية، واطلع بشغف على الموسيقى الغربية، واقتنى الكثير من اسطواناتها، وقد ظهر ذلك جلياً عندما قام بتكوين فرقته الموسيقية الخاصة عام 1927، عندما ضم إليها أبرع العازفين، مثل محمد العقاد على القانون، وسامى الشوا أمير الكمان، وهو على العود، وعمل على تطوير الفرقة الموسيقية التقليدية، فأضاف إلي فرقته آلتى الكونترباص والتشيللو، وهما آلتان غربيتان، تعمل على إصدار نغمات مصاحبة فى منطقة الأصوات المنخفضة، ليعطى خلفية غنية للحن الأساسى، وعمقاً لأداء الفريق الموسيقى لم يكن معهوداً من قبل فى الموسيقى الشرقية، التى اعتمدت طوال تاريخها على التخت الشرقى البسيط، المكون عادة من العود والكمان والقانون، بالإضافة إلى آلة إيقاع، وهذه الإضافة تؤكد أن القصبجى امتلك منذ بداية مشواره طموحات موسيقية، تجاوزت حد التلحين والغناء.

وأنه قرر استثمار ملكاته ومواهبه، فى تطوير الأداء وتقديم الجديد فى فن الموسيقى، وقد ظهر ذلك سريعاً من خلال لحن (إن كنت أسامح وأنسى الأسية)، الذى شدت به أم كلثوم عام 1928، ذلك اللحن الذى يؤكد الدور العبقرى الذى لعبه القصبجى فى تطوير فن المونولوج، ذلك الدور الذى جعله فى صدارة أعلام الموسيقى العربية خلال القرن العشرين، وتحول هذا اللحن إلى بداية عهد جديد لأم كلثوم قفز بها إلى قمة الغناء، ومولد إتجاه جديد فى ألحان الأغنية الفردية، وقد تخطى توزيع هذا اللحن مليون أسطوانة، محققاً أكبر أرقام التوزيع.

وإذا كان الشيخ إبراهيم البلتاجى هو الذى اكتشف صوت ابنته أم كلثوم، وإذا كان الشيخ أبوالعلا محمد، هو الجسر الذى عبرت عليه أم كلثوم من الإنشاد الدينى إلى الغناء العادى، فالقصبجى هو المعلم الثالث والأهم لأم كلثوم، حيث فتح أمام صوتها الأبواب المشرعة والآفاق الواسعة، ووضع كل عبقريته الموسيقية التجديدية فى خدمة صوتها العبقرى، وهو الأستاذ الذى عمل على تكوين فرقتها الموسيقية. وإتجه إلى المسرح فى سنوات إبداعه الأولى، فتعاون مع منيرة المهدية فى مسرحيات (المظلومة – كيد النسا – حياة النفوس – حرم المفتش)، وقدم لنجيب الريحانى ثلاثة ألحان فى أوبريت (نجمة الصباح)، وبعد أن وضع أم كلثوم على طريق المجد والطرب، اكتشف ليلى مراد عام 1932، عندما سمع صوتها فى بيت والدها زكى مراد، كما تعاون مع اسمهان أول مرة فى عام 1933، وسعى لتقديم ليلى مراد لأول مرة فى فيلم الضحايا، بطولة بهيجة حافظ، كما شاركها الغناء فى فيلم (ليلى فى الظلام).

