رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الأغنية الصوفية.. ورقص المولوية

8-3-2025 | 13:05


د. أشرف عبد الرحمن

د. أشرف عبد الرحمن

المولوية هى إحدى الطرق الصوفية السنية ويرجع تاريخها إلى مؤسسها الشيخ جلال الدين الرومي (1207 - 1273 م) وهو أفغاني الأصل والمولد، فكان عالماً وفقيهاً وصوفياً وشاعراً وفيلسوفاً، عاش معظم حياته في مدينة قونية التركية، وقام بزيارات إلى دمشق وبغداد، فكان شعره متميزاً حيث كتب معظم الأشعار التي تنشد في حلقات الذكر فى المولوية.

واشتهرت الطريقة المولوية بتسامحها مع أهل الذمة ومع غير المسلمين أيّاً كان معتقدهم وعرقهم، حيث عاش جلال الدين عهد يسوده الكثير من الاضطرابات والحروب من فتنة جنكيزخان وحتى الحروب الصليبية، وما صاحب ذلك من مظاهر القتل والتخريب لتظهر ف تلك الفترة عدة فرق ومذاهب مختلفة، فرأى الرومي ضرورة ظهور دعوة تحث المسلمين على التماسك والحفاظ على وحدتهم، ومن هنا ظهرت الطريقة المولوية، خاصة وأن الرومي كان قد تتلمذ على يد العارف العالم شمس الدين التبريزى الذي حول مسار الرومي ليقوم التبريزى بتدريبه على أصول التوحيد مع الاحتفاظ بالثقافة الشرعية.

ومن أهم ما قدمه جلال الدين الرومي  كتابه الشهير ( المثنوى) والذى يعد أشهر أعماله، وهو كتاب شعرى من الكتب الهامة ليضم ٢٦ ألف بيت شعر مزدوج ويشتمل على٢٧٥ قصة وكلها مستقاة من القرآن الكريم وقصص الأنبياء وبعض قصص ألف ليلة وليلة، وطبعت فى ستة أجزاء، ليصف جلال الدين الرومي كتابه المثنوى بأنه إلهام ربانى، وفتح روحانى من معانى الكتاب والسنة وقد كتب هذا الكتاب بالفارسية وترجم إلى عدة لغات منها العربية والتركية والإنجليزية والفرنسية والألمانية.

وقد ظهر فى المولوية مدى تأثر جلال الدين بالعديد من كبار المتصوفين أمثال محى الدين بن عربى، وفريد الدين العطار، ويحيى بن معاذ، وأبو يزيد البسطامى، والحلاج، والشبلى وإبراهيم بن أدهم وغيرهم.، كما أثرجلال الدين هو الآخر فى علماء كثيرين، الذين تأثروا بشعره وفلسفته وكان ذلك واضحا في أتباعه ومريديه ومقلديه بلا حدود، مثل كمال الدين الخوارزمى وإسماعيل الأنقروى، وعبد العلى محمد بن نظام، ليمتد هذا الأثر أيضًا في شخصيات كثيرة حتى فى العصور القريبة مثل الشاعر الباكستاني الكبير( محمد اقبال )، الذي قال عن نفسه ( أنا اثر من آثار جلال الدين الرومي ) ليمتد هذا الأثر ايضا الى العديد من المستشرقين أمثال جورج روزن الألمانى، وسير جيمس رد هاوس الانجليزى، ورينولد نيكلسون الإنجليزى أيضا.

لقيت المولوية عناية فائقة من علماء المسلمين والمستشرقين، وذلك لجمع جلال الدين الرومي بين الصوفية والشريعة متمشياً مع القرآن والسنة، حيث أخذت المولوية الشكل المتماسك بفضل الحلقات التى كان يقيمها الرومي لمريديه وتلاميذه، ومن خلال الطريقة كان الرومي يهاجم الأراء الفلسفية المتناقضة مع الإسلام وكانت استدلالاته جميعها مستقاة من القرآن والسنة، لتنتشر انتشارا كبيرا فى جميع الدول، ولا تزال الطريقة المولوية مستمرة حتى يومنا هذا في مركزها الرئيسي في قونية، ويوجد لها مراكز أخرى في إسطنبول وغيرها فى الكثير من بلدان وعواصم العالم، ويحضر جلساتها كل من يريد فى ترحيب وتسامح وإمتاع ملحوظ،  ورغم منع الحكومة التركية كل مظاهر التصوف إلا أن الجهات الرسمية فى تركيا تستخدم مراسم المولوية كجزء من الفولكلور التركى.

