رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


جوده صلى الله عليه وسلم

8-3-2025 | 02:04


.

بقلـم: د. ياسين عطية جمعة

إذا أذنتْ مواسمُ الطاعات بالقُدوم تَهلَّلت القلوبُ للقائها، وتهيَّأت النفوسُ لاغتنامها، واجتهد الناسُ فيها بالأعمال الصالحة؛ ابتغاءَ تحصيل الثواب الجزيل من ربِّ العالمين، وها هو ذا شهر رمضان المبارك قد أهلَّنا؛ فنسأل الله تعالى أن يُهِلَّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، وليس أفضل للمرء فى هذا الشهر الكريم مِن أن يَقتدِى برسولنا الكريم فى أعماله التى كان يَخصُّ بها شهر رمضان أو يُكثِرُ من عملها فيه.

تنظِّم اللجنة العليا للدعوة بمجمع البحوث الإسلامية أسبوعًا للدعوة بمسجد مدينة البعوث الإسلاميَّة بالقاهرة بعنوان «رمضان وعلو الهمَّة»؛ فى إطار تكثيف البرامج والفعاليات الدعوية والتوعوية بما يحقق رسالة الأزهر

 

 

من هذه الأعمال جُودُه وكثرةُ إنفاقِه صلَّى الله عليه وسلم؛ فقد قال سيدنا ابنُ عباس رضى الله عنهما، فى الحديث الذى أخرجه الإمام البخارى: «كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون فى رمضانَ حين يَلقاه جبريل، وكان يَلقاه فى كل ليلة من رمضان فيُدارِسُه القرآن، فلَرَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أجودُ بالخير مِن الرِّيح المُرسَلَة».

 

وقد كان الجُودُ والكرمُ سجيَّةً فى النبى صلَّى الله عليه وسلَّم حتى قبل أن يُبعَث، ونجدُ آيةَ ذلك فى العبارات التى طمأنتُه بها أُمُّنا خديجةُ رضى الله عنها حين دخل عليها مُرتاعًا فى بَدءِ نزول الوحى عليه، حتى قال لها: «لقد خَشيتُ على نفسى»، فقالت له السيدةُ خديجة: «كلا، والله ما يُخزيك الله أبدًا؛ إنك لتَصِلُ الرَّحِم، وتَحمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعدُوم، وتَقْرِى الضَّيف، وتُعِينُ على نوائب الحق».

 

فـ«حَمْلُ الكَلِّ» - كما قال الإمامُ النَّووى - يَدخل فيه الإنفاقُ على الضعيف واليتيم والعيال، و«كَسْبُ المعدوم» معناه أنه صلَّى الله عليه وسلَّم كان يَكسِبُ المالَ العظيمَ الذى يَعجِز عنه غيرُه ثم يَجُود به فى وجوه الخير وأبواب المكارم، وقولُها: «تَقْرِى الضيف» أي: تُطعِمُه.

 

ولم يكن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يَردُّ سائلًا؛ قال جابر بن عبد الله رضى الله عنه: «ما سُئل رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن شيء فقال: لا»، وسيرتُه صلَّى الله عليه وسلَّم حاشدةٌ بالأخبار التى تَشهد بكَرمِه العَميم وجُودِه البالغ؛ فعن أنسٍ أن رجلًا سأله فأعطاه غَنمًا بين جَبلَيْن، فرجع إلى قومه وقال: «أسْلِموا؛ فإن محمدًا يُعطى عطاءَ مَن لا يخشى فاقة»، وأعطى رسولُ الله صفوانَ بن أمية مائةً ثم مائةً ثم مائةً من الإبل، كما أعطى العبَّاسَ مِن الذهب ما لم يُطِقْ حَمْلَه، وحُمِل إليه صلَّى الله عليه وسلَّم تسعون ألف درهم فوُضعت على حصير، ثم قام إليها فقسَّمها، فما ردَّ سائلًا حتى فرغ منها، وجاءه رجل فسأله، فقال له النبي: «ما عندى شيء، ولكن ابْتَعْ عليَّ، فإذا جاءنا شيءٌ قضيناه»، فقال له سيدنا عمر: «ما كلَّفك الله ما لا تَقدِرُ عليه»، فكَرِه النبى ذلك؛ فقال له رجلٌ من الأنصار: «يا رسول الله، أنفقْ، ولا تَخْشَ مِن ذى العرش إقلالًا»، فتبسَّم صلَّى الله عليه وسلَّم، وعُرِفَ البِشْرُ فى وجهه، وقال: «بهذا أُمرتُ».

