نجمة السينما.. المغنى حياة الروح
علاقة أم كلثوم بالسينما هي نفسها علاقة المطربة بالمسرح، فقد أدركت تماما أن الجمهور الذي يرغب في مشاهدة فيلما من بطولة الآنسة أم كلثوم يريد الاستماع إليها وهي تغني، ولا يبحث عن قصة أو أداء تمثيلي قدر شوقه إلى صوتها العذب السليم الذي سيطر على حواس وآذان المصريين والعرب، لذلك عندما تحدثت لصديقها الشاعر أحمد رامي عن رغبتها في تقديم قصة الجارية «وداد» في فيلم سينمائي كان أول سؤال يطرحه عليها: وهل في القصة مواضع للغناء؟ فقالت له: هذه هي مهمتك.
أحب في بداية الحديث عن أفلام أم كلثوم الإشارة إلى موسوعة "تاريخ السينما في مصر" للمؤرخ والناقد الكبير أحمد الحضري الذي أمتع القارئ بتفاصيل ما نشرته الصحافة عن الأفلام المصرية منذ البدايات الأولى للسينما وحتى منتصف القرن العشرين.. وقد أنجزت كوكب الشرق أفلامها بين عامي 1936 و1947، وكانت البداية مع فيلم وداد إنتاج عام 1936 إخراج الألماني فيرتز كرامب ثم "نشيد الأمل" 1937 إخراج أحمد بدرخان والذي أخرج لها أيضا "دنانير" عام 1940 و"عايدة" عام 1942 و"فاطمة" عام 1947 بالإضافة إلى الفيلم الوحيد الذي أخرجه لها توجو مزراحي وهو "سلامة" عام 1945، وهناك فيلم سابع بعنوان "رابعة العدوية" إخراج نيازي مصطفى قامت فيه بالغناء فقط دون التمثيل. وداد يذكر الحضري في موسوعته أن الشاعر الكبير أحمد رامي كتب 10 أغنيات لفيلم "وداد" 4 أغنيات من تلحين محمد القصبجي و3 من تلحين زكريا أحمد وأغنيتين للملحن الشاب رياض السنباطي..
والمدهش أن أم كلثوم رفضت غناءهما وطلبت من السنباطي إعادة تلحينهما ولكنه رفض، وهما أغنية "على بلد المحبوب وديني" وأعطاها السنباطي للمطرب عبده السروجي وهي بصوته كما هو ثابت في الفيلم.. والثانية أغنية "حيوا الربيع عيد الزهور" وقامت بأدائها المجموعة..
تجاوب الجمهور في السينما مع عبده السروجي وأصبحت "على بلد المحبوب" من أهم أغاني الفيلم وهنا أدركت أم كلثوم خطأها وقامت بغنائها في أسطوانة أغاني الفيلم بدلا من السروجي، وهو ما يؤكد أنها لم تكن عنيدة وتعود إلى الحق وذلك من أسباب نجاحها واحتفاظها بالقمة لسنوات وسنوات. ويحكي فيلم "وداد" أنه في عصر المماليك تنشأ علاقة حب بين الشاب التاجر "باهر" -الممثل أحمد علام- وجاريته "وداد" -أم كلثوم- التي تتمتع بصوت ملائكي، وبينما يتناجى الحبيبان يسطو قُطاع الطريق على قافلة باهر التجارية ويستولون على بضاعته التي تمثل رأس ماله. يخسر باهر تجارته ويشكو سوء الدهر وتبدأ مطالبته بالديون ويضطر لبيع كل ما يملك ولا يستطيع سداد دينه.
تعرض عليه "وداد" أن يبيعها في سوق الجواري فهي ذات صوت جميل وربما تأتي له بثمن باهظ يسدد به دينه لكنه يرفض.. تلح "وداد" في طلبها حيث تضحي بنفسها وقلبها فداء للمحبوب، أخيرًا يوافق باهر على مضض ويبيعها للشيخ رضوان وهو رجل مريض يرغب في جارية ترعاه. تغنى وداد اللوعة والأسى لفراق حبيبها وسيدها وتحزن عليه حزنًا شديدًا، لكن الأحوال تتغير ويستعيد باهر تجارته وثراءه ويموت الشيخ رضوان ويكتب لها صكًا بحريتها لتسافر إلى بلد محبوبها لتعيش معه في هناء وسعادة.
