د. شيماء المهدي,
إن لكل عصر ثقافته ولغته التي تعبر عنه وتبرز معالمه وتوضح مزاياه وخصائصه؛ وتعكس أوجه الحضارة والتطور فيه.
ولا شك أن علوم التكنولوجيا هي لغة هذا العصر وثقافته التي تعبر عن روحه وحضارته ؛وأن منصات التواصل الاجتماعي تأتي على قمة هرم التطور والتقدم التكنولوجي حيث أصبحت متاحة للجميع.
إن تفعيل دور تكنولوجيا الإعلام ووسائل الاتصال الحديثة في نشر ثقافة الوسطية والاعتدال ومواكبة مستجدات الحاضر من أهم القضايا التي يتوجب التوجه لها لمحاولة الوصول إلي إجابة عن التساؤلات التي تثار من حين لآخر حول الإسلام والتطرف والإرهاب وتأكيد عدالة الاسلام وأنه دين الوسطية والتسامح.
ففي هذا المقال نسلط الضوء على الأثر البالغ لمواقع التواصل الاجتماعي في تشكيل الهوية الثقافية للشباب؛ وتكوين الرأي العام وتثقيفه بالفكر الوسطي عبر الدعوة إلي " الاعتراف بالٱخر وقبوله ونبذ التعصب والحوار الهادف والبناء"٠ ومن خلال التفعيل. الأمثل للرسائل الإعلامية الهادفة والمدروسة التي تسعى لنشر ثقافة الوسطية والتسامح بحيث تنعكس هذه المفاهيم على طاقات الشباب وتساهم مساهمة إيجابية في القضايا الوطنية ونبذ التطرف والغلو.
إن الدين الإسلامي الحنيف دين السماحة والإعتدال؛ والأمة الإسلامية كما وصفها الله عز وجل هي أمة وسط لا غلو ولا تطرف فيها٠ قال سبحانه وتعالى:" وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً" الآية 143 تتوسط سورة البقرة وعددها 286 آية.
تُعد الوسطية في كل الأمور من أهم مزايا المنهج الإسلامي: فأمة الإسلام أمة الوسط والصراط المستقيم بمعنى أنها تستغل جميع طاقتها وجهودها فى البناء والعمران المادي والتربوي والعلمي والثقافي من غير إفراط ولا تفريط؛ فهي تحقق التوازن بين الفرد والجماعة وبين الدين والدنيا والعقل والقوة والمثالية والواقعية وبين الروحانية والمادية وغيرها.
فالوسطية ترجع في أصل وضعها إلي مادة وسط؛ والوسط اسم لما بين طرفي الشيئ وأوسط الشئ أفضله وأعدله؛ ويقال أوسط قومه أى خيارهم٠
وقال الحسن لأعرابي:" خير الأمور أواسطها"٠ وقال ابن الأثير:" كل خصلة محمودة فلها طرفان مذمومان فإن السخاء وسط بين البخل والتبذير والشجاعة وسط بين الجبن والتهور"٠ والوسطية في العرف الشائع في زمننا تعني الاعتدال في الاعتقاد والمواقف والسلوك والنظام والمعاملة والأخلاق والاعتدال توسط حال بين حالين وقد استخدم القرآن لفظ الوسط معبراً فيه عن إحدى سمات هذه الأمة.
وإن عالمية الإسلام ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأهم سمات الدعوة الإسلامية وهي الوسطية من حيث العبادات والمعاملات. ولكن هناك العديد من التحديات الماثلة أمام الفكر الوسطي والمعتدل تتمثل في العداء الخارجي والتفرق الداخلي وجود أطراف تحاول صبغ الإسلام ووصفه بما ليس فيه وهذا يتطلب تسخير جميع السبل لنشر الفكر الوسطي للحفاظ على تماسك الأمة ورفعتها.
فالمطلوب في الدعوة الحكمة، ومن ضمنها الحكمة في استخدام الوسيلة المناسبة للدعوة إلي الاسلام فأصبح من واجب دعاة الاسلام وعلمائه أن يستفيدوا من جميع أنواع وسائل الاتصال الحديثة- التي ظهرت في عصر ثورة المعلومات والاتصالات- لإيصال دعوة الله تعالى إلي كل الناس (الحكمة ضالة المؤمن أن وجدها أخذتها)، والسعي إلي تعزيز القيم والمفاهيم الاسلامية، وتقوية المنظومة المجتمعية للأمة الاسلامية والمحافظة على تماسكها.
ولاشك أن وسائل الاتصال الحديثة أصبحت أكثر فاعلية وجاذبية وذلك بخلق فضاء مفتوح لنقل المعرفة والثقافة من مختلف البلدان، وزيادة وتجديد أهتماماتهم في مجالات كانت بعيدة عنهم سواء كانت ؛ سياسية أو تربوية أو أقتصادية أو معرفية أو ثقافية، وزاد من فاعليتها الصورة المغلوطة أو التعتيم الاعلامي الذي تمارسه بعض وسائل الاعلام، مما جعل الكثيرين يلجأون لوسائط الاتصال الرقمية كوسائل بديلة أو إعلام بديل.
ولهذا تُعد شبكات التواصل الاجتماعي من أبرز وسائل الاتصال الحديثة وأكثر تأثيراً فهي تستمد قيمتها الأساسية من حرية الإنسان في التعبير بالإضافة إلي انتشارها الواسع بين جميع شرائح المجتمع فهي تملك القدرة علي تنظيم الناس وتُعد وسيلة للمناصرة والتوثيق وتبادل المعلومات والخبرات ووسيلة للترويج لرسالة أو فكرة أو معتقد وهو الأمر الذي جعل لهذه الشبكات دوراً أساسياً في تشكيل الرأي العام خاصة في القضايا الفكرية التي لا يمكن للدعاة والمفكرين والتربويين الإسلاميين تجاهلها لبث وترسيخ المفاهيم والمبادئ الإسلامية السامية بين أفراد المجتمع.
