بلغة الأفعال يؤكد المصريون مجددًا، شعبًا وقيادة، أن الجمهورية الجديدة التى رفعت قواعدها على الأرضية الثابتة كالأوتاد، الراسخة كالجبال، لثورة 30 يونيو العظيمة، لا مكان فيها لتبعية لأى قوة مهما كان تأثيرها، ولا قبول لإملاءات خارجية من أى دولة مهما كان دورها، ولا مجال للتراجع عن الثوابت الوطنية مهما كثرت التحديات، ولا حيز للتفريط فى محددات الأمن القومى مهما تنوّعت الصعوبات، وفى كل المواقف تعضّ الدولة المصرية بالنواجذ على استقلال قرارها فى مواجهة محدثات الأمور، وتتابع الفتن ما ظهر منها وما بطن، وفى الوقت نفسه، لم تنغلق القاهرة على نفسها، بل وظّفت قدراتها، واستفادت من إمكاناتها فى تنويع تحالفاتها، وتشابك مصالحها مع مختلف الكيانات، وغالبية الدول، والتعامل بالندية بشكل احترافى، والتغلب على الضغوط بهدوء الأعصاب النابع من مخزون الخبرة فى قضايا المنطقة، مع الثبات على المبادئ الوطنية الراسخة.
ويُحسب للقيادة السياسية، الحكمة فى التحرك، والذكاء فى التصرف، وبُعد النظر فى تقدير المواقف، والتخطيط الجيد الذى أخرج مصر من ضيق العزلة بعد إسقاط حكم المرشد، إلى رحابة العلاقات الواسعة، والشراكات الاستراتيجية مع معظم التكتلات، وأكثرية التحالفات، وأغلبية العواصم، فلم تتوجس الدولة من تكرار بعض التجارب التى حدثت فى فترة حكم الرئيس الراحل مبارك التى استغل فيها الغرب عمومًا، والأمريكان خصوصًا، بعض الأوراق المشبوهة للضغط على النظام الحاكم، والتأثير فى قراره بما يتماشى مع بعض مطالب واشنطن وأخواتها من البلدان الأوروبية، ووقتها كانت جماعة الإخوان المحظورة من أخطر المنغّصات، وإحدى الأوراق التى تمّ اللعب بها لابتزاز الدولة المصرية بالتنسيق مع التنظيم الدولى، ثم خلال عام حكم المرشد كانت الأوامر الغربية، والإملاءات الإقليمية لا حصر لها، فلم يكن هناك مانع لدى مكتب الإرشاد ومندوبه فى قصر الرئاسة من الخضوع لأى قوى، والتبعية لأى دولة، طالما هم سائرون فى أخونة البلاد، وتشويه هوية الوطن، حتى تدوم لهم السيطرة نصف قرن، لكن الله سلم، وعادت مصر للمصريين.
وبالشواهد العديدة، والوقائع الكثيرة منذ 2014، وخصوصًا فى الـ15 شهرًا الأخيرة فى أعقاب الحرب الإسرائيلية الغاشمة على قطاع غزة، وما حوله من مخيّمات ومناطق، وقفت الدولة المصرية على قلب رجل واحد فى التصدى لأية محاولة للنيْل من سيادتها، والرفض القاطع لأى مؤامرة للمساس بترابها المقدس، وانتفض الوعى الجمعى للشعب المصرى كالوحش الكاسر ضد المخطط الصهيونى الأمريكى لتهجير أهالى قطاع غزة إلى سيناء بغرض تصفية القضية الفلسطينية إلى غير رجعة، والقضاء على حلم الدولة المستقلة الذى يراود العرب جميعًا، وليس الفلسطينيين فقط منذ نكبة 1948، بما يخالف كل الأعراف والمواثيق والقوانين الدولية، وفور إشعال تل أبيب لشرارة حرب غزة كان الصوت المصرى عاليًا مسموعًا لكل مَن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد بطول الكرة الأرضية وعرضها من خلال عبارات جامعة مانعة، وكاشفة للموقف المصرى بلا مواربة أو مهادنة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، «سيناء خط أحمر»، «المجتمع الدولى كله مسئول عن وقف حرب الإبادة الإسرائيلية»، «استمرار العمليات العسكرية يهدد بإشعال الصراعات فى الشرق الأوسط»، و«تصفية القضية الفلسطينية لن تحدث» و«تعمير لا تهجير».
والحقيقة الماثلة أمامنا جميعًا، أن الرأى العام العالمى، وأغلبية الدول والمنظمات الأممية والدولية انتبهت للتحذير المصرى، وتغيّرت بوصلتها نحو ضرورة تحقيق الحل العادل وهو حل الدولتين، وحتمية إنهاء العدوان الإسرائيلى، وما حدث فى الميادين والجامعات الأمريكية والأوروبية من مظاهرات واحتجاجات رافضة لغطرسة ووحشية جيش دولة الاحتلال خير مثال، وأيضا تصريحات كبار المسئولين حول العالم تسير فى نفس الاتجاه بعدما كشفت مشاهد المذابح الجماعية وعمليات الإبادة التى يرتكبها جيش الاحتلال عورة الكيان الصهيونى، وكذب سرديته المزعومة لكل العالم حول تحضّر إسرائيل، وأنها تحاول العيش فى أمن وسلام، وانكشف كل شيء وبان، إنهم تتار هذا العصر، ورعاع تلك المرحلة.