نشيد الأمل نشيد الأمل هو أول فيلم يخرجه أحمد بدرخان لأم كلثوم وكتب له السيناريو عن قصة أدمون تويما وشارك أم كلثوم البطولة زكي طليمات -في دور د.عاصم- وعباس فارس -في دور إسماعيل- وماري منيب وفؤاد شفيق.. ويحكي الفيلم عن تاجر مخدرات يدعى إسماعيل يقوم بتطليق زوجته آمال -أم كلثوم- تاركًا إياها وحيدة لتقاسي مصاعب الحياة مع ابنتها سلوى، ويسوق لها القدر الطبيب عاصم الذي يقوم بعلاج ابنتها، ويكتشف موهبة آمال المتميزة في الغناء، فيساعدها على أن تجد لنفسها عملًا مستغلة فيه موهبتها، ولكن طليقها يظل يلاحقها حتى النهاية وتظهر الحقيقة وتتزوج آمال من الدكتور عاصم. وذكر "الحضري" أن الصحافة أشادت بفيلم نشيد الأمل ومستوى إخراج أحمد بدرخان وأداء أم كلثوم وأجواء الفيلم والانتقال من الفقر إلى الرفاهية، وبالطبع أشادت الصحف بأغنية "افرح ياقلبي لك نصيب" واعتبروها الميلاد الحقيقي لموهبة الملحن الشاب رياض السنباطي. غنت أم كلثوم في هذا الفيلم ثماني أغنيات خالدة خمس منها من تلحين محمد القصبجي وهي "نامي نامي يا ملاكي" و"منيت شبابي بالنعيم ويا الحبيب" و"ياللي صنعت الجميل وكنت أوفى خليل" و"يا بهجة العيد السعيد" و"يا مجد ياما اشتهيتك"..
وثلاث أغنيات من تلحين رياض السنباطي وهي "يا شباب النيل" و"افرح يا قلبي لك نصيب" و"قضيت حياتي حايرة عليك" ويلفت النظر أن زكريا أحمد لم يشارك في تلحين أغاني هذا الفيلم. دنانير فيلم دنانير هو ثاني تعاون بين أحمد بدرخان وأم كلثوم أما القصة والحوار وكلمات الأغاني فهي من تأليف أحمد رامي، وشارك أم كلثوم البطولة سليمان نجيب في دور الوزير جعفر البرمكي وعباس فارس في دور هارون الرشيد وعمر وصفي في دور مربي دنانير وفؤاد شفيق في دور أبونواس..
قام محمد القصبجي بتلحين أغاني "طاب النسيم العليل" و"يا فؤادي غني ألحان الوفاء" و"الزهر في الروض" وقام زكريا أحمد بتلحين "قولي لطيفك ينثني" و"بكرة السفر" و"رحلت عنك ساجعات الطيور" ومن ألحان رياض السنباطي "الشمس مالت للمغيب" و"يا ليلة العيد أنستينا" والأخيرة أصبحت من أشهر أغاني كوكب الشرق وتذاع مع كل ليلة عيد في الإذاعة والتليفزيون، كما أنها قامت بغنائها في العديد من الحفلات العامة وبسبب هذه الأغنية منحها الملك فاروق "وسام الكمال" الذي يمنح لسيدات أسرة محمد علي. وفي أحداث الفيلم يستمع الوزير جعفر البرمكي إلى صوت البدوية دنانير وهى تغني أثناء مروره بالصحراء.
فيُعجب بصوتها بشدة ويقترح على مربيها أن يصحبها معه إلى بغداد لكي تتعلم أصول الغناء على يدي إبراهيم الموصلي. وتتاح الفرصة لدنانير كي تغني أمام الخليفة هارون الرشيد، فيعجب بصوتها. وتصبح مغنيته المفضلة وتزداد المؤامرات للإساءة إلى الوزير جعفر لدى هارون الرشيد الذي ينتهي به التفكير إلى أن يأمر السياف بقطع رقبة الوزير دون أي استجابة لتوسل دنانير وتظل بالقصر المهجور تنعي صاحبه حتى يصل مربيها وتعود معه إلى الصحراء. عايدة قام الفنان عبدالوارث عسر بتمصير "أوبرا عايدة" الشهيرة التي قدمها لأول مرة الموسيقار الإيطالي فيردي بعد افتتاح قناة السويس أمام الخديو إسماعيل على مسرح الأوبرا الخديوية عام 1871..
