رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


رائدة تلاوة القرآن الكريم

4-3-2025 | 14:25


يوسف القعيد,

نزل القرآن الكريم في مكة المكرمة، وطُبِعَ في تركيا، ثم طُبِعَ وقُرأ في مصر.. تتعدد الروايات حول قائل هذه العبارة، ففيما ينسبها الشيخ محمود الطبلاوي إلى الملك السعودي خالد بن عبد العزيز، ويؤكد أنه سمعها منه في حضور الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، فإن أغلب الآراء تنسبها إلى شيخ الأزهر الأسبق محمد مصطفى المراغي، وتُرجِّح أن يكون هو مصدرها الأول ونقلها عنه آخرون.

لكن في المُحصِّلة ليس من المهم من هو القائل، ذلك أن مدرسة التلاوة المصرية صرح عظيم شاركت في تشييده سلسلة من عباقرة المقرئين، وعلى امتداد أجيال متعاقبة، ولعل المفتاح الذي يميزها عن غيرها من المدارس المصرية لتلاوة القرآن الكريم، الارتباط القوي الذي أسس له المصريون بين تعاليم وأصول تلاوة القرآن الكريم، وبين فهم وإدراك المقامات الموسيقية.

وهذا الفهم لا علاقة له بممارسة الغناء، أو تعلُّم العزف على الآلات الموسيقية، بقدر ارتباطه بفهم القارئ لإمكانات صوته وحنجرته وتطويعها لترجمة المعاني التي تتضمنها آيات القرآن الحكيم خشوعاً ورهبة واستبشاراً بفتح الله ونصره وجنته في أثناء التلاوة، وهو ما أدركه جيداً، بل وأجاده عظماء مدرسة التلاوة المصرية سواء بالفطرة أو بالدراسة.

أم كلثوم وعبد الوهاب

كان أغلب القُرَّاء المصريين الكبار من عُشَّاق الموسيقى ويدرسونها باحتراف، فالشيخ محمد رفعت كان "سمِّيعاً"، ويقتني أعمال بيتهوفن وموزارت، وكذلك الشيخ محمود البنا الذي درس المقامات الموسيقية دراسة احترافية على يد الملحن الشيخ درويش الحريري، الذي كان أستاذاً للموسيقار محمد عبد الوهاب. وكان عبد الوهاب وأم كلثوم يسعيان إلى المقرئين ليتعلما فنون الأداء والمقامات، وارتبطا بعلاقة وثيقة مع بعض الشيوخ.

في كتابة: "مزامير القرآن" يُسجِّل أيمن الحكيم تفصيلاً عن هذا الارتباط، نقلاً عن نجل الشيخ مصطفى إسماعيل، الذي كان بينه وبين كوكب الشرق علاقة وطيدة، حيث يقول: ذات مرة كان والدي في مبنى الإذاعة يُسجِّل تلاوته الأسبوعية. وأثناء مغادرته للمبنى فوجئ بأم كلثوم تدخل، ولما لمحته اتجهت إليه لتستشيره في أغنية انتهت من تسجيلها، لشعورها بأن ثمة شيئاً خاطئاً، فلما سمعها أخبرها عن المشكلة.

أما عبد الوهاب، فكان إذا ما جلس للاستماع إلى الشيخ محمد رفعت، يتحوَّل إلى تلميذ، أو بحسب تعبيره "خدام الشيخ"، وظل سمِّيعاً وصديقاً لكبار المقرئين كالشيخ مصطفى إسماعيل وعبدالباسط عبد الصمد.

المطربون والمقرئون

طه عبدالوهاب، خبير المقامات والأصوات والمُحكِّم الدولي بمصر والعالم العربي، والحاصل على الدكتوراه في المقامات القرآنية، والذي تعلَّم على يديه عدد من كبار المُقرئين، يفسر سبب العلاقة بين المطربين والمقرئين بأن الأصل في الفن هم المقرئون وليس المطربين أو الموسيقيين. فعبد الوهاب تعلَّم على يد الشيخين محمد رفعت وعلى محمود. أما أم كلثوم فدرست على يد الشيخين أبو العلا محمد وزكريا أحمد. وكلاهما في الأصل من أهل التلاوة، وكذلك مع أبي الموسيقى المصرية الحديثة الشيخ والقارئ عثمان حسن المولود عام 1800.

وفي هذا الإطار، يُنسب للشيخ محمد متولي الشعراوي تقسيم جميل لمدرسة التلاوة المصرية بقوله: إن من أراد الإتقان، فليستمع إلى الشيخ الحصري، ومن أراد نقاء الصوت فليستمع إلى الشيخ عبد الباسط، ومن أراد الخشوع يستمع للمنشاوي، ومن أراد الفن في التلاوة يستمع للشيخ مصطفى إسماعيل، ومن أراد كل هذا يستمع للشيخ محمد رفعت فهو المدرسة الموسيقية.

