يا سامعى القرآن الكريم.. أنصتوا ثم أنصتوا، تفوزوا إن شاء الله بالثواب والمحبة والرحمة التى وعد الرحمن عباده المتقين، السامعين المنصتين إلى كتابه العزيز، مصداقا لقوله تعالى : "وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون".
بهذه العبارة، أو بعبارة مثلها، رفع شيخ مكفوف صغير السن صوته الجهورى، وقد جلس مطمئنا سعيدا محبورا يترقب سماع الشيخ محمد رفعت في مسجد “فاضل باشا” بدرب الجماميز قبل صلاة إحدى الجمع منذ بضعة وأربعين عاما.
كنت في ذلك الصباح الشتوى اللطيف من يوم الجمعة أرى القارئ العظيم الشيخ محمد رفعت لأول مرة في حياتى، وقد جئت إلى القاهرة من قريتى منذ يومين فقط واستمعت إلى أم كلثوم في الليلة المنصرمة – ليلة الجمعة أو ليلة الخميس كما يسمونها – بمسرح حديقة الأزبكية في وسط القاهرة، تتغنى حتى الثانية صباحا بروائعها التي كانت تملأ الأسماع في ذلك العهد، وكانت أم كلثوم في عز شباب صوتها، واكتمال صحتها وسعادتها بما حققت من مجد غير مسبوق في فن الغناء العربى على امتداد تاريخه الطويل.
في صباح الجمعة ذاك صحوت مبكرا ولم يزل صوت أم كلثوم في وجدانى، فاتخذت طريقى مع جماعة من أقاربى مشيا على الأقدام، نستوقف الناس نسألهم، أين مسجد فاضل باشا؟ حتى وصلنا إليه بعد عشرات الأسئلة منا، وعشرات الأجوبة من الناس، وكان الناس في تلك الأيام يستعين بعضهم ببعض، ويساعد بعضهم بعضا عن طيب خاطر!
جلست على مقربة من الشيخ رفعت في المسجد وقد تربع في تواضع فوق منصة القراءة، حتى اعتدل الشيخ في مجلسه وتنحنح فأصغى الناس إليه وأرهفوا الأسماع، كأنهم طربوا له إذ تنحنح، وكأنه هيأ القلوب بنحنحته هذه للسماع والعظة بالتنزيل المبين.
ثم انسابت النبرات الموسيقية الدقيقة من حنجرته، يمتد شعاعها الوهاج إلى الجالسين حوله، امتداد أشعة الشمس إليهم ملء رحاب المسجد في ذلك الصباح الدافئ المشرق الجميل.
ولعلى فوجئت في اللحظات الأولى بأن صوت الشيخ رفعت- بدون ميكروفون- لا يجلجل فيملأ الجو كما عهدناه ونحن نسمعه سنوات طوال من خلال المذياع في قريتنا بالصعيد الأعلى.
كنا هناك نسمعه مرتفعا مدويا وتسمعه معنا القرى المجاورة.. ولكنه في المسجد أشبه بالكمان حين يميل إلى الخفوت ينصت إليه السامعون بانضباط شديد، حتى لا تفوتهم منه همسة، فإن همسة ذلك الكمان العبقرى الخافت تساوى أضعاف وزنها ذهبا أو طربا أغلى من الذهب أو نورا يستضىء به الوجدان.
ولكن خفوت صوته لم يكن يحجب عن السمع اتساع مساحته وكثرة درجاته الموسيقية أو مقاماته.. فإن صوت الشيخ رفعت من الأصوات البالغة الندرة التي يضيق حجمها وتتسع درجاتها الموسيقية حتى تتفوق باتساعها على أكبر الأصوات حجما.
ولهذا لم يكن الميكروفون يزيف صوت الشيخ رفعت، كان يوضح حجمه فقط، ويلقى الضوء على دقائق ملامحه الفذة.
أما درجاته الموسيقية المتعددة المتراكبة في اتساق عجيب ليس له نظير، فإنها لا تتغير بالميكروفون.. فلم يكن بين صوته الطبيعى وصوته فى الميكروفون إلا فارق الوضوح في الأسماع حين تصغى إليه من مكان بعيد.
كان صوتا مكتمل الروعة والجلال والجمال، تنطلق مساحته الواسعة من حجمه الضيق.. على درجاته الموسيقية الكثيرة الغزيرة.. فتبلغ سماء الفن كما يطلق الصاروخ من قاعدته الصغيرة فيبلغ الفضاء الأعلى.