رحل فارس التطوير سيد درويش فى سن مبكرة، فامتطى القصبجى صهوة جواد التجديد، وراح يحفر بصماته العبقرية فى كل جنبات فن الموسيقى، حيث يحتضن ويكتشف الموهوبين، ويضع لمساته السحرية على مواهبهم، فعل ذلك مع كثيرين مثل محمد عبدالوهاب، رياض السنباطى، فريد الأطرش، ليلى مراد، أسمهان ...... إلخ، وفى عام 1936 ذهب إلى استخدام الهارمونى (تعدد الأصوات)، والبوليفونى (التوافق الصوتى)، وتسخيره فى خدمة اللحن العربى، والشخصية العربية، وبرز ذلك فى لحن نشيد الأمل الذى غنته أم كلثوم، ليصبح زعيما للتجديد فى الموسيقى العربية، مع الحفاظ على النغمة الشرقية الأصيلة، وبرز ذلك فى ألحانه لكبار مطربى عصره أم كلثوم، منيرة المهدية – صالح عبدالحى – نجاة على – ليلى مراد – أسمهان، حيث قدم أعمالا سابقة لعصرها فى الأسلوب والتكنيك، وأضاف للموسيقى العربية ألواناً من الايقاعات الجديدة، والألحان سريعة الحركة، والجمل اللحنية المنضبطة، البعيدة عن الارتجال، والتى تحتاج إلى عازفين مهرة على دراية بأسرار العلوم الموسيقية، واستطاع استثمار الأصوات الجميلة لأم كلثوم، وأسمهان وليلى مراد وفتحية أحمد، كوسيط عبقرى، لكى تصل ألحانه إلى الناس، وساهم بالقدر الأكبر فى صناعة شهرة وتميز هذه الأصوات، وأجاد التحليق فى الأجواء الرومانسية، واكتسبت ألحانه شهرة واسعة، وجمهوراً عريضا، ويجمع كل خبراء الموسيقى، على أن تلك الألحان هى التى وضعت أم كلثوم على القمة. ولم تتوقف عطاءاته التجديدية عند ألحان الأغانى، ولكنه ترك بصمات واضحة فى مجال الموسيقى البحتة، من خلال العديد من المقطوعات، مثل (ذكرياتى)، حيث قدم الكثير مما يطمح إليه من تطوير، وقد برع فى تقديم أفكار موسيقية جديدة، فتحت الباب للتنوع والابتكار، واستطاعت كسر القالب التركى القديم من ميزان السماعى، إلى إيقاعات متنوعة، وتكنيك جديد، خاصة فى فتون العزف على العود.

كما نجح فى اختيار الكلمات الرقيقة، ليكسوها بألحانه الشاعرية، التى اجتذبت جمهور المثقفين من أبناء الطبقة الوسطى، تلك الطبقة التى بدأت تتشكل بصورة جنينية بعد ثورة 1919. وظل القصبجى طوال الوقت صاحب مدرسة خاصة ومتفردة فى الغناء والتلحين، لم يقلد أحداً حيث صنع فى ألحانه نسيجا متجانساً، من الأصالة والمعاصرة، أصالة الشرق، وتطور الغرب، فتحول إلى فاتح عظيم، ارتقى بالموسيقى الشرقية نحو عوالم جديدة، من خلال تضفير العنصر الموسيقى المتجدد، مع العنصر الغنائى فى كل أعماله، فاتسمت ألحانه بالرشاقة وسهولة أدائها، وقد أثبت قدرته على تغيير الفكر الموسيقى، وأسلوب الأداء، بما يجعل إضافاته أساساً اتكأ عليه كل من جاء بعده. عاش القصبجى 74 عاماً (1892 – 1966)، ولكن عمره الإبداعى لم يصل إلى ربع قرن (1924 – 1947)، ورغم ذلك كان غزير الإنتاج، حيث أبدع أكثر من ألف لحن، قبل أن يصاب بالعقم الإبداعى، قبل رحيله بما يقرب من العشرين سنة، وقدم لأم كلثوم وحدها أكثر من 70 أغنية، تمثل حوالى ربع كل ما شدت به، بينها بعض الأغانى المفقودة، بدأت بأغنية (قال إيه حلف) عام 1924، وانتهت بالأغانى الثلاث التى لحنها فى فيلم فاطمة آخر أفلام أم كلثوم عام 1947، وجميع هذه الأغانى من كلمات أحمد رامى إلا خمس أغنيات فقط، لتصبح ثنائية رامى القصبجى، أغزر الثنائيات الكلثومية إنتاجاً، ومن هذه الأغنيات (طالت ليالى البعاد – هايم فى بحر الحياة – البعد طال – زارنى طيفك – سكت والدمع اتكلم – إن كنت أسامح – الشك يحيى الغرام – إنت فاكرانى – يا اللى جفاك المنام – ليه تلاوعينى – الزهر فى الروض – مادام تحب بتنكر ليه – نور الفجر – يا قلب بكرة السفر)، وقد توج كل ألحانه لأم كلثوم برائعته الخالدة (رق الحبيب)، التى أبدعها عام 1944.