 

وإذا كان النبى صلَّى الله عليه وسلَّم جَوَادًا فى سائر الأوقات فإن جُودَه كان يَعُمُّ ويَفيضُ فى رمضان، وقد عبَّر ابنُ عباسٍ عن ذلك فقال إنه صلَّى الله عليه وسلَّم كان أجودَ بالخير من الرِّيح المُرسَلة، أي: كان عطاؤه أسرعَ وأعمَّ وأشمل، حتى إنه فاق فى ذلك الرِّيحَ المُرسَلة بالرَّحمة؛ قال الزَّيْنُ بن المُنيَّر: «وَجْهُ التشبيه بين أَجْوَدِيَّته صلَّى الله عليه وسلَّم بالخير وبين أَجْوَدِية الرِّيح المُرسَلة أن المرادَ بالرِّيح رِيحُ الرَّحمة التى يُرسلها الله تعالى لإنزال الغيث العامِّ الذى يكون سببًا لإصابة الأرض المَيْتة وغير المَيْتة، أي: فيَعُمُّ خيرُه وبِرُّه مَن هو بصفة الفقر والحاجة، ومَن هو بصفة الغنى والكفاية أكثرَ ممَّا يَعُمُّ غيثُ الناس عن الرِّيح المُرسَلة (...) فشبَّه جُودَه بالرِّيح المُرسَلة، بل جعله أبلغَ منها فى ذلك؛ لأن الرِّيحَ قد تَسْكُن».

 

وما دمنا مأمورين باتباع النبى صلِّى الله عليه وسلِّم؛ إذ فى اتباعه ضمانُ محبَّة الله لنا؛ قال تعالى: «قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» [آل عمران: 31]، فما أحوجنا إلى أن نهتدى بخُلُق نبينا الكريم فى الجُود والعطاء؛ فإنه مفتاحٌ لأبواب كثيرة من الخير؛ منها أن الجُود تعبيرٌ عن التعاضُد بين المسلمين والتضامن مع المحتاجين، والمجتمعُ المسلم مجتمعٌ متآزر متماسك؛ فعن أبى موسى عن النبى صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «إن المؤمن للمؤمن كالبُنيان؛ يَشدُّ بعضُه بعضًا»، وشبَّك أصابعه.

 

ومنها أنه أداءٌ لحق الله تعالى فيما استخلفَ فيه الإنسانَ من الأموال، وقد قرن الله تعالى الإنفاقَ بالإيمان به وبرسوله؛ قال تعالى: «آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ».

 

ومنها أن الإنفاق سبيلٌ لكسب الأجر العميم من الله عز وجل، والأمانِ من الخوف والحُزن؛ قال تعالى: «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» [البقرة: 262]، وقال تعالى: «وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ» [البقرة: 272].

 

وإذا كان الإنفاقُ مع اليُسْر له أجرٌ كبيرٌ فإن هذا الأجرَ يتعاظم إذا كان الإنفاق مع العُسْر، ويتكاثر إذا أنفق المرءُ المالَ وهو فى حاجةٍ إليه، وههنا أمرٌ لا بد من التنبيه إليه؛ هو أن ضِيقَ المعايش فى زماننا هذا قد يَدفع بعض الناس إلى أن يُمسِك يدَه عن الإنفاق ويجعلها مغلولةً إلى عُنقه، وقد غَفل هؤلاء عن أمرين عظيمين؛ أولهما أن العبرةَ فى الإنفاق ليست بكثرة المال، وإنما فى الانقياد لله تعالى والانصياع لأمره بالتصدُّق، وقد يَسبِقُ درهمٌ ألفَ درهم، وقد أرشدَنا سيدُنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى أن تَمرةً يَتصدَّق بها الرجلُ مِن كَسْبٍ طيِّبٍ تكون يوم القيامة مثل الجبل؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَن تَصدَّق بعَدْلِ تَمرةٍ مِن كَسْبٍ طيِّب، ولا يَصعدُ إلى الله إلا الطيِّب، فإن الله يَقبلُها بيمينه، ثم يُربِّيها لصاحبها كما يُربِّى أحدُكم فَلُوَّه، حتى تكون مثل الجبل».

 

أما الأمر الآخر فهو أن النفقة لا تَنقصُ مِن مال المُنفِق شيئًا؛ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: «ثلاثةٌ أُقسِمُ عليهنَّ وأحدِّثكم حديثًا فاحفظوه؛ قال: ما نَقصَ مالُ عبدٍ مِن صدقة، ولا ظُلِمَ عبدٌ مَظلمةً فصبر عليها إلا زاده الله عزًّا، ولا فَتح عبدٌ بابَ مسألة إلا فتح الله عليه بابَ فقر»، وقال أيضًا فى الحديث الذى رواه أبو هريرة رضى الله عنه، وأخرجه البخارى فى صحيحه: «ما مِن يومٍ يُصبح العبادُ فيه إلا مَلَكان يَنزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط مُنفقًا خَلَفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط مُمسكًا تَلفًا».

 

فيا أيها المسلمون، كونوا أجوادًا فقد كان نبيُّكم أجودَ الناس، ويا أيها الصائمون كونوا أجودَ ما تكونون فى رمضان فإن رسولَكم كان فى هذا الشهر الكريم أجودَ من الرِّيح المرسلة.