والحق أنى لم أسمع منذ عرفت السماع طفلا في أواخر العشرينيات إلى يومى هذا صوتا ضيق الحجم خافتا كصوت الشيخ رفعت.. يحتوى برغم ضيق حجمه وخفوته على ثماني عشرة درجة موسيقية أو ثمانية عشر سلما موسيقيا سليما. يمتد على الأقسام الثلاثة من أقسام الأصوات الرجالية الثلاثة المعروفة عند الموسيقيين. الباص والباريتون والتينور فاجتمعت لصوته العبقرى مساحة موسيقية هائلة. سمعناها وهى تضم ثمانية عشر مقاما في أواخر الثلاثينيات وسمعها من سبقونا في العشرينيات وهى تضم واحدا وعشرين مقاما تقريبا.. تنطوى بترتيب عجيب في ذلك الحجم الضيق كما تنطوى الطاقات الهائلة في الذرة الصغيرة التي استودعها الله سر القوة.
بهذه المواهب الصوتية الفائقة بهر الشيخ محمد رفعت معاصريه وملأ دنياه وشغل سامعيه.
ولكنه لم يكن موهبة صوتية باهرة فحسب.. كان في الحقيقة إنسانا مخصوصا بتلاوة القرآن.. إن صح هذا التعبير.. كأنما وجد في الدنيا ليتلو القرآن ويرتله على الناس ترتيلا، عارضا عليهم معانيه وألفاظه من جديد.
كان حين التلاوة يضع قلبه في معانى آياته وروحه في حروف كلماته متدبرا ما يتلو تدبر المؤمن الفهم الورع كأنه يرفع أمام بصيرته في كل وقت هذا السؤال القرآنى.. "أفلا يتدبرون القرآن"؟
إذا تلا من آيات الثواب والرحمة رفع صوته فرحان مستبشرا كأنه يستقبل نفحة من الجنة. وإذا مر بأية من آيات العذاب سرت في صوته الرعدة والرجفة كأنه يخشى أن يختل توازنه فوق الصراط!
كانت دموع قلبه تجرى من نبرات صوته فتلاوته حزينة باكية ووجدانه ممتلئ بهذه الآية "إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا” وكان باله مشغولا يقول النبى عليه الصلاة والسلام: "إن هذا القرآن نزل على فاقرأوه بحزن:
وقوله "إن أحسن الناس قراءة من قرأ القرآن يتحزن به!".. وقوله "إن قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، وتغنوا به فمن لم يتغن به فليس منا".
وإذا سمعت تسجيلات للشيخ رفعت تذكرت سهرات رمضان البعيدة التي كانت تضىء في الإذاعة كل ليلة وتضىء في قلوب الناس بتلاوة القرآن.
كان صوت الشيخ رفعت يحمل للمستمعين في كل البلاد راحة الضمير واطمئنان النفس وحلاوة الثقة بعد نهار الصوم.. وكان اسمه مرتبطا بشهر رمضان يتذكرهما الناس معا، وينتظرونهما معا.
وكان ينطبق على الشيخ رفعت قول الرسول عليه السلام وهو يذكر صوت سالم مولى أبى حنيفة قارئ القرآن "الحمد لله الذى جعل في أمتى مثل هذا .. أو قول عمر بن الخطاب لما سمع أبا موسى الأشعري يتلو القرآن "ومن استطاع أن يتغنى بالقرآن غناء أبى موسى فليفعل".
كان صوت الشيخ رفعت خاشعا متواجدا يثير وجد السامعين ويستحضر خشوعهم.. قوى التعبير عن الأمل في الله والثقة بمغفرته وثوابه.. وقد لبث رحمه الله- يبكيهم ويرقق أفئدتهم بآيات الثواب والعقاب زمنا طويلا حتى أبكاهم في نهاية أمره على نفسه وأسال دموعهم حزنا على صوته!.. ففي أخريات عهده بالقراءة- في منتصف الأربعينيات- أصابته حبسة في حنجرته أثرت تأثيرا ظاهرا في مقدرته على التحكم في صوته العظيم بالطريقة المعجزة المحيرة التي لبث يبهر سامعيه بها عشرات السنين قبل أن يتلو القرآن في ميكروفون الإذاعة وبعد أن جلس أمامه يتلو القرآن.