وكان القصبجى حاضراً وبقوة، فى الأفلام الستة التى قدمتها أم كلثوم للسينما، حيث غنت أم كلثوم من ألحانه فى فيلم وداد (1936)، أغنيتين يا طير يا عايش أسير – يا اللى ودادى صفالك، وفى فيلم أنشودة الأمل (1937)، غنت أربع أغنيات يا مجد ياما اشتهيتك – يا اللى صنعت الجميل – منيت شبابى – أغنية الطفل، وفى فيلم دنانير 1940 غنت ثلاث أغنيات، الزهر فى الروض تبسم – يا فؤادى غنى – أنشودة النبع – وفى فيلم عايدة 1942، غنت الفصل الأول من أوبرا عايدة، وفى فيلم سلامة 1945، قام زكريا أحمد بتلحين كل أغانى الفيلم، وفى آخر أفلامها فاطمة 1947 غنت ثلاث أغنيات نورك يا ست الكل – يا صباح الخير – نصرة قوية، وكانت أغانى فاطمة آخر الألحان التى قدمها القصبجى لأم كلثوم.

وفى كل هذه الألحان كان رائداً للتجديد، الذى يستند إلى معادلة ثقافية فنية دقيقة التوازن، بين جذوره العميقة فى تربة المقامات العربية، وبين آفاقه الإبداعية الواسعة، المفتونة بإنجازات الموسيقى الأوربية الكلاسيكية، ليجمع بين الحداثة والرومانسية، فى نسيج جديد على الموسيقى العربية، وقد تنوعت إنجازاته فى تطوير الموسيقى البحتة، وشكل التخت الشرقى، والأهم تطوير القوالب الغنائية المونولوج، الدور – الطقطوقة – ليقدم من خلال كل هذا أعمالا سابقة لعصرها فى الأسلوب والتكنيك، وأضاف للموسيقى الشرقية ألواناً من الإيقاعات الجديدة، والألحان سريعة الحركة، والحيل اللحنية المنضبطة، البعيدة عن الارتجال، وفى كل محاولاته التطويرية، لم يسع أبدا إلى الاقتباس من التراكيب أو الجمل الموسيقية الغربية، ولكنه عمل على إنقاذ أغانينا من التنغيمات المتشابهة، والايقاعات الرتيبة، عندما أدخل الجمل الموسيقية الانسيابية، التى بدأت بلحن (إن كنت أسامح وأنسى الآسية)، الذى شدت به أم كلثوم، وقد عملت تلك الانسيابية على إنقاذ الموسيقى العربية من رتابة القوالب التركية والموشحات الأندلسية. وإذا كان زكريا أحمد أول من عمل على تبديل ألحان الأغصان فى الطقطوقة، فقد ابتكر القصبجى نمطاً جديداً فى الطقطوقة، دامجا فيها المذهب أو جزءً منه بآخر الغصن، فلم يعد المذهب مستقلا ، كما عمل على تبديل لزمة كل غصن – لتتناسب مع لزمة مقام الغصن الذى يليها.