وأصبحت عايدة -أم كلثوم- فتاة قروية لكنها مجتهدة تدرس في مرحلة البكالوريا، والدها محمد أفندي -عبدالوارث عسر- رجل فقير يعمل في أرض زراعية يملكها أمين باشا -عباس فارس- له ابن اسمه سامي -إبراهيم حمودة- نال البكالوريا، لكنه لم يستكمل تعليمه لأنه يهوى الموسيقى، وكان للباشا ابنة اسمها ثريا في سن عايدة، تتم جريمة قتل في الضيعة، يموت فيها محمد أفندي والد عايدة الذي يذهب ضحية قيامه بواجبه في نفس يوم حصول ابنته عايدة على البكالوريا، يشمل ابن الباشا عايدة بعطفه وتلتحق بمعهد الموسيقى وفي إحدى الحفلات يصرح سامي لعايدة بحبه ويطلب منها الزواج، ويعترض الباشا ويتهم عايدة باستغلال عطفه عليها والإيقاع بابنه في شباكها فتقرر ترك العزبة ولكنها في النهاية تعود وتتزوج من سامي وهو من إخراج أحمد بدرخان.
وفي الفيلم 6 أغنيات ثلاث من ألحان زكريا أحمد وهي "القطن فتح" و"فضلّي إيه يا زمان" و"يا فرحة الأحباب" بينما توجد أغنيتان -دويتو- من الغناء الثنائي لأم كلثوم مع المطرب إبراهيم حمودة وهما "احنا وحدنا" من ألحان القصبجي و"فضلت أخبي" من ألحان السنباطي وأغنية أخيرة لأم كلثوم بمفردها وهي "عطف حبيبي وهناني" تلحين محمد القصبجي. ويعتقد الناقد الراحل سمير فريد أن أهمية فيلم عايدة تأتي من أنه أول وآخر محاولة لصنع أوبريت باللغة العربية عن أوبرا عايدة، ولكن للأسف تم حذف 30 دقيقة من أوبريت مدته 40 دقيقة بالفيلم، وكما ذكر المخرج الكبير صلاح أبو سيف أن ذلك تم خضوعا للجمهور ورغبة في النجاح الجماهيري للفيلم.. ويعتقد "فريد" أن ذلك ساهم في تشويه عمل تجريبي رائد من أجل الرغبة في إنجاح الفيلم في دور العرض. سلامة "سلامة" خامس أفلام أم كلثوم تم إنتاجه عام 1945 من إخراج توجو مزراحي عن قصة لعلي أحمد باكثير وسيناريو وحوار وأغاني بيرم التونسي.. وفي الفيلم 9 أغاني وتلاوة قرآنية بصوت أم كلثوم وأغاني هذا الفيلم هي الأجمل في مسيرة أم كلثوم السينمائية وهي: "غني لي شوي شوي" و"يا بعيد موصولا بقلبي" و"سلام الله على الحاضرين" و"عن العشاق سألوني" و"قالوا أحب القس سلامة" و"يا عين بالدمع وافيني" و"قوللي ولا تخبيش يا زين إيش تقول العين للعين" و"في نور محياك الهنا". تدور أحداث الفيلم حول قصة حب بين رجل زاهد، وبين جارية تدعى سلامة..
في عهد الدولة الأموية عاشت سلامة "أم كلثوم" ذات الصوت البديع جارية عند الشيخ أبو الوفا "عبدالوارث عسر" وتقوم هي وزميلتها شوق "زوزو نبيل" برعى الغنم ومساعدة أم الوفا في أعمال المنزل، وكانت سلامة تهوى الغناء وتحلم أن تكون يوما مطربة فلما قابلت الراعى حكيم "فاخر فاخر" طلبت منه أن يعلمها الغناء فعلمها أغنية واحدة "غني لي شوي شوي" غنتها وحولها كل بنات الحى يرددنها وراءها بينما ترقص شوق وتضرب أم الوفا على الدف. يريد الخليفة يزيد بن عبدالملك دفع 50 ألف دينار مقابل شراء الجارية سلامة، التي هربت من أبى رمانه مع أحد القوافل.