كان الشيخ رفعت قبل ظهور الإذاعة الأهلية في القاهرة معروفا في نطاق ضيق لأن المشايخ ذوى الأصوات العالية الجهيرة كانوا يجتذبون المستمعين بجهارة الصوت وضخامة حجمه وعلى رأس هؤلاء المشايخ القارئ والمنشد الكبير الشيخ على محمود فلما أنشئت الإذاعات الأهلية في القاهرة وسمع الناس من ميكروفوناتها صوت الشيخ رفعت ارتفعت مكانته فوق جميع المقرئين وصار يلقب بإمام القراء ثم أنشئت الإذاعة المصرية الحكومية فكان الشيخ رفعت أعظم الأصوات التي انبعثت منها مما جعل بعض القارئين حزبا ضده.
وقيل إن بواعث الحسد في بعض ذوى النفوس الضعيفة جعلتهم يدسون له في شراب أو طعام ما أفسد حنجرته ولكن الحقيقة أن الشيخ رفعت رحمه الله أصيب في السنة الأخيرة من الثلاثينيات بورم بسيط في حلقه. ثم تطور الورم وتبين أنه سرطان الحنجرة أو الحلق وزحف الداء ببطء عدة سنوات حتى منعه تماما من القراءة ثم كان السبب في وفاته سنة 1950 بعد أن استشرى في جسده كله رحمه الله.
وفى المرة الأخيرة التي سمعته فيها – ولم أجرؤ بعدها أن أسمعه.. كان يتلو سورة الكهف في المسجد يوم الجمعة كعادته فلما بلغ الآية “واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا”.. غص واحتبس صوته في كلمتين أو ثلاث فسكت قليلا كأنه يقاوم ما ورد عليه من الغصة والاحتباس.
ثم عاد يتلو تلاوة متقطعة حتى ملأت الغصة حلقه وحبست صوته تماما هنا حنى الشيخ العظيم رأسه جريح القلب لا يدرى ما يصنع ثم أخرج من جيبه زجاجة صغيرة فيها سائل أحمر يبدو أنه دواء وصفه له بعض الأطباء يأخذ منه جرعة كلما احتبس حلقه فلما احتسى الجرعة وقرأ أطاعه صوته في ايتين أو ثلاث ثم قهره الداء وأبطل فعل الدواء الأحمر فوقف الشيخ العظيم متحيرا بعض الوقت ثم غادر مجلسه تاركا إياه لشيخ آخر يتلو ما تيسر من القرآن.
كانت لحظة قاسية عنيفة لم تبرح ذاكرتى قط. اهتزت لها أعصاب الحاضرين في المسجد فضجوا بالبكاء حزنا وأسفا على أجمل صوت تغنى بالقرآن وارتفع أنين المقرئين الصغار الناشئين الذين كانوا يلتفون حول الشيخ العظيم كل جمعة يحاولون أن يلتقنوا بعض أسرار صناعته وفنه وطريقته.. وبعد الصلاة خرج الناس.. عيونهم تذرف وقلوبهم واجفة وراء الشيخ الجليل.. لا يدرون أيواسونه أم يواسون أنفسهم.
كلما سمعت الآن شريطا مسجلا من تلاوة الشيخ رفعت، أفيق من نشوتى به على ذلك المشهد الرهيب فأرى الشيخ رفعت كيوم رأيته في المسجد وقد احتبس صوته.
وزجاجة الدواء الأحمر تنتقل من جيبه إلى يده ومن يده إلى جيبه في تسليم بقضاء الله، والناس من حوله تقهرهم الحسرة عليه والقارئ الصغير الكفيف الذى كان يحث السامعين على الإنصات في أول الأمر. يقف فيهم خطيبا يحثهم على الصبر فيما رمتهم به المقادير في صوت الشيخ ثم يخونه صبره فيجهش باكيا ويضج الناس وراءه باكين.
لقد عطل المرض تلك الأوتار السماوية ثم اسكنها الموت إلى الأبد ولم يبق لنا منها إلا هذه التسجيلات الصوتية الباهتة التي التقطها له بعض محبيه في أخريات حياته، بعد أن دهمه المرض.. ففي هذه التسجيلات آخر ما بقى من صوت الشيخ بعد مرضه.. وهذا لا يزيد على رسم مهتز من تلك الصورة الباذخة التي كان عليها صوت الشيخ قبل أن يغدر به الداء.
