قديما قالوا «الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده» والحقيقة ان هذه المقولة قد يكون من الصعب تقبلها أو فهمها خاصة إن كان الشخص الذي تلقى على مسامعه مازال في مقتبل حياته ويعتقد أن الأمر، أي أمر، يتحسن كلما زاد، فالكثير من الأموال هي الأفضل وهي ما تجعل الإنسان سعيدا والكثير من الضحك أفضل من العبوس والكثير من التشدد في الدين أفضل من التراخي فيه وهكذا.
هذه المقارنة بها خدعة كبيرة فأنت تقارن الكثير من الأمر بالقليل منه وحتما ستكون الغلبة للكثرة، ولكن هذه الكثرة لا تكون أبدا مفيدة إذا ما قورنت بحالة الوسطية ودعونا نأخذ أمثلة بسيطة لتبيان الأمر، حيث إن رجلا يعاني الهزال وضعف الصحة، بالتأكيد فإن التغذية السليمة ستساعده على الخروج من هذه الحالة، ولكن الإفراط في الأكل سيحيله حتما إلى مشكلات أخرى لا تقل خطورة عن مشكلته الأصلية، نفس الأمر في حالة شخص مريض لا يتلقى أي علاج، فإن الإسراف في الأدوية قد يقتله.
وفى كل المحاولات لسرد أمثلة سنجد أن كل أمور الحياة تخضع لتلك القاعدة، قاعدة منحنى الجرس The Bell Curve القليل جدا والكثير جدا من أي شيء تكون لهما نفس الخصائص و منحنى الجرس لمن لا يعرفه هو ببساطة رسم بياني لتوضيح الكمية والأثر لأى شيء وعند اكتمال هذا الرسم يظهر شبيها بالجرس، يبدأ بقيم منخفضة تتزايد كلما زادت المدخلات حتى يصل لنقطة معينة يبدأ بعدها الأثر في التناقص مع زيادة المدخلات وصولا إلى تشكيل حالة من التماثل حول نقطة منتصف الجرس وكما قلنا فإن من يأكل قليلا جدا يصاب بالهزال والأمراض ومن يأكل كثيرا يمرض، وأيضا نجد أن الشخص شديد الفقر والشخص شديد الثراء يتشابهان في الكثير من الخصائص النفسية والسلوكية ومن من يذاكر قليلا لايجيد في الإجابة في الامتحان ومن يذاكر كثيرا جدا أيضا قد يصل لنفس النتيجة-أعرف زملاء دراسة من طرفي منحنى الجرس-تماما مثلما يحدث الضحك الذى يميت القلب ويحيل صاحبه إلى كأبة شديدة تتشابه مع حالة الشخص المكتئب شديد العبوس وكذلك فإن من يتحدث كثيرا لا يسمعه أحد تماما كمن لا يتحدث على الإطلاق.
نقطة المنتصف هي النقطة المثالية فعندها تكون كمية الأكل لازمة لصحة قوية وكمية المذاكرة كافية للتفوق الدراسي وكمية الضحك مناسبة لاستمرار الحياة وكمية من المال كافية لحياة كريمة، فبعد هذه النقطة يبدأ الانحدار في الاتجاه العكسي.
وللعجب فإن مقولة قديمة لم نصدقها في حينها رغم أنها تلخص الأمر في ثلاث كلمات، "خير الأمور الوسط" فمهما كانت الكثرة مغرية فإن الأمثلة دائما ما تؤكد على تلك المقولة، نستطيع أن نسرد آلاف الأمثلة على ذلك، على ندم أصحاب الوفرة والذي يتشابه كثيرا مع ضجر أصحاب القلة.
نجد توضيحاً مهما للوسطية في الآية 29 من سورة الإسراء حيث يأمرنا الله عز وجل قائلا " وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا" والمعنى واضح لا تمسك يدك تماما ولا تبسطها على إطلاقها في أمر الإنفاق وإلا فإن العاقبة أن تقعد ملوما محسورا ونحن نرى أمثلة كثيرة للبخلاء وما حدث لهم وللمسرفين وما انتهى إليهم به الحال، إذا فإنها الوسطية أو منتصف منحنى الجرس.
