بمناسبة إجازة نصف السنة الدراسية اتفقت أنا وصديقاتى على ممارسة حقنا كجدات، وبأن نستمتع بالإجازة، فنحن أيضا لدينا واجبات عائلية بالمساعدة فى رعاية الأحفاد وتعتبر إجازة نصف العام إجازة لنا أيضًا، فكان اللقاء على نيل القاهرة البديع فى شمس لا تغيب بالشتاء الذى اختفى فى ظروف غامضة، أخذنا الكلام والحديث ونحن نشرب السحلب إلى أخبار الأحفاد وفجأة انطلقت إحداهن بقولها حفيدتى ذات السنوات السبع بالصف الثانى الابتدائى تحكى لى عن أم كلثوم وتدندن أغانيها.
انتبهت بحكم التخصص وليس اعتبارات الصداقة والمجاملة، وبدأت أستمع باهتمام للقصة والسرد، ولكن طبعا بنكهات موزونة على نغمة «أنت عمرى وأمل حياتى» ووجدتنى بعدها أمارس ديكتاتورية تعليمية متخصصة وأستفرد بالجلسة، وبأسئلة إضافية بدأتها بالاستعجاب من الواقع المعاش، فنحن لسنا فى إجازة كما اعتقدت بحسن نية، سألتها كيف ونحن فى الإجازة رسميا وبقرارات وزارية منشورة والعياذ بالله، الإجازة الموحدة دى كانت على أيامنا نحن فى القرن الماضى يعنى دقة قديمة تقصد!، ولكن الآن الدنيا تطورت وتغيرت إلى أن أصبحت إجازة المدارس ذات النظم الدولية، التى بها كل أحفادنا والعياذ بالله موعدها كل شهرين بعدها أسبوع إجازة، بجانب وإضافة إلى إجازة ديسمبر ورأس السنة والكريسماس، وأما الآن فهم فى الموسم الدراسى وإجازتهم المقبلة نهاية هذا الشهر تعقبها بعد رمضان إجازة الربيع، تعجبت من أن التمييز بين العباد والأطفال امتد حتى إلى اختلاف مواعيد الإجازات الدراسية بين العام والخاص وعجبى؟
تنهدت من عجائب تعليمنا، واستكملت وربما بتحفز تعليمى الحوار والسؤال وقلت لها أكيد هذا الجهد مشكورا بمناسبة مرور 50 سنة على وفاة الست أقصد أم كلثوم، فنهرتنى وقالت لى هذا حدث قبل إجازة الكريسماس، وإن مدرسة الموسيقى بالمدرسة ربنا يبارك لها أخذت تعلم الأطفال وتعطى معلومات عن أم كلثوم بسيطة ومحببة لأطفال وبدون تعليمات وزارية! يعنى من الآخر ليس بمناسبة ذكرى وفاتها، وأخذت صديقتى تحكى، وتحكى ويعقب ويتدخل فى الحوار بقية «تنظيم الجدات المستقل»، فاكتشفت أن بعض المدارس ذات النظم الدراسية والشهادات الأجنبية لديها، وياللعجب حصص للأنشطة المدرسية من مطبخ أقصد تدبير منزلى، ويشترك به الطلاب أيضًا، وكذلك الألعاب ويمارسها الجميع وموسيقى وهى العملة التى ربما أصبحت نادرة فى بعض مدارسنا الرسمية، خاصة بعد تعليمات وقرارات الدمج والفك والتركيب للفصول وتقصير اليوم الدراسى وسيادة فكرة كويس إنهم وجدوا مكان للتعليم؟! بل بعضها لا يعرف أن هناك أصلا خططا ونشاطا اسمه موسيقى وغناء إلا طابور الصباح وتحية العلم.
تنهدت وطلع زفير بدون شهيق! واقترحت نروح حفلة لأغانى أم كلثوم شاهدت إعلانها وبحماس من تنظيمنا للجدات استخدمنا الألواح التكنولوجية لنعرف أن سعر التذكرة فوق ما نتحصل عليه شهريا؟
فعدت بعد رؤية السعر إلى دفتر الذكاء الطبيعى، وتذكرت جهاز «الاكسليفون»، الذى كنت أمتلكه وأعزف عليه بمدرستى الابتدائية منذ الحضانة، والذى حولته بعد ذلك كشىء مختلف تماما عن كونه عدة موسيقية، وكان ذلك على ما أتذكر بالقرب من امتحانات السنة السادسة الابتدائية، أى الشهادة الابتدائية، وكانت شهادة معتبرة فى زماننا والآن تعنى يادوب فك الخط.