كنت مرة أتحدث مع الموسيقار محمد عبد الوهاب عن صوت الشيخ رفعت فقال لى:
- هل سمعته أيام كان يقرأ في الإذاعات الأهلية قبل إنشاء الإذاعة الحكومية سنة 1934؟!
- قلت لم أسمعه إلا في سنة 1935.
- قال عبد الوهاب :
- في أوائل الثلاثينيات كان مستعموا الشيخ رفعت يكادون يفقدون عقولهم طربا مما يأتي به في تلاوته.. برغم خشوعه التام، وقيام تلاوته على أدق أصول القراءة كما اتفق عليها العلماء.
- ومع ذلك فهذه التسجيلات الباقية التي نسمعها من صوت الشيخ رفعت في بداية مرضه وقرب نهاية اعتزاله القراءة خير من لا شيء فإنها نفحة من صوت ذلك القارئ العظيم. وإن لم تكن إلا صورة مهتزة متواضعة جدا من ذلك الأصل الرائع الجبار.
- ومن أسف أن أكبر قارئين بعد الشيخ رفعت قد ضاعت آثارهما أيضا فإن الشيخ مصطفى إسماعيل ضاعت تسجيلاته أيام صوته الذهبى عند ظهوره في منتصف الاربعينيات وإلى منتصف الستينيات تقريبا إلا متفرقات منها ليست إلا لمحات خاطفة من صوته الفائق الجمال وفنه الذى جمع من البدائع ما يكفى جميع الدارسين للمقامات العربية مع أنه كان يقرأ بلا دراسة لهذه المقامات .. وكانت فطرته وطبيعته أقوى من كل الدراسات.
- والتسجيلات التي تذاع الآن للشيخ مصفى إسماعيل ليس فيها من صوته وفنه إلا أقل القليل فقد سجلها في أخريات حياته.. وهى خير من لا شيء على كل حال وإن كانت تبدو لعارفيه كأنها ليست له.
- كذلك الشيخ عبده عبد الراضى مقرئ صعيد مصر.. -محافظة سوهاج- وكان منتظرا أن يقرأ هذا الشيخ من ميكروفون الإذاعة ولكن سخائم بعض الحساد والكائدين حالت بينه وبين الميكروفون فمات- رحمه الله – ولم يسمعه إلا أهل الصعيد. ولم يبق من صوته وفنه إلا عدة تسجيلات لا تزيد على صدى ضعيف من صوته القوى الرائع.
- كان الشيخ عبده عبد الراضى – كما قال الموسيقار عبد الوهاب بعد أن سمع تسجيلين فقط من تسجيلاته- ثالث الكبار في تلاوة القرآن وهم: الشيخ رفعت والشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ عبده عبد الراضى.
- والشيخ عبده في صوته وفنه ليس له مثيل، وأشهد أنى لم أسمع في حياتى كلها صوتا كصوته في اقتداره وجماله ودقة ذوقه.. وكان صوته أضخم وأقدر وأجمل من صوت “كاروزو” المطرب الإيطالي الذى مازالوا يضربون به الأمثال في جمال الصوت واقتداره.. ولو أتيح له أن يتغنى بالقرآن في الإذاعة لملأ الدنيا وشغل الناس.
ولرأوا فيه الشيخ رفعت والشيخ مصطفى إسماعيل مجتمعين ولكن المقادير جرت في أمره بما شاءت.
- وقد توفى الشيخ عبده في أوائل سنة 1978 فبكاه الشيخ مصطفى إسماعيل وحزن عليه حزنا شديدا وتوفى بعده في ديسمبر 1978 وهو حزين عليه وهذا من وفاء الشيخ مصطفى الذى كان مثلا للأخلاق الرفيعة.
- رحم الله الثلاثة الكبار – على حد تعبير عبد الوهاب – وعوضنا خيرا فقد خسرنا بفقدهم أعظم ثلاثة أصوات في الدنيا كلها قلما اجتمع مثلها في عصر واحد، واحدا إثر الأخر!.
- ومن أسف أن آثارهم قد ضاعت ولولا الأصداء الباقية من أصواتهم لما صدق أحد أنهم كانوا بيننا ملء الأسماع والأبصار.