وراح القصبجى خلال سنوات التوهج الإبداعى (1924 – 1947)، يقدم ألحانه فى أفلام كبار المطربين أم كلثوم – أسمهان – ليلى مراد – إبراهيم حمودة – عبدالغنى السيد – نور الهدى – صباح – هدى سلطان ، ورغم أن قدراته الفنية كانت تؤهله ، لتقديم أكثر كثيراً مما قدمه، إلا أنه أصيب فجأة بالشلل الفنى ، والعقم الإبداعى، وارتضى مرغما، وربما راغبا، أن يكون مجرد عازف لآلة العود فى فرقة أم كلثوم، يعزف من دون حتى أن يقدم (صولو منفرد)، يبرز قدرته العبقرية فى العزف على العود، جلس قرابة العشرين عاماً على ذلك الكرسى الخشبى اللعين، ذلك الكرسى الذى تحول إلى قمقم انطفأت بداخله أنوار النجم الذى كان متوهجاً، وراح الكثيرون يبحثون عن أسباب ذلك الأفول، وعن السر فى عدم حصول هذا العملاق، على الشهرة التى توازى موهبته وعطاءه، وذكروا الكثير من التفسيرات، بعضها ساذج مثل أنه لم يكن يملك صوتا جميلا لكى يغنى ألحانه بنفسه، أو لأنه توقف عن التلحين قرابة العشرين عاما، وجاءت بعض التفسيرات أكثر عمقاً، مثل أن تركيبته المزاجية والنفسية الحالمة والاكاديمية، جعلته لا يتوغل فى المنطقة الشعبية من الفن، حيث إعتمد فى غالبية ألحانه على أشعار أحمد رامى وهو شاعر رومانسى غير شعبى، بينما اعتمد سيد درويش على أشعار بديع خيرى، واعتمد زكريا أحمد على أشعار بيرم التونسى، وكلاهما له نكهة شعبية جذابة، وذهب البعض إلى أن ابتعاده عن المسرح الغنائى رغم إمكاناته الهائلة التى كانت تدفع به ليكون رائداً فى هذا المجال، قد أثر سلباً على مشواره الفنى، وذهب البعض إلى أن عدم تقديمه لكثير من قصائد الشعر الفصيح، قد أثر سلباً على مشواره الفنى، عكس تلميذيه عبدالوهاب والسنباطى. وقد تحمل كل تلك التفسيرات بعضاً من الوجاهة، ولكنها ليست السبب الحقيقى، حيث يكمن سر أفول القصبجى عند أم كلثوم، تلك الأسطورة الغنائية، التى تحولت إلى نور ونار، نور يجذب كل الرجال الذين اقتربوا منها أو تعاملوا معها ليقعوا فى عشق (الأنثى) قبل الفنانة، ونار تحرق تلك الفراشات، التى جاءت بالإرادة أو منقادة إلى هذا الفخ الإنسانى العجيب، وكان القصبجى واحداً من هؤلاء العشاق، ولكنه ، ومعه أحمد رامى، غير كل العشاق، فعندما أعلنت أم كلثوم خبر زواجها من الموسيقار محمود الشريف، انطلق أحمد رامى هائماً على وجهه فى الشوارع وهو بثياب المنزل، بينما انطلق القصبجى إلى بيت أم كلثوم، وهو يحمل فى يده مسدساً يريد قتل محمود الشريف، وعندما رأته هذه المعشوقة الجبارة سألته (إيه اللى فى إيدك ده يا قصب)، فسقط المسدس من يده وتحول إلى حمل وديع. وبعيداً عن القصبجى العاشق، الذى تجرع كؤوس الصد والجوى والهوان، فقد اشتهرت أم كلثوم بقدرتها على استحلاب إبداعات عشاقها المبدعين، والحفاظ على (شعرة معاوية)، التى تجعل هؤلاء المبدعين العشاق، يستمرون فى إبداعاتهم، ولكنها لم تفعل ذلك مع القصبجى، حيث غضبت منه مرتين، وكأن هذا الغضب قد تحول إلى حكم بالإعدام الفنى على هذا المبدع الكبير، وكانت الغضبة الأولى عندما فشل فيلم عايدة عام 1942، ورأت أم كلثوم تحميل القصبجى مغبة هذا الفشل، نتيجة ألحانه التى حملت النكهة الأوبرالية، التى لم يستسغها مستمعوها، رغم أن هذه الألحان كانت خطوة من خطوات التطوير، التى أنجزها القصبجى على طريق تطوير الموسيقى العربية وتحول هذه الفشل إلى بداية النهاية فى العلاقة التى ربطت صوت أم كلثوم بألحان القصبجى. أما الغضبة الثانية والأكبر فكانت بسبب الألحان التى قدمها القصبجى للصوتين الجميلين أسمهان وليلى مراد، وخاصة أسمهان التى رأى فى صوتها فرصة لتطوير الأغنية العربية، من خلال تطبيق قواعد الأداء الغربى المتطور، مع الاحتفاظ بأسس الموسيقى العربية ومذاقها، وقد لاقت تجربته مع صوت أسمهان نجاحاً كبيراً خاصة فى أغانى مثل الطيور، إمتى هتعرف ، ليت للبراق عينا، وانفجر غضب أم كلثوم.