عمل عبدالرحمن الجس مع ابن أبى سهيل في التجارة لجمع المال اللازم لاستعادة سلامة، وبعد أن جمع ثروة وعثر على سلامة هاربة فضل إعادتها أولا إلى أبى رمانه ويشتريها منه، ولكنه علم أن الخليفة يزيد قد اشتراها فتركها له وتطوع في جيوش المسلمين لمحاربة أعداء الدولة الأموية وحقق الانتصارات ضد أعدائه.. وما أن علم الخليفة بحب الجس لسلامة وهبها له، ولكن الجس كان قد أصيب في إحدى المعارك ومات بين يدى سلامة التي أصيبت بالذهول وسارت هائمة على وجهها في الطرقات. فاطمة آخر أفلام أم كلثوم كممثلة ومطربة من إنتاج 1947 قصة الكاتب الصحفي مصطفى أمين سيناريو وإخراج أحمد بدرخان وحوار بديع خيري وفي الفيلم 9 أغنيات: الورد جميل.. ونصرة قوية "بيرم وزكريا"– يا صباح الخير.. ونورك ياست الكل "بيرم والقصبجي" -جمال الدنيا يحلالي وأنا وياك "رامي وزكريا"- حاقابله بكرة .. وأصون كرامتي "رامي والسنباطي"- وياللي اتحرمت الحنان "رامي والقصبجي".
وتحكي قصة الفيلم عن الفتاة فاطمة "أم كلثوم" شابة حسنة الخلق تعيش في إحدى الحارات، يعجب بها الشاب الثري فتحي "أنور وجدي"، وهو ابن أحد الباشوات ثم يتزوجها عرفياً بعد أن فشل في إغرائها. يغضب أبوه من هذا الزواج. فيما بعد، يلتقي بفتاة من الطبقة الأرستقراطية "ميرفت" ويعدها بالزواج أيضا. ويحاول فتحي الحصول على ورقة الزواج العرفي بطلب من أبيه لكي يقطع علاقته بفاطمة وينجح في ذلك، إلاّ أن فاطمة تحتفظ بنسخة من تلك الورقة وتذهب للمحكمة وتحصل على حكم بنسب طفلها للثري فتحي. أغاني فيلم رابعة العدوية في شهر فبراير عام 1963 عادت كوكب الشرق إلى شاشة السينما ولكن كمطربة فقط لأداء أغاني فيلم "رابعة العدوية" للمخرج الكبير نيازي مصطفى المأخوذ عن قصة "عروس الزهد" للكاتبة سنية قراعة التي اشتركت في كتابة السيناريو مع الشاعر عبدالفتاح مصطفى.. قامت أم كلثوم بغناء خمس أغانيات من كلمات الشاعر طاهر أبو فاشا:
"حانة الأقدار" و"أوقدوا الشموع" ألحان محمد الموجي و"عرفت الهوى" و"لغيرك ما مددت يدا" و"يا صحبة الروح" ألحان رياض السنباطي. تبقى الإشارة إلى أن ابتعاد أم كلثوم عن السينما كان بسبب مشاكل الغدة الدرقية وعدم تحمل عيونها لشدة أضواء الاستوديو، وفي تلك الفترة اقترح المخرج أحمد بدرخان أن يقوم بالتصوير السينمائي لحفلات الست الشهرية وأن يتم عرضها في دور السينما مثل الأفلام ويستمر بذلك تواصلها مع جمهور السينما ولا تفقد الذين لا يستطيعون حضور حفلاتها وبرغبون في مشاهدتها وهي تغني.. وقد ساهم اقتراح بدرخان في وجود التسجيلات النادرة لحفلات أم كلثوم القديمة والتي يعرضها التليفزيون وصفحات اليوتيوب والفيسبوك.