موائد الرحمن في رمضان.. سفير الخير عبر التاريخ
منذ زمن النبوة، حافظت أمتنا على عادة إطعام الصائمين في شهر رمضان المبارك، ابتغاءً لما عند الله -سبحانه وتعالى- من الثواب والأجر، في مشهد، وإن اختلف مسماه عبر تلك السنوات الطويلة، إلا أنه يعكس تهافت المسلمين على فعل الخير وروح الإخاء الإنساني عندهم.
موائد الرحمن.. عبر التاريخ
يعتقد أن أصل "موائد الرحمن" يرجع إلى عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث كان يُرسل بلال بن رباح بالسحور والإفطار إلى من وفدوا إليه من الطائف لإعلان إسلامهم، وتبعه في ذلك عمر بن الخطاب، حيث أقام دارًا للضيافة ليُفطر بها الفقراء والمحتاجين وعابري السبيل.
وكذلك عثمان بن عفان -رضي الله عنه- لما تولى الخلافة بادر فوضع طعام رمضان، فقال: "إنه للمتعبد الذي يتخلف في المسجد، وابن السبيل، والمحتاجين من الناس في رمضان"، بحسب تاريخ الطبري.
فيما تشير روايات تاريخية إلى أن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، هو أول من فطر جيرانه في شهر رمضان، وأول من وضع الموائد في الطرق ليأكل منها الصائمون.
وبذلك يتضح أن أصل تلك العادة الرمضانية قديم، حيث ترجع إلى زمن المسلمين الأوائل، وهو ما يؤكده المؤرخ ابن سعد في "الطبقات الكبرى"، حيث يشير إلى أن تفطير الصائمين في المساجد أصبح عادة مستقرة في زمن الصحابة، حيث يروي عن التابعي عمران بن عبد الله الخزاعي أنه "كان في رمضان يُؤتى الصائمون بالأشربة في مسجد النبي".
وسار الأمويون على نهج الصحابة -رضوان الله عليهم-، حيث كانوا يصنعون الطعام ويوزعونه على المحتاجين في شهر رمضان المبارك، ومع ذلك، كان ذلك العمل ينحصر في نطاق ضيق حتى جاء عصر العباسيين، الذين أسسوا أماكن مخصصة تعرف بـ "دور الضيافة"، حيث كان يُطعم الصائمون.
فكان الخليفة هارون الرشيد يقيم موائد الإفطار في قصره ويتجول متنكرًا يسأل الصائمين عن رضاهم عن الطعام.
موائد الرحمن في مصر
تاريخيًا، ينظر إلى الإمام الليث بن سعد، الذي وُلِدَ نهاية القرن الأول الهجري، على أنه أول من أقام موائد الطعام في مصر في رمضان، حيث كان يمدها بأشهى الأطعمة رغم أنه لم يكن يأكل إلا الفول في رمضان. واشتهرت مائدته بالهريسة فسُميت بـ"هريسة الليث".
اقتدى به في ذلك أحمد بن طولون، الذي اعتاد لثلاث سنوات منذ توليه حكم مصر في القرن الثالث الهجري أن يقيم وليمة فاخرة تضم أشهى المأكولات للأمراء والأعيان، حتى كان العام الرابع فدعاهم وأمرهم بمد موائدهم للفقراء والمحتاجين، ثم أمر بأن يُعلق خطابه في كل مكان، ليتسابق الأثرياء على مد موائدهم وإرسال خدمهم لجلب الفقراء أحيانًا بالقوة للإفطار في موائدهم.
غير أن تلك العادة، على قدمها، قد اختفت في عهد المماليك والدولة العثمانية، جراء كثرة الحروب، حتى جاء الاحتلال الإنجليزي لمصر، وانتشرت الجمعيات الخيرية التي جددت تلك العادة واستمرت، خاصة منذ بداية السبعينيات، حيث تسابق الناس على إقامة الموائد، وبينهم الأقباط، حيث أقام راعي كنيسة "مارجرجس" بحي شبرا أول مائدة إفطار قبطية عام 1969م.
وحتى يومنا هذا، تواصل مصر التمسك بهذه العادة الطيبة، حيث لا تخلو زاوية أو مكان خلال شهر رمضان من مائدة لإفطار الصائمين، في مشهد يجسد روح الإخاء الإنساني بشكل لافت.