«ابن بطوطة» .. أمير الرحالة المسلمين
في دروبٍ مُضيئة بنور المعرفة وروح المغامرة، برز ابن بطوطة كنجمةٍ لامعة في سماء الرحالة، يخط بأنامل الزمان حكايات الأفق الواسع وروائع الأرض، كان سفريُّه بمثابة قصيدةٍ خالدة تتغنى بتلاقي الحضارات، وتروي قصة الإنسان الباحث عن المجهول، الذي لا تقيده حدود ولا تعيقه قيود.
وفي كل خطوةٍ خطاها، كان يمزج بين عبقرية الاكتشاف وسحر التراث، فخلق من رحلاته مرثيةً تُشيد بروعة التنوع وعمق الإنسانية، وكان وسيبقى رمزًا للتجوال الحر، حاملًا راية المعرفة في رحلةٍ لا تنتهي نحو عوالم البهاء والعرفان.. إنه الرحّالة العربيّ الأكثر شهرة، و أعظم الرحالة المسلمين في العصور الوسطى وحتى عصرنا الذي نحياه، والملقب بـ «أمير الرحالة المسلمين»..عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي، و المعروف بـ «ابن بطوطة».
الميلاد والنشأة
ولد «ابن بطوطة» في عام 703 هجرية الموافق مثل هذا اليوم 24 فبراير 1304 م في مدينة طنجة إحدى مدن الشمال الإفريقي فنُسب إليها، وعُرف في بلاد الشرق باسم «شمس الدين بن محمد بن عبد الله بن ابن بطوطة»، و يعود نسبه إلى قبيلة «لواتة» إحدى قبائل البربر .
وعن لقب «ابن بطوطة» فهي عادة معروفة في قارّة أفريقيا؛ حيث تُنسب فيها بعض الأسر إلى أمهاتهم، و نسبت عائلة «ابن بطوطة» لسيدة كانت تحمل اسم فاطمة فتحوّل اسمها إلى بطة، هو اسم دلال ودلع ومن ثم أصبح بطوطة.
وينتمي «ابن بطوطة» لعائلة أتيح لكثير من أبنائها الوصول إلى منصب والنبوغ في العلوم الشرعية، ومعظم أفرادها يعملون في القضاء، وهي من العوائل التي تنتمي للمذهب المالكيّ الذي كان سائدًا في شمال أفريقيا، و تعلّمَ «ابن بطوطة» شيئًا من علوم الدين كغيره ممّن ينتمون إلى الطبقة الاجتماعية المتوسطة، ثم تولّى القضاء لمدّة خمس سنوات، ثم تركها ليتوجه في رحلة جديدة باتجاه الصين التي تولّى فيها القضاء مدة ثلاث سنوات وجزر المالديف، وبعد عودته إلى المغرب أمره سلطان فاس أبو عنان ،أن يقوم بكتابة أخبار رحلاته الكثيرة، وعيّن له كاتبًا يساعده في هذا الأمر هو ابن جزي الكلبي.
من أين بدأت رحلات «ابن بطوطة»؟
سعى والد «ابن بطوطة» أن ينخرط ابنه في العمل بالقضاء، ولكن الابن لم يكن هدفه الأول كما يرغب أباه، و بعد أن بلغ سن الحادي والعشرين واستكمل دراسته في الفقه والأدب و لرغبته في الحج وزيارة بيت الله الحرام، قرّر «ابن بطوطة» أن يقوم بهذه الرحلة، والتي بدأت في شهر رجب سنة 725 هجرية، وانتهت بوصوله مدينة فاس في ذي الحجة سنة 754 هجرية؛ أي أنّها رحلة استغرقت ما يقارب تسعة وعشرين عامًا ونصف العام تقريبًا.
رحلات ابن بطوطة
كان لدى «ابن بطوطة» الكثير من الأسفار في الدول والأمصار؛ إذ كانت لديه رغبة في التجوال والتعرُّف على ما يجعله من أخبار الشعوب وعاداتها وتقاليدها، ولعلّ تلك الرغبة كانت السبب وراء أن تدوم رحلاته سنوات طويلة جاب فيها الشرق والغرب، ووصل إلى مدن لم يكن غيره قد وصل إليها من قبل.
الرحلة الأولى لأداء الحج
وكان خروج «ابن بطوطة» من مدينة طنجة مسقط رأسه في الثاني من شهر رجب عام 725 هجرية، قاصدًا بيت الله الحرام وزيارة قبر الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم، وكان حينذاك ما يزال شابًّا في بداية العشرينيات من عمره، وبعد رحلة طويلة وشاقة، وصل «ابن بطوطة» إلى المدينة المنورة فصلّى في الروضة الشريفة، وبعد أن أكمل الزيارة توجّه إلى مكة المعظّمة التي وصفها بأنّها تلك المدينة الكبيرة المستطيلة الشكل، والتي تقع في بطن وادي تحفه الجبال من كل جهة، أمّا المسجد الحرام فيقع في وسط المدينة، وهو مُتّسع المساحة، والكعبة المشرفة في وسطه ومنظرها بديع وجميل، فوصف كلّ ركن فيها وصفًا دقيقًا، كما ذكر جميع الأماكن المقدسة التي تحيط بها وأبوابها وأركانها، ولم ينسَ ذكر فضائل أهل مكة ومحاسنهم وعاداتهم في استقبال الشهور وفي الحج والصوم والعمرة وغيرها من الأمور الكثيرة.
