رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


«أمهات الشهداء» يتحدثن لـ«المصور»: «أنا أم البطل»

20-3-2025 | 23:17


.

منار عصام

فى يوم «عيد الأم»، تُزيّن الكلمات الرقيقة بطاقات التهنئة، لكن هناك أمهات لا يلامس قلوبهن الفرح، إنهن أمهات الشهداء، اللاتى حوّلن دموع الفراق إلى صمودٍ يُحيى الذكرى، ويُكرّس قصة حبٍّ تفوق الوصف. بين جدران منازل تحتفظ بصور أبنائهنّ كشاهدٍ على بطولةٍ لم تكن خيارًا، بل قدرًا وُلد من رحم التضحية، تقف هؤلاء الأمهات كأمثلة حية للصبر، يحملن فى عيونهنَّ غصة الفقد، وفى قلوبهنَّ فخرًا لا ينتهى.

 

فى ذكرى عيد الأم، ننحنى إجلالًا لكل أمٍّ، لكننا نقف وقفة احترامٍ خاصة لأمهات الشهداء، اللاتى علّمننا أن الحب لا يموت بموت الجسد، وأن الأمومة قد تُولد من رحم الموت حياة جديدة. هنا، حيث تلتقى الدموع بالفخر، تُكتب أجمل ملاحم التضحية.

أم الشهيد محمد حسن عبدالحفيظ صنعت من قلب الألم إرثًا

 

فى زاويةٍ من زوايا منزلٍ بسيطٍ، تجلس أمٌّ تحمل بين طيات ثوبها صورة ابنها الشهيد محمد حسن عبدالحفيظ، الذى سقط دفاعًا عن الوطن قبل 12 عامًا. تحكى عيناها قصةً لا تُختصر بكلمات: فخرٌ بأنّ ابنها صار رمزًا للتضحية، وغصةٌ لا تُمحى لغيابه. فى ذكرى عيد الأم، نروى حكاية أمٍّ حوّلت حنانها إلى وقودٍ للبطولة، صنعت من ابنها شهيدًا، ومن حزنها ذكرىً خالدة.

 

وُلد محمد فى أسرةٍ بسيطة، كانت أمه أول من غرس فى قلبه حبّ الوطن. لم تكن أمًّا عادية؛ فقد ربت أبناءها على القيم التى تعتزّ بها قريتها: الكرامة، والشجاعة، والتضحية. تقول جاراتها: «كانت دائمًا تردد.. الوطن أغلى من الروح، وكأنها تُعدّه لمصيرٍ اختاره القدر».

 

عملت كخياطة لتؤمن له ولإخوته تعليمًا لائقًا، لكنّ دروسها الأهم كانت خارج جدران المدرسة: «لا تتراجع عن حقّ، ولا تترك مظلومًا»، كانت هذه وصاياها التى صاغت شخصيته.

 

التحق «محمد» بالحياة العسكرية عبر بوابة الكلية الحربية، حيث كان ضابطًا بالمدرعات، وفى إحدى المهام الأمنية الصعبة، استشهد أثناء مواجهة إرهابيين حاولوا اختراق ارتكازه الأمنى بسيناء، تصف الأم لحظة استقبالها خبر استشهاده: «شعرت كأن الأرض دارت بي، لكنّ صوتى الداخلى قال: ابنك مات بطلًا.. هذا فخرٌ لا يُدركه الجميع»، لم تنتحبْ علنًا، بل شاركت فى تشييعه مبتسمةً، حاملةً صورة ابنها بيد، وباقة زهورٍ باليد الأخرى، كأنها تُهدى الوطن وردةً من روحها.

 

اليوم، تحوّل منزل الأم إلى «متحفٍ» صغيرٍ لذكرى ابنها... شارته العسكرية معلقةٌ على الحائط، وتسجيلاتُ صوته محفوظةٌ فى هاتفها، تسمعها كل ليلة. تقول: «أشعر أنه يراقبني، ويطلب منى أن أكون قوية». لم تنغلق على حزنها، بل أصبحت تُلهم الأمهات فى القرية بحكايتها: «التضحية ليست نهاية الحكاية، بل بداية إرثٍ من الفخر».