وقد تميز شيخ المقرئين محمد رفعت بصوت قوي متميز وطيِّع يُمكنه التعبير بسهولة عن الآية بالمقام الموسيقي المُناسب وبالأداء الدرامي المناسب، مما يجعلك تشعر وكأنه تجسيد للآية القرآنية.

الشيخ محمد رفعت

ويقول صفوت عكاشة خبير المقامات الموسيقية إن صوت الشيخ محمد رفعت قريب من طبقة "الألتو"، وهى إحدى الطبقات الصوتية الأوبرالية، ويتكون صوته من 18 مقاماً، ويستطيع أن يصل أحياناً إلى 21مقاماً، وكان يُناغم المقامات مع بعضها بأسلوب السيمفونيات الموسيقية، ويتضح ذلك بشدة فى تلاوته لآيات القصص القرآني.

أما الناقد الموسيقي كمال النجمي – يرحمه الله رحمة واسعة – فقد كان زميلنا بدار الهلال، ورأس تحرير مجلة الهلال فترة من الوقت. فيقول عن الشيخ مصطفى إسماعيل: إنه كان يمتلك صوتاً فذاً، واسع المساحة، وكبير الحجم. وكانت له حصيلة من العلم بالمقامات لا مثيل لها عند غيره من المقرئين. بمن فيهم الشيخ رفعت، ولكن الشيخ مصطفى كان يستخدم صوته وعلمه بالمقامات في إبراز جمال الآيات وإعجازها". وعليه، لا يعود مستغرباً سماع أم كلثوم وعبد الوهاب للشيخ إسماعيل وارتباطهما معه بصداقة شخصية وصولاً إلى تعلمهما من تجلياته المقامية والأدائية.

أما صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد فيتجلى في مقام الصبا بما يُميزه من حُزن وخشوع بسبب قوة صوته ووقع تلاوته استعان المخرج الراحل مصطفى العقَّاد بالشيخ عبد الصمد في فيلمه الشهير: الرسالة. ليكون الصوت الذي سيرفع به بلال الحبشي مؤذن الرسول، الأذان فوق الكعبة في مكة المكرمة. هكذا كان الأذان متفرداً بسبب الشجن الذي يُميِّز صوت عبد الباسط عبد الصمد.

جمهور التلاوة

فضلاً عن تعلُّم أسرار المقامات الموسيقية التي أدركها عظماء مدرسة التلاوة بالفِطرة، وساهمت في التصوير النغمي لمعاني القرآن الكريم، فإن للشيخ محمود الحصري تفسيراً آخر لانتشار المدرسة المصرية في التلاوة.

وبعيداً عن التعصب والانحياز لكل ما هو مصري، يُرجِع الحصري هذا التميز إلى عادة مصرية قديمة ومتوارثة، ربما تعود إلى زمن الفراعنة، وهي عادة وطقوس الاحتفاء المتفرد بالموت، والتي جرى تطويعها مع دخول الإسلام إلى مصر، فأصبحنا نرى المأتم الذي يقيمه أهل المتوفي ويودِّعون فيه فقيدهم بتلاوة القرآن.

ولأن من انقطع لشيء أحسنه، فإنه ليس في العالم قُرَّاء، بحسب الشيخ الحصري، يصلون إلى ما وصل إليه قُرَّاء مصر. أما عادة التلاوة في المآتم فهي التي مكَّنت القُرَّاء من تحسين أدائهم، وحوَّلت قراءة القرآن إلى مصدر رزق للمُقرئ المصري.

ومما تتفرد به مصر ويجعل منها عاصمة التلاوة، ويجعل قُرَّاءها الأكثر نفوذاً وتأثيراً وشهرة، هو البصمة الخاصة في فن الأداء التى يشارك فيها المستمع كطرف فاعل ومتفاعل. هكذا نرى بين الجمهور من يقف مُعلناً عن إعجابه بأداء المقرئ، فيصيح أو يهتف في طقس يتميز به جمهور التلاوة في مصر.

يُذكر أن مصر كانت من أولى الدول التي بثت القرآن الكريم مسموعاً عبر أول إذاعة متخصصة في القرآن الكريم أنشئت عام 1964، وكان الشيخ محمود الحصري أول من سجَّل القرآن مرتلاً بالكامل. وكان ظهور إذاعة القرآن الكريم سبباً في شهرة أصحاب الأصوات الممتازة والكفاءات العالية وحفظت مدرسة التلاوة المصرية من الاندثار.