المهم أننى قمت بفك الاكسليفون وإعادة تصنيع أشياء أخرى منه مستخدمة عدة المفك وغيرها ليس انتقامًا منه، وإنما رغبة فى الاختراع وتذكرت ميس ميرفت ذات الشعر القصير على قامتها الضخمة فلم تنهرنى، وإنما قالت لكنك الآن لن تستطيعي العزف منفردة معنا! كانت تقول ذلك اللوم لى، وهى تعزف على الأكورديون ونتعلم الغناء والعزف منها والسلم الموسيقى والنشيد الوطنى وبعض الأغانى، التى سوف نرددها فى الحفلات والمناسبات المدرسية وما أكثرها على زمنى، ولكنى لا أتذكر أننى غنيت لأم كلثوم فى المدرسة الابتدائية، ربما عرفت لاحقا ربما أغنية وقف الخلق جميعًا، ومصر التى فى خاطرى وربما كان ذلك فى السنوات الأخيرة بالابتدائى، ولكن الأكثر تداولا فى جيلنا ومدارسنا كانت أغانى عبد الحليم حافظ، خاصة أغانيه الوطنية ومنها «أحلف بسماها وبترابها، وفدائى، وعاش اللى قال»، فقد كانت مرحلة دراستى الابتدائية فى غمار نصر أكتوبر العظيم على العدو وعبور القناة وتحرير سيناء. بعد فترة صمت، ولكن كبيرة من الأصدقاء وسرح كل منا فى ملكوت أحفاده، عادت صديقتى وأكملت تخيلى أن حفيدتى دخلت من الباب لتسألنى تعرفى أم كلثوم ونطقتها كلثون بالنون يا تاتا؟! وأخذت تدندن مصر التى فى خاطرى وتتلعثم بها كمان، وقالت إن أم كلثوم كانت تمسك منديلا بيدها! لماذا يا تاتا المنديل هل كان عندها برد مثلى؟ تضيف صديقتى إنها فكرت بالفعل فى السؤال قليلا، وأجابت لا ليس عندها برد لأن من عنده برد صوته بيضعف ولا يستطيع الغناء مثلك الآن؟ ولكن المنديل كان لكى تزيل العرق من المجهود أليس الغناء يتطلب مجهودا وطاقة.. كما تفعلين الآن. سرحت منها فى ملكوت التعليم وكيف يجب أن يكون محببا للأطفال، وأنه حتى فى ظل التكنولوجيا واليوتيوب والذكاء الاصطناعى كان يمكن فى الواجب اليومى، والذى ترسله الوزارة مركزيا ويوميا للمدارس والمدرسين أن يتضمن قصة أم كلثوم وقصتها ملهمة جدا ليس للكبار، بل للصغار تحديدا، لأنها بدأت الكفاح والغناء طفلة صغيرة، بل ما المانع أن تذاع وبعض أغانيها كجزء من المعرفة والواجب والتقييمات اليومية، وإذاعة بعض أغانيها فى طابور الصباح أو الفسحة، وأعتقد أن ذلك مهمة التعليم وليس التلقين الرسمى الجماعى بالأمر المباشر والاحتكارى للوزارة على الطلاب والمدرسين.
لذلك أقترح، والعياذ بالله، أن تصدر تعليمات إلكترونية للقلة المندسة من طلابنا ومدرسينا عن واجب مدرسى عن أم كلثوم وليس هناك ما يمنع أن يخصص يوم مدرسي للغناء أو حتى نصف يوم، أو فى موسم الأكازيونات الحالى. حصة حتى أبو حنيفة قال يجوز اقتباسا من المفردة واللازمة لأستاذى الموهوب والساخر العميق الصحفى المؤرخ «صلاح عيسى»، حتى أننى فكرت أكتب قصة قصيرة مثله عن الربوت التعليمى الآن فى مدارسنا بفعل القرارات الفوقية، التى لاتترك مجالا لإبداع المدرس، أو حتى تقيمه وتقيم الأداء له بفضل أوامر التقييمات، وحتى الواجب أصبح محتكرا ودليفرى إلكترونيا؟!، وبهذا نقلنا التعليم من الحفظ والتلقين للتلاميذ والطلاب، إلى الحفظ والتلقين للمدرسين ودقى يا مزيكا على غرار إعلان الطبلة بيد المدرس على منصة إلكترونية تدعى أشطر، وكان وزير التعليم من كبار ملاكها، كما جاء بسؤال القس فريد البياضى بمجلس النواب.
عدت إلى منزلى واحتضنت «خددية» وجدتها بخان الخليلى بصورة أم كلثوم، وقمت بشرائها فورا، وأخذت أدندن بروح الطفولة والمشاغبة التى عادت لى فجأة وجدتنى أقف وسط الجموع وأدندن أغنية وقف الخلق جميعا ينظرون كيف أبنى قواعد المجد، ومصر التى فى خاطرى وأكملت بحبى الأول والأخير عبدالحليم ورائعته ماتغيب الشمس العربية طول ما أنا عايش فيك يا دنيا. عاش.