أما بالنسبة للجانب الفني من حيث الموسيقي المولوية، وإيقاعاتها ومقاماتها المصاحبة لها تنطلق من قاعدة الموسيقي العربية الأصيلة، التى حفظتها وحافظت عليها المولوية، ووصل استخدامهم للمقامات العربية واضحا ومتنوعاً بشكل كبير، ففي أثناء السماع يتنقل العازفون عبر عدد كبير من المقامات الموسيقية الشرقية بهدف تجلية النفس، وترقيق المشاعر، ولعل الصوفية المولوية هم أول من أدخل الآلات الموسيقية في الإنشاد، واعتمدوا في سماعهم علي الدف والطنبور وآلة الناي الذي يشكل بالنسبة إليهم مكانة خاصة، ودورًا أساسيًا، لما يصدرعنه من نغم ( شجي، مُبكي ) .

وإذا كان “عمر الخيام” هو زعيم فن الرباعيات الصوفية، فإن ثنائيات “جلال الدين الرومي” تتبوأ أوج النضج، وتضع الرومي علي رأس الشعراء الصوفيين، إنها ثنائيات متميزة العبارات، لطيفة المعاني، رقيقة الأفكار، صافية الدلالات، ناضجة الإشارات، ولقد أولتها الدوائر الشعرية والأدبية في شتي أنحاء العالم أهتمامًا كبيرًا، وتم نقلها إلي كثير من اللغات الحية، ليبتكر جلال الدين الرومي طريقة المولوية (الدارويش الراقصون) وجعل للموسيقي مكان صدارة في محافلها وحضراتها. حيث قرر أن يرتدي مريدوه الملابس الطويلة من اللباد البني، والعباءة السوداء الفضفاضة، وهو الزي “المولوي” الذي كان يرتديه “شمس الدين تبريزي”. كما قرر عليهم الرقصات الدائرية التقليدية التي باتت تعرف بها الطريقة المولوية الصوفية.

ولم تمض فترة قصيرة حتي قام بتشييد ( تكية المولوية )  التي تعد من أعظم ما أخرجه الفن المعماري في القرن الثالث عشر، ولم يدخر “جلال الدين” وسعًا في تأثيثها بكل ثمين ونادر من الأثاث والتحف والعاديات والسجاد، حتي صارت صورة حية للفخامة، وآية نابضة بالجمال والإبداع ليطلق عليه ( مولانا الرومي ) .

وإن اشتهرت الطريقة المولوية بما يعرف بالرقص الدائرى لمدة ساعات طويلة، حيث يدور الراقصون حول مركز الدائرة التي يقف فيها الشيخ، ويندمجون في مشاعر روحية سامية ترقى بنفوسهم إلى مرتبة الصفاء الروحي فيتخلصون من المشاعر النفسانية ويستغرقون في وجد كامل يبعدهم عن العالم المادي ويأخذهم إلى الوجود الإلهي كما يرون.

 فإن الرقص الصوفي هو نوع من أنواع الذكر عند متبعي الطريقة الصوفية، ويكون بالدوران حول النفس والتأمل الذي يقوم به من يسمون بالدراويش؛ بهدف الوصول إلى الكمال المنشود، ويهدف من وجهة نظر ممارسيه لكبح النفس ورغباتها والدوران حول النفس.

فقد كان رقص المولوية ليس مجرد مهنة أو عملاً يقوم به الراقص، وإنما هي إرث اجتماعي يتدرج فيه المشاركون وفق ترتيب تفرضه الصفات والأعمار المختلفة للراقصين المولويين، وقد ذاع صيت هذه الرقصة في عهد الدولة العثمانية، ومنها انتقل إلى سوريا ومصر وبعض البلدان الأخرى، كما جرى التضييق عليها في عهد كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية آنذاك، لتعود الدولة وتسمح بتقديم عروضها بعد ما أدركت أهميتها كعامل جذب سياحي .

