أ.د. حاتم شافعي
وُلدت أم كلثوم في 31 ديسمبر 1898 في قرية طماي الزهايرة بمحافظة الدقهلية، في قلب الريف المصري حيث تسكن الأرض البسيطة وتدب الحياة في الحقول وتغني الطيور في الفجر، كانت هذه القرية، بما تحمله من فقر وحياة قاسية، تمثل صورة حية لأبسط الطبقات الاجتماعية التي شكلت ملامح شخصيتها وأسلوبها الفني.
هناك في تلك البيئة الريفية المشبعة بالمعاناة الاجتماعية والسياسية، نشأت الفتاة الصغيرة التي كانت ترى في السماء طيفًا من الأمل وتحلم بأن يكون صوتها وسيلة لرفع صوت الأمة وبلوغ أفق العظمة.
كان والدها، الشيخ إبراهيم البلتاجي، منشدا دينيا وقارئًا للقرآن، هو أول من اكتشف موهبتها الصوتية النادرة وسعى لتوجيهها وتنميتها، فكان صوتها يتناغم مع تلاوة القرآن الكريم في تلك الأيام الأولى من حياتها، مما عزز في نفسها القدرة على تجسيد المعاني العميقة والتعبير الصوتي المدهش. لم يكن غريبًا أن يصبح صوتها مستقبلاً أداة تعبير عاطفي وفني تتخطى حدود الزمان والمكان، حيث تحولت تلك البدايات البسيطة إلى أفق أوسع أصبح يشمل الأناشيد الدينية ثم ينفتح على فضاء الغناء العربي بما يحمله من مشاعر وطنية وإنسانية عميقة.
أما في القاهرة، فقد كانت هذه المدينة الواسعة، بمبانيها وشوارعها وحركاتها المزدحمة، بمثابة أرض الخلاص الفني، حيث هناك بدأت أم كلثوم تكتشف أن الحلم قد أصبح ممكنًا، وأن صوتها الذي بدأ في الريف سيحلق فوق أفق جديد. هنالك، بدأ الفنانون والموسيقيون يكتشفون ما في صوتها من سحر وقوة، وأصبح صوتها المحور الذي تدور حوله أفكار الشعراء والملحنين الكبار مثل رياض السنباطي، والموجي، وزكريا أحمد. كان كل لحن وكل كلمة تغنيها يعبّر عن عمق الثقافة العربية ووجدان الأمة. وقد تحولت أغانيها إلى صوت يعكس مشاعر كل فرد في الأمة، إذ كان صوتها يصرخ بالحلم في وقت كان فيه الوطن يحتاج إلى حلم، وتغني الأمل في زمن كان فيه الأمل غائبًا.
لقد كانت أم كلثوم جزءًا من لحظة تاريخية حرجة مرت بها مصر، فكانت السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية وسبعينيات القرن العشرين، سنوات الصراع والمقاومة والتحولات الكبرى على جميع الأصعدة. حملت أم كلثوم في صوتها رسالة وطنية، وأصبحت بمثابة الجسر الذي يربط بين مشاعر الشعب وبين حلم الوطن. فنها لم يكن مجرد أصوات موسيقية، بل كان نبضًا حيًا للقلب الوطني، صوتًا مفعمًا بالأمل في المستقبل.
من خلال غنائها، كانت أم كلثوم تمثل الفن بأعلى درجاته، لكنها كانت تمثل أيضًا شخصية ثقافية مؤثرة، فقد كانت الفنانة القوية التي استطاعت أن تتحدى جميع الصعاب. في تلك الفترة، كان أن تكون فنانًا يعني أن تكون صوتًا شعبيًا يرتبط بمصير الناس، ولكن في حالة أم كلثوم، كان الصوت أكثر من مجرد ترف فني، كان الأمل الذي ينبعث من الحناجر في الشوارع والأزقة، كان العزيمة التي تهزم الأوقات الصعبة، كانت الفكرة التي يعبر عنها الفن. وفيما يتعلق بالفن التشكيلي، كانت أم كلثوم أكثر من مجرد نموذج للرسم أو التصوير، فقد كانت مصدر إلهام فلسفي وجمالي عميق لعدد من كبار الفنانين.
