المسحراتي.. مسافر عبر الزمن
"مسحراتي رمضان" أشبه بمسافر عبر الزمن، يحل علينا من عقود قديمة في الأيام الرمضانية من كل عام، فلأكثر من ألف عام، حافظ على شخصيته بذات النحو الذي عُرف به منذ القدم، لم يتغير أو يتبدل، فظلت هذه الشخصية التي تطوف بين الحواري والأزقة في سواد الليل لتنبه المسلمين بقرب الفجر.
المسحراتي
ليس من العجيب، إذ قلنا إن أصل مهنة "المسحراتي" يعود إلى عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، حيث يتضح ذلك من خلال طلبه من الصحابيين الجليلين بلال بن رباح وعبد الله بن أم مكتوم أن يقوموا بإيقاظ المسلمين للسحور.
كان ذلك يتم عبر أن يقوم بلال -رضي الله عنه- بالآذان الأول فيتناولون السحور، بينما يقوم ابن أم مكتوم بعد ذلك بالآذان الثاني فيمتنعون عن تناول الطعام.
هذه بالنسبة للأصل، أما فيما يتعلق بظهور مهنة "المسحراتي" بشكلها المتعارف عليه، فكان ظهورها في عصر الخلافة العباسية، حيث تفيد روايات تاريخية بأن عتبة بن إسحاق، أحد ولاة مصر في القرن الثالث الهجري، لاحظ أن الناس لا ينتبهون إلى وقت السحور، ولا يوجد من يقوم بهذه المهمة آنذاك، فتطوع هو بنفسه لهذه المهمة، فكان يطوف شوارع القاهرة ليلًا لإيقاظ أهلها وقت السحور.
ولما جاء الفاطميون، كان الجنود يمرون على المنازل ويدقون أبوابها ليوقظوا الشعب للسحور، وبعد ذلك عُين أولو الأمر رجلًا للقيام بمهمة "المسحراتي"، حيث كان ينادي "يا أهل الخير قوموا تسحروا" وكان يدق أبواب المنازل بعصا يحملها.
وبين زمن الفاطميين ومجيء المماليك، كادت هذه المهنة تتلاشى، غير أن السلطان المملوكي الظاهر بيبرس، الذي حكم مصر في القرن السابع الهجري، عمل على إحياء هذه المهنة كتراث إسلامي، وذلك عبر تعيين علماء الدين للدق على أبواب البيوت لإيقاظ أهلها للسحور.
وبمرور نصف قرن، تحديدًا في زمن حكم الناصر محمد بن قلاوون، ظهرت طائفة أو نقابة المسحراتية، التي أسسها أبو بكر محمد بن عبد الغني، الشهير بـ"ابن نقطة"، والذي كان يمر بجوار قصر الحاكم لإيقاظه للسحور، حتى يفوز بالنعم والأموال.
ويقال إن على يدي "ابن نقطة" تطورت مهنة المسحراتي، حيث استخدم "الطبلة"، التي كان يُدق عليها دقات منتظمة بغرض إيقاظ الناس.
وبمضي الوقت، تطورت هذه المهنة، حيث بدأ يُعرف "المسحراتي" بما هو متعارف عليه في زمننا هذا، بمعنى أنه بات تلك الشخصية التقليدية التي تطوف الشوارع لإيقاظ الناس بواسطة "الطبلة" وترديد النداءات.
لم يتوقف "المسحراتي" عند ترديد النداءات فحسب، بل نشد الشعر تارةً، والابتهالات الدينية تارةً أخرى، فكان ذلك يحفز الأهالي للاستيقاظ لسماعه، خاصة إن كان صوته حسنًا.
المسحراتي.. مشهد أصيل في شهر رمضان
التطور التكنولوجي الهائل الذي طرأ في القرن العشرين كان له تأثير بالغ الأثر على مهنة "المسحراتي"، حيث فقدت الحاجة الأساسية التي وُجدت من أجلها، وهي إيقاظ الناس للتسحر.
ومع ذلك، لا يزال هذا الرجل الذي يجوب الحواري والطرقات في سواد الليل ضاربًا على "الدف" موجودًا، لا لإيقاظ الناس، حيث أتاحت التكنولوجيا أكثر من وسيلة يستخدمونها في هذا الشأن، بل كمشهد أصيل اعتيد عليه في الشهر الفضيل.