الوسطية مطلوبة في كل شيء حتى في العبادات فلا يصح أن ينقطع الفرد للتعبد ويترك الواجبات الواجبة عليه من رعاية وإنفاق لمن هم مسئولون منه ولا يصح أن يهمل العبادة بحجة الانشغال في طلب الرزق فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى ثلاثة نفر في المسجد منقطعين للعبادة فسأل أحدهم من أين تأكل؟ فقال: أنا عبد الله، وهو يأتيني برزقي كيف شاء، فتركه ومضى إلى الثاني فسأله مثل ذلك فأخبره أن له أخا يحتطب في الجبل فيبيع ما يحتطبه فيأكل منه ويأتيه بكفايته، فقال له: أخوك أعبد منك ثم أتى الثالث فسأله فقال له: إن الناس يروني فيأتوني بكفايتي فضربه بالدرة وقال له أخرج إلى السوق. أو كما قال" ولذلك فإنه كلما مررنا بموقف بعد تشدد أو مغالاة ارتفعت الأصوات للحديث عن الإسلام الوسطى وكأن الإسلام نفسه قد وضع ليتبع نفس قاعدة منحنى الجرس والحقيقة أن الإسلام هو الإسلام ولكن التشدد أو التراخي يأتي من تفسيرات وتأويلات البعض وهى في الحقيقة تعكس خلفياتهم وحالاتهم النفسية ولعصبية وظروف النشأة و غيرها من العوامل الخارجية فالإسلام واضح وثابت ولكن تتغير تفسيرات البشر والتي هي للأسف تفسيرات خاصة بهم يتم تداولها وتبنيها ونشرها ورفعها أحيانا إلى مرتبة الكتاب والسنة الصحيحة وهنا تكمن المشكلة الرئيسية ولعل أحدا يتساءل كيف لدين-أي دين- أن يبيح الاعتداء والقتل وسفك الدماء باسمه أو يبيح شرب الخمر وفعل المنكرات باسمه أيضا، ولذلك فإن التخلص من تلك الأفكار واجب على الجميع أو فرض عين كما يقال فإن كان الدين-وهو كذلك- قد أتى لصلاح الدنيا والآخرة، فأي صلاح يرافق القتل وأي صلاح ينجح مع الانحلال والفساد؟
مثال آخر للوسطية نراه جليا في عصر المعلومات الهائلة الذى نحيا فيه، معلومات تطل عبر أجهزة الراديو والتلفاز وعبر شاشات الحواسب والهواتف الذكية وما تنقله من فيضانات متلاحقة عبر شبكات التواصل الاجتماعي وعبر المنصات الرقمية والتطبيقات الالكترونية، فكثرة المعلومات-يطلق عليها Information Overflow- بلا ضابط أو رابط مثل ندرة المعلومات و قلتها، لن تصل بنا إلى النتيجة المرجوة، فالشخص الذى لا معلومات لديه نجده متخبطا مشتت الفكر لا يستطيع أن يخطط أو يتخذ قرارا سليما والشخص الآخر الذى يتعرض لهذا الكم المهول من المعلومات لن يستطيع تحليلها أو الاستفادة منها ومن ثم لن يستطيع التخطيط أو اتخاذ القرار السليم أيضا، أضف على هذا ما تم اعتماده مؤخرا في قاموس أكسفورد لتعبير "تعفن الدماغ" Brain Rot ككلمة عام 2024 والتي تعنى الحالة النفسية و الذهنية والعقلية التي تصيب الإنسان جراء تعرضه لكم كبير من المواد التافهة والأخبار المفزعة خلال اليوم.