 

ترفض أن تُسمى «أم الشهيد»، وتقول: «أنا أم محمد.. وهذا شرفٌ يكفيني»، لعلّ فى قصتها إجابةً على سؤال: ما أعظم هديةٍ تُقدّم للأم؟ قد تكون التضحية من أجل وطنٍ أحبّته، لكنّ أعظمها أن تظلّ الأمُّ قلبَ التضحية النابض، حتى بعد رحيل الأبناء... هكذا، تُجسّد أمُّ محمد معنى الأمومة التى لا تفارق الحبَّ حتى عند حافة الفراق. ففى حضنها، وُلد بطل، وبقلبها، لا يزال حيًّا.

أم البطل الرائد أحمد خالد حضن صنع شهيدًا

 

فيما قالت سلوى بديع والدة الشهيد البطل الرائد أحمد خالد، إن «البطل من مواليد 16 سبتمبر عام 1991، وكان طوال سنوات طفولته يشهد له الجميع فيها بالذكاء والانتباه، وعندما أصبح يافعًا كان لا يشغل باله سوى أن يصبح ضابطًا بصفوف القوات المسلحة عندما يبلغ أشده، ولم يثنه عن تلك الفكرة أى محاولات إقناع له بمدى مشقة الحياة العسكرية التى تمتاز بالضبط والربط إلا أنه أن يزداد إصرارًا على الالتحاق بصفوف الكلية الحربية مصنع الرجال وعرين الأبطال».

 

وتروى والدة البطل بأن لحظة إعلان نتائج القبول بالكليات العسكرية فى عام 2008 كانت هى اللحظة الأكثر سعادةً على قلبه، حيث شعر خلالها بأنه تمكن من تحقيق حلم طفولته بالالتحاق بالمؤسسة العسكرية.

 

وتذكر «سلوى» أنه عقب التحاقه بالكلية الحربية تغيرت شخصيته كثيرًا، حيث أصبح أكثر التزامًا وتحملاً للمسئولية وانضباطًا واحترامًا للمواعيد والتوقيتات وغيرها من السمات المنضبطة التى تغرسها القوات المسلحة المصرية فى رجالها من الضباط وضباط الصف والجنود.

 

وقد تخرج البطل أحمد خالد فى الكلية الحربية عام 2011 فى خضم الأحداث التى صاحبت ثورة يناير 2011 ليشارك رفقه زملائه من القوات المسلحة فى استعادة الأمن والأمان فى كافة ربوع الوطن من خلال تأمين المناطق الحيوية كالكنائس وأقسام ومقرات الشرطة المدنية، فصلاً عن الميادين المختلفة داخل القاهرة والمحافظات الأخرى.

وأضافت «أم البطل»: ابنى البطل كان يشعر بالمسئولية الكبيرة الملقاة على عاتقه تجاه الجنود الذين يؤدون الخدمة العسكرية تحت قيادته، حيث كان يتقدم صفوفهم خلال أعمال التأمين ويهتم بتدريبهم وصقل مهاراتهم من أجل الحفاظ على مستوى عالٍ من الجاهزية ضد أى تهديدات محتملة، وعدد كبير جدًا من الجنود كان دائمًا ما يتصل بالبطل حتى عقب انتهاء خدمتهم العسكرية بسنوات للاطمئنان والسؤال عن أحواله».

 

وقد شارك البطل أيضًا خلال مسيرته فى العديد من المهام القتالية ضد العناصر الإجرامية فى الاتجاه الغربى، حيث كان يسعى المخربون للتسلل إلى الداخل المصرى إلا أن القوات المسلحة المصرية كانت لهم بالمرصاد.

 

وتذكر والدة البطل أنها كانت تنتظر بلهفة وشوق موعد نزوله إجازة ليقضى أيامه رفقة أسرته وأهله، حيث كان شديد البر بوالدته وكان الجميع يحبه كثيرًا، «كان زى الملاك كل العيلة كانت تستنى نزوله وأصحابه بيتجمعوا فى وجوده».