رحلات إلى العراق وفارس ومصر
قام «ابن بطوطة» برحلة إلى العراق وبلاد فارس ومصر، زار فيها الكثير من المدن في تلك البلدان، وشهد فيها الكثير من أحوال الناس وعاداتها ففي العراق مرّ بالكثير من المدن الرئيسة والمهمة، فكان كلّما نزل في مدينة أخذ يصف حالها وكيف هي أمورها، ثم يصف الناس فيها فيُشير إلى صفاتهم وخصائهم، ومن تلك المدن مدينة واسط؛ حيث وصفها بحسن المظهر وجوّها الجميل وكثرة البساتين، وأنّ أهلها من الأخيار وأكثرهم من الحافظين لكتاب القرآن ويجيدون تجويده، وإليهم يأتي الناس من كل مكان للتعلّم، و زار«ابن بطوطة» مدينة البصرة الفيحاء، وهي من مدن العراق الكبرى، وفيها يقع مسجد كبير هو مسجد الإمام علي بن أبي طالب، كما زار الكوفة وبغداد والموصل.
وزار «ابن بطوطة» الكثير من المدن في بلاد فارس، ومنها مدينة شيراز وهي مدينة جميلة و واسعة الأرجاء، وتمتاز بكثرة البساتين والأنهار المتدفقة، وفيها العديد من المباني، وتمتاز المدينة بالمباني ذات العمارة المتقنة، وفيها الكثير من المساجد، ومن أكبر تلك المساجد «المسجد العتيق» ويتميز ببنائه الجميل والمتقن.
الأهرام لا مثيل لها
ووصل «ابن بطوطة»عام 1326م إلى مدينة الإسكندرية إحدى أجمل مدن مصر، وتمتاز ببنائها الحسن، و بها كتب للمدينة أربعة أبواب هي: باب السدة وباب رشيد وباب البحر والباب الأخضر، ثم زار بعض المدن الساحلية مثل دمياط وسمنود وغيرها من المدن الأخرى، كما زار مصر وهي أم البلاد ومن المدن الجميلة التي تتميز بمبانيها والشوارع الكبيرة، ووصف نهر النيل بأنّه من أفضل الأنهار عذوبة وهو عظيم المنفعة للكثير من الناس، أمّا الأهرام فيذكر «ابن بطوطة» أنها من عجائب هذه الدنيا ولا يوجد لها مثيل في جمال البناء وعظمته.
رحلة«ابن بطوطة» إلى اليمن
زار «ابن بطوطة» اليمن مع شخص كان قد عيّنه معه الشيخ الفقيه أبو الحسن الزيلعي، فقصد قاضي القضاة الإمام صفي الدين الطبري المكي وأقام في داره ثلاثة أيام، وخلال تلك الفترة زار «ابن بطوطة» مع القاضي الطبري سلطان اليمن وحضر مجلسه وأكرمه السلطان بالكثير من النعم، ثم زار مدينة صنعاء وهي قاعدة بلاد اليمن الأولى ومدينة كبيرة حسنة العمارة، بناؤها بالآجر والجص، وتمتاز بكثرة الأشجار والفاكهة والزرع ومناخها معتدل في الصيف والشتاء، و لاحظ أنّ المطر فيها ينزل في الصيف، كما أُعجب بجامع صنعاء وعدّه من أحسن الجوامع التي رآها، زار مدينة عدن مرسى بلاد اليمن.
رحلة «ابن بطوطة» إلى الصومال
سافر «ابن بطوطة» جنوبًا على طول ساحل شرق إفريقيا من عدن إلى مقديشو وكان أول وصوله إلى مدينة زيلا؛ حيث وصف سكانها من ذوي البشرة الداكنة وهم مسلمون من أتباع الإمام الشافعي، كانوا يعملون برعي الجمال والأغنام وهي مدينة معزولة ليس لها الكثير من العلاقات مع المدن الأخرى ولها سوق رائع، ومنها سافر إلى مقديشو واستغرقت وقتًا طويلًا، وصف «ابن بطوطة» مقديشو أنّها من المدن الكبيرة اشتهرت بوجود العديد من أنواع الأقمشة المميزة.
رحلة إلى آسيا الوسطى والشرق الأدنى
زار «ابن بطوطة» إلى الشرق وبلاد فارس إلى روسيا إلى آسيا الوسطى، وكان المغول قد غزا المسلمين في العديد من هذه المناطق خلال منتصف القرن الثاني عشر الميلادي ولكن أثناء وصول «ابن بطوطة» إلى تلك الدول كان المغول قد استقروا فيها واعتنوا الدين الإسلامي، انطلق ابن بطوطة سيرًا على الأقدام و عبر آسيا الوسطى ليصل أخيرًا إلى الهند بعد عام تقريبًا من الوقت الذي كان من المفترض أن تأخذ فيه السفينة إلى الهند.