وحتى فيما يخص الذكاء الاصطناعى، ذلك القادم الجديد يجب أن يتم التعامل معه بصورة وسطية متزامنة، فمنذ نوفمبر 2022 ومع إطلاق تطبيق شات جى بى تى ChatGPT الذى يستطيع بسهولة توليد محتوى مكتوب ومعارف جديدة بناء على ما تم إدخاله إليه من قبل من بيانات مهيكلة وغير مهيكلة وما تلا ذلك من تطبيقات أخرى تتعامل مع الصوت والصورة أو روبوتات متحركة تقوم بمهام كان يقوم بها الإنسان أو التطبيقات الأخرى الجديدة فى كل المجالات، ومنها الطب والصناعة والرى وحماية البيئة والنقل الذكى و إدارة المدن الذكية وغيرها وهو ما يلقى بظلاله على شكل وظائف المستقبل وترتفع الأصوات والتوقعات بإحلال تلك الأنظمة محل البشر وتأثير ذلك على فرص العمل وزيادة معدلات البطالة وخلافه، مع انتشار تلك التطبيقات انقسم العالم إلى قسمين على طرفى منحنى الجرس، القسم الأول أو الطرف الأول يرفض تلك التطبيقات تماما ويمتنع عن حتى تجربتها أو التعرف على مميزاتها رافعا دعاوى لاستمرار الأمور على ما هى عليه، أى يستمر الإنسان فى القيام بالمهام بنفس الأساليب التقليدية مع استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالا بالصورة التقليدية أو حتى الاستغناء عنها تماما فى بعض الحالات، أما الطرف الثانى أو القسم الثانى فهو القسم المؤمن تماما و المنغمس حتى أذنيه فى استخدام تلك التقنيات مستغنيا عن قدراته العقلية أو الإبداعية مفسحا المجال لما تنتجه تلك التطبيقات من معارف ومحتوى، والحقيقة أن كلا الطرفين على خطأ، فالامتناع التام لن يفيد فعجلات الساعة لا تعود إلى الوراء ومن يرفض استخدام تلك التقنيات سيستمر يعانى فيما يقوم به وسيسبقه آخرون يستخدمون تلك التطبيقات لإنتاج محتوى أو لأداء أعمال بدقة أكبر وبتكلفة أقل وفى زمن قياسى، أما من يرقى بنفسه فى أحضان تلك التقنيات بالكلية فإنه سيتحول إلى عبد لها لايستطيع أن يعيش أو أن يعمل بدونها وهذا وان كان يعطيه نتائج سريعة إلا أنه وعلى المدى الطويل سيؤدى إلى تراجع القجرات العقلية و الإبداعية له هذا بالإضافة إلى ما قد تنتجه تلك التقنيات من محتوى منحاز أو غير موضوعى وهنا نجد أن الحل الأمثل هو أن نتلمس نقطة منتصف منحنى الجرس مرة أخرى، أى أن نصادق الذكاء الاصطناعى و أن نجربه ونستفيد مما يمكنه أن ينتج لنا من محتوى وما يمكن ان يقوم به من أنشطة ومن معاونة ولكن من منطلق أن تلك التقنيات هى عامل مساعد أو أداة معاونة للمزيد من التحسين فى المنتج الإبداعى النهائى وهنا وباعتماد هذه الكيفية للعمل يستطيع الفرد الاستفادة من تلك التقنيات للمعاونة فى الإسراع فى أداء الأعمال، فالكاتب والمؤلف والموسيقى والرسام و المدير والمحاسب والمحامى والطبيب و المهندس و غيرهم، يستطيعون الارتقاء بالأداء من خلال هذا التوازن وهذه الوسطية فى الاستفادة من تلك التطبيقات مع الاحتفاظ بعقله وخبرته وإبداعه وأن تكون لهم اليد العليا دائما.
ولا يمكن ان يتم ذلك بالتجربة الفردية فقط بل يجب أن تتضافر عدة عوامل ومحددات للمساهمة فى الوصول إلى النقطة المنشودة منها أنظمة الرقابة ومواثيق الاستخدام المسئول للذكاء الاصطناعى وكذا أيضا سن التشريعات والقوانين المنظمة مثل ما قام به الاتحاد الأوروبى العام الماضى حينما أطلق أول قانون لتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعى داخل دول الاتحاد والمعروف ب EU AI ACT بالإضافة إلى التوسع فى التعاون الدولى بين الحكومات وبين الشركات وبين مؤسسات ومنظمات المجتمع المدنى وبين جهات مراقبة وإنقاذ القانون للتنسيق فى القضايا المرتبطة بتوظيف تلك التقنيات ومنها قضايا الخصوصية والانحيازات وآمن المستخدمين وتحديد المسؤولية القانونية لكل الأطراف المتعاملة، كما يحتاج الأمر أيضا إلى المزيد من التغيير فى المناهج الدراسية لتشمل تقنيات الذكاء الاصطناعى بممبزاتها وعيوبها وخطورتها أحيانا بالاضافة إلى ضرورة عمل حملات توعوية على كل المحاور وفى كل المستويات ولكل الأطراف العاملة والمتعاملة مع تلك التقنيات.
فى الختام أعود وأؤكد على أهمية النظر دائما إلى نقطة منتصف منحنى الجرس.... أى جرس، فبدون الوسطية فى كل الأمور فستجنح الأمور حتما إلى هاوية أو إلى عواقب لا يتمنى أحد حدوثها.