ورغم الإجماع العالمى على أهمية استمرار وقف إطلاق النار، والدخول فى جولة من المفاوضات تمهيدا لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود ما قبل يونيو 1967، خصوصا أن هناك عدة دول وحكومات وقفت فى الجانب الصحيح من التاريخ جانب العدل، والسلام، والأمن، والأمل، واعترفت بالدولة الفلسطينية ومنها إسبانيا، وأيرلندا، والنرويج، وسلوفينيا، لكن جاءت بشكل مفاجئ وعجيب كلمات الرئيس الأمريكى ترامب بشأن اقتراحه المريب بنقل أهالى القطاع مؤقتًا لمصر والأردن، وعلى ما يبدو هناك تنسيق مع حليفه مجرم الحرب «نتنياهو» من أجل إفساد الأجواء المواتية لصالح القضية الفلسطينية، والأمر المؤكد أنها سقطة أمريكية جديدة فى سجل واشنطن الأسود المناهض لحقوق الفلسطينيين، وفى الوقت نفسه أضرت تلك التصريحات الاستفزازية بصورة الوسيط الأمريكى بشكل كبير، وإن كانت لن تغيّر الواقع الرافض لمخطط التهجير، الذى لن يحدث أبدًا.
صحيح أن الرئيس السيسى وضع النقاط على الحروف مجددًا بعد تصريحات ترامب الصادمة للعالم كله، وليس للفلسطينيين فقط، عندما تحدث كعادته بوضوح تام، ونبرة حاسمة خلال المؤتمر الصحفى بقصر الاتحادية، مع الرئيس الكينى ويليام روتو، مؤخرا، مؤكدا على حتمية التنفيذ الكامل، لاتفاق وقف إطلاق النار فى قطاع غزة، الذى تم التوصل له بعد جهود مصرية مضنية، بالشراكة مع شركائنا فى قطر والولايات المتحدة الأمريكية، وضرورة السماح باستئناف النفاذ الإنسانى الكامل للفلسطينيين فى غزة، لإنهاء الوضع الإنسانى الكارثى، وبدء مسار سياسى حقيقى، لإيجاد تسوية مستدامة للقضية الفلسطينية، من خلال إقامة الدولة الفلسطينية، على خطوط الرابع من يونيو عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
وجسّدت رسائل الرئيس السيسى، استقلال القرار المصرى، والتمسك بالثوابت الوطنية التاريخية، نحو القضية الفلسطينية، وأنه لا يمكن أبدًا، أن يتم الحياد أو التنازل، بأى شكل كان، عن تلك الثوابت، وهى تشمل بالقطع، إنشاء الدولة الفلسطينية، والحفاظ على مقوّماتها، والحل لهذه القضية كما أوضح الرئيس هو إيجاد دولة فلسطينية؛ لأنها حقوق تاريخية لا يمكن تجاوزها، والشعب المصرى كله يقول: «لا، لا نشارك فى ظلم، وبكل وضوح، ترحيل الشعب الفلسطينى من مكانه، ظلم لا يمكن أن نشارك فيه».
وقد وصلت الإشارة الرئاسية فى التو واللحظة إلى المصريين جميعًا، فانتفض الجميع شعبيًّا على مواقع التواصل الاجتماعى يؤكدون أن قرار مصر مستقل، وأنهم عن بكرة أبيهم حراس الأرض، وحماة الأمن القومى، يقفون كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا بجوار قائدهم ورئيسهم فى صدّ أية مؤامرة على أرض الفيروز الطاهرة، وتحوّلت شعارات «سيناء خط أحمر» و«لا للتهجير» و«لا لتصفية القضية الفلسطينية» إلى تريندات مصرية وعربية هزت معاقل «السوشيال ميديا»، ووصلت أصداؤها إلى تخوم كل الدول عبر الفيسبوك وإخوته، ثم تتابع طوفان البيانات، وتوالى تأكيد المواقف الرافضة من كل الأحزاب والقوى السياسية والنقابات المهنية لمؤامرة تهجير أهالى قطاع غزة.