وصل «ابن بطوطة» إلى جنوب آسيا في بلاد يُقال لها جاوة، ولها سلطان من أكرم الملوك وهو شافعي المذهب محبّ للفقهاء، وكان كثير الجهاد والغزو، يأتي إلى صلاة الجمعة ماشيًا على قدميه، وأهل بلاده أغلبهم على المذهب الشافعي محبون للجهاد ويخرجون معه تطوعًا، وعن بلاد الصين فوصفها «ابن بطوطة» بأنها بلاد كبيرة وكثيرة الخيرات الطبيعية والمعادن مثل الذهب والفضة، وفيها نهر معروف باسم باب الحياة أو نهر السبر، وأهل الصين لا دين لهم؛ حيث إنّ أغلبهم يعبدون الأصنام.
رحلة الأندلس والمغرب
وزار «ابن بطوطة» بلاد الأندلس التي وصل إليها في ليلة عيد، وحضر المصلى مع الناس فما فرغوا من الصلاة والخطبة راح الناس يقبل بعضهم على بعض بالسلام والتهاني بمناسبة ذلك العيد، و«ابن بطوطة» جالس فلم يقترب منه أحد فلا شخص يُسلّم عليه ولا يسأله عن هويته، وفجأة اقترب منه شيخ من أهل المدينة وأقبلَ عليه بالسلام، فقد أحسّ بأنّه غريب عن الديار، تلك ما روى «ابن بطوطة» عما شاهده من أهل تلك المدينة في الأندلس.
وزار«ابن بطوطة» الكثير من مدن المغرب منها: مدينة تازي وهي تلك المدينة التي تلقى فيها خبر وفاة والدته بالوباء، ثم سافر إلى مدينة فاس وهناك التقى بالملك المعظم أبي عنان، وكان من أكثر الملوك حسنًا وجمالًا وأخلاقًا وشجاعة، وكان مُتديّنًا بشكل كبير وذا علم غزير.
رحلة مملكة مالي
زار «ابن بطوطة» مملكة مالي وقد وصف الكثير من الأمور في تلك المملكة، إذ بدأ من ملوكها وسلاطينها انتهاءً بأحوال البيئة والشعوب والشخصيات البارزة، وقد تحدث عن كل صغيرة وكبيرة شاهدها، فلم يعتمد على البحث والتقصي لمجريات الأحداث التي تعرض لها، إنّما نقلها كيفما رآها.
وقام الرحالة «ابن بطوطة» بزيارة مملكة مالي في الربع الأول من القرن الرابع عشر؛ أي في عام 753 هجرية الموافق 1353م في عهد السلطان سليمان إمبراطور مالي، واستغرقت الرحلة إلى هذه البلاد مدة عشرة أشهر تقريبًا.
مؤلفات«ابن بطوطة»
لم يترك «ابن بطوطة» أيّة مؤلفات باستثناء كتاب رحلة ابن بطوطة تُحفة النظار في غراب الأمصار وعجائب الأسفار، وهو المؤلف الوحيد التي دوّنَ فيه جميع أخبار رحلاته التي قام بها لمختلف الدول والأمصار، وقد ساعده في ذلك كتاب يُدعى ابن جزي الكلبي الذي عيّنه سلطان فاس أبو عنان المريني ليُساعده في الإعداد والكتابة لهذا الكتاب الوحيد.
وترجم الكتاب إلى اللغات البرتغالية والفرنسية والإنجليزية، ونشرت بها، و ترجمت فصول منها إلى الألمانية ونشرت أيضا، و كان يحسن التركية والفارسية.
رحيل «ابن بطوطة» عن عالمنا
لا يعرف الكثير عن «ابن بطوطة» بعد الانتهاء من رحلته في المدن والأمصار والقيام بتدوينها مع ابن جزي، ومع ذلك أجمعَ الكثير من المؤرخين أنّ «ابن بطوطة» فضّلَ أن يتولى القضاء في الدولة المرينية لما تبقى من حياته، وأنّه عاش جوادًا محسنًا لجميع مَن حوله.
ورحل أعظم الرحالة المسلمين وأشهرهم عالميًا «ابن بطوطة» في عام 779 هجرية الموافق 1368 م في مدينة طنجة، مسقط رأسه، والتي يوجد بها ضريحه.
وسيبقى لـ «ابن بطوطة» رغم رحيله الفضل الأكبر في خروج هذا الزاد المعرفيّ الذي يحمل ثقافات الشعوب ومختلف الأنظمة الاجتماعية، إذ أسهمَ في إثراء المكتبة العربية فيما يتعلق بكتب التاريخ والجغرافيا، فلولا قيامه بتلك الرحلة العظيمة لما تمكنّا من معرفة أخبار السلف في مختلف دول العالم.