عامر التوني

أما الغناء الصوفي فى مصر فله تاريخ حافل وقد مر بالكثير من المراحل المختلفة من عصر لآخر إلى أن جاء المنشد المصري عامر التوني ( 1968 - 2025 )  الذى فارق الحياة منذ ايام قليلة “ رحمه الله “ ليقوم بإحياء هذا الغناء الصوفي الذي كاد أن يندثر، وليخرج به إلى أبعد مدى ليلقى إقبالاً كبيراً من الشباب ليس على مستوى مصر فقط بل وخارجها من الدول العربية والأجنبية، لما قدمه عامر التوني من أسلوب موسيقى جديد وحديث، فلم يقتصر أسلوب التوني على مجرد كلمات يرددها الصوفيين فى مجالسهم، وإن كان يستخدم كلمات من  شعراء الصوفية الأوائل وعلى رأسهم كلمات جلال الدين الرومي وكل الشعراء المتصوفة، ولكنه حاول أن يستنطق من داخل الأشعار موسيقاها، وبدأ منذ 1994 ليبحث عن الموسيقي داخل البيت ويقربه للجمهور وهذا ما جذب الشباب إليه، ليستمر التوني لأكثر من عشرين عاما وحتى رحيلة فى 2 فبراير 2025 بإحياء العديد من الحفلات الناجحة حتى قبل وفاته بأيام قليلة ليقيم حفلاً كبيراً بالمعرض الدولي للكتاب بالقاهرة فى دورته الـ 56 ، وكان سبب اتجاه عامر التوني إلى هذا الغناء المولوي مثلما ذكره فى لقاءات كثيرة، وكما كنت أنا شخصيا - ككاتب لهذا المقال -  شاهداً على نشأة هذه الفرقة منذ بداياتها الأولى كأحد الأصدقاء المقربين لعامر التوني “ رحمه الله “ وكنا زملاء الدراسة بمرحلة الدراسات العليا بالمعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون، فكانت بداية وفكرة الفرقة هى محاولة لطرح التراث المولوى المصري على الساحة العالمية ليؤكد  للعالم أن مصر لها خصوصية تراثية، ليتعمق التوني فى دراسة تراث المولوية في مصر منذ دخول الفتح العثمانى وحتى ثورة 1952  متتبعا الآثار الموسيقية. من الموشحات والابتهالات والمديح الموروثة عن أكبر المشايخ واستعراض كل الاشكال الاحتفالية للطرق الصوفية في مصر امثال الطريقة الميرغنية والشاذلية والرفاعية والبيومية وغيرهم من  الطرق الصوفية التي تستخدم القوالب الموسيقية الدينية المختلفة، ومن خلال الدراسات البحثية في المعاهد والجامعات والمقالات والكتب التي تناولت المولوية والأشكال الأدائية لها كما استعان التوني بالمؤسسات الثقافية التي تهتم بتوثيق وحفظ التراث وساعده في ذلك دراساته العلمية بأكاديمية الفنون  بالقاهرة، كباحث فى التراث الفني عموماً، وكان التوني ايضا مديرا لمركز الإبداع بقبة الغوري وهو أحد الأماكن التاريخية التابعة لصندوق التنمية الثقافية بوزارة الثقافة المصرية، كما كان للأثر الصوفى بداخلة نظرا لنشأته في ريف الصعيد والتي تنتشر فيه الطرق الصوفية ايضا، كل هذا جعله يتسلح بمعرفه حقيقة استطاع من خلالها ان يكون فهم صوفى انطلق منه بالنظر إلى تراث المولوية العالمي، حيث سافر أيضا إلى الكثير من الدول ليقدم حفلاته وليتعرف على أساليب المولوية المختلفة فى كل دولة عن الأخرى مثل  تركيا و الهند والبوسنة وغيرهم من البلدان التي تقدم الغناء المولوي، ولم يكتفى التوني بذلك كله بل راح إلى ما هو اعمق من ذلك ليتتبع سير الصالحين وأشكال التصوف الأولى في الأديان الأخرى وبعد هذا كله استطاع التونى أن يصدر البيان الفكرى للمولوية المصرية. 

مزج التوني الموسيقي المولوية التى لحنها بتجارب موسيقية عالمية اثناء سفرة خارج مصر ففى اسبانيا ادخل موسيقى الفلامينكو من خلال فرقة موسيقية أسبانية فى مزيج مع الموسيقى والغناء الصوفي الذي كان ينشده، فى تجربة فريدة لاقت إقبالا كبيراً خارج مصر، بتقريب المولوية المصرية إلى الأجانب، كذلك استعانته بموسيقيين من الفرق الهندية عند مشاركته فى الكثير من المهرجانات التى كان يشارك فيها فى الهند كل عام، وكان لفرقة المولوية المصرية مكانة كبيرة فى الهند، فكان التوني يرى أن منهجه صوفي ليغني بالرمز وليس المعني المباشر الصريح، ليرى ان التصوف شكل أومنهج فى طاعة لله وشكل للمحبة وليس مذهب مختلف لذلك امتد اثره خارج مصر على مدار تلك السنوات، وجعل للمولوية اسلوب جديد متطور يتمشى مع روح هذا العصر.

كما كان يرى التوني أن فكرة الدوران حول الجسد عندما يقوم الراقص بالدوران حول  نفسه بطريقة معينة تعد محاكاة لدوران الكواكب حول الشمس، حيث الكون جميعه فى حركة ودوران دائم، ويعتبر التوني أن  المصريين أول من فكر في تحريك الجسد والدوران حول النفس، وأن هذه الفكرة تعد من انواع الرقص عند المصري القديم الذي تتنوع لدية تلك الحركات مثل الرقص التعبدي والرقص الرياضي والرقص الجنائزي. فكانت فكرة الدوران حول الجسد هي  فكرة روحية عند الفراعنة .

لذلك يعتمد المتصوفون إلى تنظيم رقصات يرتدون فيها تنانير واسعة فضفاضة، ويقومون بحركات دائرية، ويعتبر راقصو المولوية أو راقصو التنورة أن في دورانهم تجسيد للفصول الأربعة، وهي صلة الوصل بين العبد وخالقه، حيث يقوم الراقص برفع يده اليمنى وخفض اليسرى إلى الأسفل، وهذه الحركة ما هي إلا نوع من المناجاة للخالق.