وقد كان يوم الجمعة الماضى يومًا مشهودًا، وتوقيتًا معلومًا، لكل مَن يصوّر له خياله المريض أنه يستطيع أن يبتزّ المصريين، أو يضغط عليهم من بوابة الاقتصاد، أو حتى يختبر صلابة مبادئهم فى الثوابت الوطنية، أو يلوّح بقدرته على تنفيذ رغباته المكبوتة وأحلامه غير المشروعة، أنه سيسمع بأذنيه فى الحال ما لا يرضيه، ويرى بعينيه ما لا يسرّه، فالمعارض قبل المؤيد من المواطنين سيشهر سيفه دفاعًا عن استقلالية القرار الوطنى، ويرفع صوته بكل مكان، ومن خلال جميع المنصات «لا تراجع ولا استسلام»، وهذا ما ظهر جليًّا أمام الشاشات على أرض مدينة رفح المصرية على حدود فلسطين عندما تدفقت الحشود من شتى المحافظات، ومختلف الفئات وجميع الأعمار منذ الصباح الباكر إلى تلك البقعة الغالية ليسمع العالم أجمع صوت المصريين الهادر «لا للتهجير»؛ دعمًا للرئيس السيسى وموقفه التاريخى فى إفساد تلك المؤامرة الحقيرة، والوقوف صفًّا واحدًا ضد مخططات تهديد الأمن القومى المصرى، ومكائد تصفية القضية الفلسطينية، والتشديد على أن كل المصريين يد واحدة مع الرئيس السيسى فى مناصرة الأشقاء الفلسطينيين مهما كانت الصعوبات، ولا مجال للمهادنة أو التراخى فى قضية العرب الأولى، كما أن قرار مصر من رأسها، ولا يستطيع أحد أن يملى عليها أجندته المريبة، فلا نامت أعين المتآمرين، فالمصريون يقظون، وبالوعى متسلّحون، وبجيشهم قادرون على حماية تراب الوطن من أى مخططات خبيثة أو مكائد مدبّرة.
وبالطبع، ردود الفعل فى تصاعد مستمر رسميًّا وشعبيًّا لصالح القضية الفلسطينية، وعلى الأغلب تفهّم ترامب أن جسّ النبض فى هذه المسألة كان خطأ استراتيجيًّا، فليس هكذا تورد الإبل، خاصة أن هذا الموقف المصرى ثابت لا يتغير، ومتماسك لا ينفكّ، وقوىّ لا يلين أبدا، وهنا أجدنى مدفوعًا لإنعاش ذاكرته هو ومَن يفكر فى تلك الترهات، ولن أعود للتاريخ البعيد؛ لأن المساحة لن تسمح، والحبر لن يكفى، بل أحيله إلى كلمات الرئيس السيسى، الموثّقة بالصوت والصورة فى قمة السلام بعد أيام قليلة من عملية «طوفان الأقصى» وبدء الرد الإسرائيلى الغاشم، يقول الرئيس: «إن العالم لا يجب أن يقبل، استخدام الضغط الإنساني، للإجبار على التهجير.. وقد أكّدت مصر، وتجدّد التشديد، على الرفض التام، للتهجير القسرى للفلسطينيين، ونزوحهم إلى الأراضى المصرية فى سيناء، إذ إن ذلك، ليس إلا تصفية نهائية للقضية الفلسطينية.. وإنهاءً لحلم الدولة الفلسطينية المستقلة.. وإهدارًا لكفاح الشعب الفلسطينى، والشعوب العربية والإسلامية، بل وجميع الأحرار فى العالم، على مدار أكثر من 75 عامًا، هى عمر القضية الفلسطينية، كما أؤكد للعالم.. بوضوح ولسان مبين.. وبتعبير صادق، عن إرادة جميع أبناء الشعب المصرى.. فردًا فردًا: أن تصفية القضية الفلسطينية، دون حل عادل، لن يحدث.. وفى كل الأحوال.. لن يحدث على حساب مصر.. أبدًا».
وتكرر نفس الموقف الثابت فى كل كلمات الرئيس السيسى فى المحافل الدولية، وما عقده من لقاءات ثنائية أو اتصالات هاتفية مع زعماء العالم، ومنها هذا الجزء فى كلمته بمؤتمر الاستجابة الإنسانية الطارئة لغزة فى يونيو 2024: «السبيل الوحيد لإحلال السلام والاستقرار والتعايش فى المنطقة، يكمن فى علاج جذور الصراع، من خلال حل الدولتين، ومنح الشعب الفلسطينى حقه المشروع فى دولته المستقلة القابلة للحياة، على خطوط الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها «القدس الشرقية»، والتى تحظى بالعضوية الكاملة فى الأمم المتحدة، وأيضا ما أكده الرئيس فى القمة العربية الإسلامية بالمملكة العربية السعودية فى نوفمبر الماضى، وتحديدا هذا الشرط عندما تحدث عن معالم خريطة خروج المنطقة من الصراع منها «وقف كافة الممارسات التى تستهدف التهجير القسرى للفلسطينيين إلى أى مكان خارج أرضهم، والتوصل إلى صيغة لتسوية الصراع، بناءً على حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية».
والخلاصة، أن مصر وقرارها المستقل، وإرادتها الحرة، وشعبها الأبىّ وقائدها الشجاع وجيشها القوى يقفون بالمرصاد لأية محاولات دنيئة للتدخل فى شئوننا الداخلية، أو الزجّ بنا فى تنفيذ أية مخططات شريرة، فلن نسمح أبدًا بمؤامرة التهجير، ولن نقبل مطلقًا بتصفية القضية الفلسطينية.
حمى الله مصر وشعبها وقيادتها
ومؤسساتها الوطنية من كل سوء