لذا فإن دور مواقع وشبكات التواصل الاجتماعي في تعزيز ثقافة الوسطية والاعتدال يعد ركيزة أساسية لإنجاح الدعوة؛ وهذا يتطلب استخدام الوسائل المناسبة لمواجهة التحديات التي تقف أمام الفكر الوسطي المعتدل للنهوض الحضاري بالأمة في الوقت الذي تسعى فيه المجتمعات الإسلامية إلي صقل شخصية الفرد المسلم وإيجاد مجتمع واع ومدرك لمقاصد عقيدته وقواعد سلوكه وتعزيز قيمه الإسلامية القائمة على التسامح والوسطية والاعتدال ونبذ التطرف والمغالاة وتحقيق الاستقرار والطمأنينة في حياة الفرد والأمة.
فإن تنمية حسن الاعتدال ورفض التزمت ونبذ التطرف المتشدد هو مسئولية عامة تحتم علي جميع المعنيين بهذا الأمر من الكتاب والمفكرين والدعاة والمربين وقادة تشكيل الرأي والإعلاميين الانتباه لخطورة تداعيات ظاهرة التعصب ؛ والحاجة إلي الاعتدال. والوسطية والحرص على رصّ الصف كضرورة قصوى تتطلبها المصلحة العامة للناس بما يعزز الأمن والسلم الاجتماعي ويدرأ عن المجتمع مخاطر تبديد طاقاته بالتعصب.
ومن السبل التي يمكن من خلالها نشر مفاهيم الوسطية والاعتدال من خلال مواقع شبكات التواصل الاجتماعي:
إنشاء مكتبات شاملة ومحمية المحتوى عبر الإنترنت كمرجعية لمادة فكرية وتاريخية وشرعية تدعو للاعتدال والوسطية ونبذ التطرف والتعصب. تضم قصصاً وسيراً من التاريخ الإسلامي تبين حقيقة التمثل بصفات الوسطية وأصول الاعتدال في كل شيئ على أن تتصف بسلامة المصدر وقصر النص واضحة الفكرة وسهلة التداول عبر وسائل التواصل سواء كرسالة نصية أو منشورة علي الفيس بوك أو في الواتس أب وغيرها.
- إنشاء مجموعات وصفحات دردشة عبر مختلف مواقع وشبكات التواصل الاجتماعي تدعو للاعتدال والوسطية ؛ هذه المجموعات يمكن أن يرأسها ويديرها أشخاص ذوو دراية وعلم بالشريعة الاسلامية يدعون فيها إلي الوسطية والاعتدال ومدربون على المناقشة والحوار بهدف تقديم الفكر السليم ونبذ التعصب والتطرف .
- تقديم مشاركات عبر مواقع التواصل الاجتماعي تنقل قصص من القرآن الكريم والسنة النبوية ومن مواقف الخلفاء والسلف الصالح وتوضح وتذكر بقيم الإسلام السمح الوسط.
- الترويج للأنشطة والدعوة والتفاعل معها وحشد المشاركين في برامج وأنشطة التثقيف بالوسطية وذلك من خلال إنشاء مواقع إسلامية متخصصة للترويج للأنشطة والدعوة والتثقيف بالوسطية وخدمة القضايا الإسلامية؛ بالاضافة إلي دعوة العلماء في المواقع لنشر مقالاتهم ومحاضراتهم وفتاواهم والاستفادة من البريد الإلكتروني في نشر مفاهيم الوسطية من خلال البرامج والمقالات والأخبار بعد التوثيق من صحتها.
- برامج التوعية عبر اليوتيوب والبرامج المدمجة لتقديم القدوة الحسنة ونشر النماذج المتميزة من قادة العمل الإسلامي فإن تبادل الصور والتسجيلات أكثر سهولة عبر شبكات التواصل وأكثر رسوخا في الذاكرة ولذا يمكن استغلال ذلك في نشر البرامج والنماذج للاعتدال والوسطية والتسامح باختلاف الشرائح العمرية.
- دور الإعلام في بناء ثقافة الوسطية يتمثل في صناعة المفهوم ومحاولة وضع اسس وقنوات تؤدي إلى الوسطية على المستوى الفردي والجماعي وعلى المستوى السياسي والثقافي وفي ثقافة النخبة ووعي الجمهور.
- العمل علي وجود المؤتمرات والجلسات العلمية في مواقع الالكترونية مثل المنتدي العالمي للوسطية(Wasatyea.net) وكذلك الصفحات الخاصة بعلماء الدين والمشايخ ودعاة الوسطية والاعتدال بشكل عام لوصول المعلومات للشريحة العامة من الشباب ومستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي.
ولذا تعتبر شبكات التواصل الاجتماعي وسيطاً قوياً لما لها من أثر فاعل وحساس في بلورة الآراء والتوجهات للأفراد وتشكيل الثقافة العامة والقيم المجتمعية وبث القيم الأخلاقية ونشر مفاهيم الوسطية والاعتدال وغرس قيم جديدة تتطلبها هذه المرحلة وهي مرحلة بناء الإنسان التي تناشد بها الدولة لترسيخ منظومة الوعي وتعميق الهوية ودعم مسيرة التنمية من خلال مبادرة " بداية جديدة لبناء الإنسان المصري" نحو مستقبل مشرق فهي على رأس أولويات الدولة المصرية لمواجهة التحديات التي تتطلب إنساناً واعياً متطوراً منتجاً.