كانت تلك العلاقة بين صوت أم كلثوم وأعمال الفن التشكيلي نتيجة لتفاعل قوي بين الإبداع الفني بمختلف أشكاله، حيث سعى العديد من الفنانين إلى تجسيد روحها كما كانت تجسد أحلام أمتها، سعى الفنانون إلى استحضار لحن صوتها وحركة جسدها ليمنحوها بعدًا جديدًا في الفن البصري.
إن تأثير أم كلثوم في الفن التشكيلي لم يكن فقط في رسم وجهها، بل كان في نقل تلك الروح التي تجسدت في كل لحن وكل حركة. كانت اللوحات التي قدّمها عدد من الفنانين، مثل يوسف كامل، تتجاوز مجرد نقل صورة ظاهرة لأم كلثوم، فقد كانت تجسد القيم الرمزية وراء وجهها وتُظهر القوة الداخلية التي كانت تحملها، كانت عيونها اللامعة، وحركات يديها، وتعبيرات وجهها، تعكس كل ما كانت تمثله: رمزًا للوطن والأمل والحلم المتجسد في صوتها. كان الفنان يوسف كامل يركز في لوحاته على الأبعاد النفسية والفلسفية التي جعلت من أم كلثوم رمزًا خالدًا، حيث كانت كل فرشاة تمس القماش كأنها تعبر عن نبض شعبي لا يتوقف.
وبالانتقال إلى النحت، كانت أم كلثوم تُجسد في الأعمال النحتية ليس فقط في لحظاتها الغنائية، بل في تفاصيل كانت تسعى لإظهار الحركة الداخلية لصوتها. كان النحات جمال السجيني من بين أبرز الذين حاولوا تجسيد تلك اللحظات الحية التي كانت تسكن كل حركة وأداء على خشبة المسرح. تمثاله البرونزي لأم كلثوم على خشبة المسرح كان يعكس لحظة تفاعلها مع جمهورها، حيث كانت يداها مرفوعتين وتعبيرات وجهها تمثل قوة صوتها المتفجرة. وقد حمل هذا التمثال في طياته ليس مجرد تصوير جمالي، بل كان يشير إلى تأثير أم كلثوم في المشاعر الجماهيرية، كان يتحدث عن الصوت الذي يبث الحياة في الأرواح. أما الفنان آدم حنين، فقد أضاف لمسته الخاصة من خلال تجسيد شخصية أم كلثوم في تماثيله، حيث قدم أعمالًا تعبيرية مدهشة تعكس الطاقة والمشاعر التي كانت تدفع أم كلثوم للغناء.
كان تمثاله لأم كلثوم يعبر عن اللحظة السحرية التي يجتمع فيها الصوت الجسدي والنفسي، حيث يتجسد كل التفصيل في هذا العمل ليس فقط شكلها، بل أيضًا روحها التي كانت تتناغم مع كل كلماتها وألحانها. كما أن طارق الكومي قدم قراءة جديدة من خلال تماثيله التي أظهرت أم كلثوم في لحظات تفاعل عاطفي، حيث نقل من خلال أعماله الحركة الفنية والأداء الصوتي إلى الفضاء التشكيلي ليُعيد تشكيل صورة الفنانة بأبعاد جديدة.
لقد كانت أم كلثوم، برؤية فنانين مثل السجيني وحنين والكومي، أكثر من مجرد فنانة غنائية؛ كانت رمزًا ثقافيًا حيًا، جسدت في أعمالهم الفنون التشكيلية كيف يمكن للصوت أن يتحول إلى صورة، وكيف يمكن للصورة أن تصبح سيرة حياة مليئة بالرمزية والمعاني العميقة التي لا تموت مع الزمن. إنها أسطورة لم تقتصر على أن تكون صوتًا يطرب الآذان، بل كانت فنانة بأبعاد متعددة، تعبيرًا حيًا عن الوطن، عن الهوية، عن القوة. وتظل أم كلثوم، بكل ما تحمله من فنيات ومعانٍ، خالدة في الذاكرة، تلامس كل عصر وتملأ كل قلب.