لأن هذه الألحان، وضعت أسمهان فى مكانة تجعلها الأقرب من بين كل المطربات على منافستها، ورغم غضب أم كلثوم لم يتوقف القصبجى عن دعم صوت أسمهان، بكل ما يحمله من مساحات مبدعة تستوعب كل أفكار التطوير الموسيقى، وتحول غضب الست إلى قرار بعدم غناء ألحان القصبجى، وشاءت الأقدار أن تموت أسمهان في ذلك الحادث المأساوى عام 1944، ليخسر القصبجى الصوتين العبقريين معاً، والغريب أنه لم يراهن على صوت ليلى مراد الجميل، ففى عام 1947 الذى توقفت أم كلثوم بعده عن غناء ألحان القصبجى، قدم لحن قلبى دليلى لليلى مراد، ذلك اللحن الذى نجح نجاحاً كبيراً. وأكد على أن صوت ليلى مراد واعد وقادر على استيعاب الكثير من ألحان القصبجى، ولكن الرجل، ربما خشية من تزايد غضب أم كلثوم، والطرد من جنتها، قرر أن يدخل بإرادته فى شرنقة من الخرس الفنى، ظل حبيساً بداخلها ما يقرب من العشرين عاماً، حتى رحل عن دنيانا عام 1966، ورغم ذلك ظل صاحب مدرسة، تخرج فيها كل الكبار الذين جاءوا بعده، لأن موسيقاه حملت إضافات جديدة، استمرت كملامح أسياسية فى الموسيقى العربية حتى الآن. وقد سأله الموسيقار كمال الطويل عن سر توقفه عن التلحين فقال (كلما شرعت فى التلحين لأم كلثوم، أجد غمامة سوداء أمامى تمنعنى من استكمال اللحن)، وكأنه قد قرر ألا يلحن إلا لأم كلثوم. وظلت أم كلثوم محور حياة هذا العاشق المكلوم طوال حياته، حتى عندما سافر خارج مصر للعلاج، لم يشغله المرض عن كتابة الكثير من الخطابات لمعشوقته، يؤكد فيها شعوره بالفراغ الكبير فى غيابها، بينما كانت أم كلثوم تقول إن ما يربطها بالقصبجى هو العمل فقط، ولكنها أنصفته كملحن عبقرى عندما قالت بعد رحيله (القصبجى موسيقى سابق لعصره، عالم فى الموسيقى، وكل الملحنين الذين جاءوا بعده، عندما يسلكون أى طريق فى الإبداع الموسيقى، يجدونه قد سبقهم إليه).

كما احتفظت بعد رحيله لفترة طويلة بالكرسى الذى كان يجلس عليه خالياً، فى عدد كبير من حفلاتها. وإذا كان الشاعر أحمد رامى قد ظل طوال حياته عاشقاً ومحباً لأم كلثوم، إلا أنه استطاع الزواج وتكوين أسرة وإنجاب الأبناء، ولكن القصبجى ظلت حياته طوال الوقت مرتبكة بسبب هذا العشق المدمر، ويتردد أنه تزوج أكثر من مرة، ولكنه لم ينجب أى أبناء، وكان مسئولا عن شقيقاته وأبنائهن. وقد استطاع المؤرخ الموسيقى محمود كامل رصد الكثير من أعمال وحياة القصبجى في كتابه المهم (محمد القصبجى، حياته وأعماله)، وقد عانى الرجل كثيراً فى آخر حياته، حيث تكالبت عليه الأمراض، مما أصابه بالشلل، كما أصيب بالاكتئاب الذهانى، ورغم كل ما قدمه للموسيقى والفن، لم يحظ بالتكريم الذى يوازى هذا العطاء واقتصر هذا التكريم على عمله أستاذاً للموسيقى الشرقية وآلة العود، بالمعهد العالى للموسيقى العربية، كما منحه الزعيم جمال عبدالناصر وسام الفنون والآداب من الدرجة الأولى، ولكنه لم يحصل على جائزة الدولة التقديرية، وكان جديراً بها.

وبعيداً عن الإبداع الموسيقى امتلك القصبجى وجهاً آخر غريباً ومثيراً، حيث لم يتعامل طوال حياته مع أى صنايعى (كهربائى – سباك – نجار ..... إلخ)، حيث كان يتولى إصلاح كل شىء فى بيته بنفسه، ذلك البيت الذى كان عبارة عن متحف غريب وعجيب فى محتوياته، لوجود العديد من ساعات الحائط ، واطارات الكاوتشوك، والعديد من أنواع الأدوية لمختلف الأمراض، والعديد من عِدد التليفون، وأكثر من عشرة أعواد يعزف عليها. ورغم كل هذه الغرائب والعجائب، إلا أن ما تبقى من الموسيقار محمد القصبجى، هو أنه نقطة تحول فى تاريخ الموسيقى العربية، وأنه صاحب مدرسة جديدة وفريدة، وثقت بين الكلمة واللحن، وظلت طوال الوقت مرتبطة بالاصالة العربية، ومستوعبة للتطويرات الغربية، تلك التطويرات التى ظلت دائما ذات روح عربية خالصة.