 

واستشهد البطل الرائد أحمد خالد فى سيناء خلال أعمال الحرب التى خاضتها القوات المسلحة ضد العناصر الإرهابية هناك، إثر التصدى لهجوم إرهابى على الارتكاز الأمنى الخاص به وقد أظهر البطل رفقة بقية أفراد الارتكاز شجاعة كبيرة جدًا، حيث أسقطوا منهم العديد قبل أن ينال الشهادة مدافعًا عن وطنه ضد أهل الشر من العناصر الإجرامية، تاركًا أولاده «أحمد وميرا»، ولم يره ابنه حيث ولد عقب استشهاده بشهر واحد فقط وتم تسميته «أحمد». تيمنا باسم والده الشهيد البطل الذى فارق الحياة ولكن سيرته وتضحياته أثرها نعيش فيه حتى يومنا هذا.

 

أم الشهيد سعيد حمدى نسجت من دمعهَا عَلَمًا

 

وما زالت أم الشهيد تضرب أروع الأمثال فى حسن التربية والصبر على ألم الفراق، حيث السيدة فاطمة عبدالرؤوف والدة الشهيد البطل الرائد سعيد حمدى والتى قامت بتربية ولديها «سعيد» و«ندى» على حب الوطن فنشأوا على عشقهم لتراب هذا البلد.

 

فى يوم الأم، تتناثر الورودُ والابتساماتُ على شرفات البيوت، لكن هناك أمهاتٌ تمسكُ بيديهنَّ ذكرياتٌ أثقلُ من العالم. إنها «أم سعيد»، التى لم تحتضن ابنها منذ سنوات، لكنها تحتضن إرثًا من الفخر، صنعته بيدين مرتعشتين من الألم، وقلبٍ لم ينكسر. هنا، حيث تلتقى الأمومة بالتضحية، تُكتب قصة الشهيد سعيد حمدى، الفتى الذى حوّلته أمُّه من طفلٍ يلهو إلى بطلٍ يُدافع عن تراب الوطن.

 

فى منزل بسيط تُحيط به أشجار النخيل، وُلد سعيد حمدى لأسرةٍ بسيطة، كانت أمه، أول من غرس فى روحه حبَّ الأرض. حيث يقول زوجها: «كانت تردد له دائمًا.. الكرامة لا تُشترى، والوطن لا يُساوم عليه»، ولم تكن تعلم أنها تُعدّه لمصيرٍ كتبه القدر.

 

تربى «سعيد» على سماع حكايات الشهداء، وعلى قيم الصمود التى جعلته يرفض أن يمرّ ظلمٌ أمامه، وفى مراهقته، كان يتدرب على حمل العلم فى المدرسة أثناء تحية العلم، بينما كانت أمه تخيط له ثيابه بيدين تعرفان معنى الكفاح، وكان الشهيد البطل منذ نعومة أظافره وله حلم واحد وهو أن يكون ضابطاً بالقوات المسلحة وعندما كبر تحققت أمنيته بدخوله إلى مصنع الرجال لتبدأ من هنا رحلة بطولة شهيد تكمن وراءها أسرة مصرية أصيلة كان عمودها ومصدر قوتها أماً لا مثيل لها سوى على أرض الكنانة.

 

التحق «سعيد» بصفوف القوات المسلحة بدعم كامل من والدته، التى رأت فى الزى العسكرى شرفًا لا يُدانى، وفى إحدى المهام ضد جماعة إرهابية، استُشهد البطل نتيجة عبوة ناسفة زرعها الإرهابيون المجرمون.

 

تروى أمه لحظة تلقيها الخبر: «صرختُ كأننى أسمعُ صوت انفجارٍ فى صدري، لكننى تذكرت كلماته: يا أمي، إذا غِبْت، فلا تبكي.. ابْكى فقط إذا تراجعتُ»، لم تُسقطها الصدمة، بل وقفت فى جنازته حاملةً صورة ابنها، وعيناهَا تُرسلان بريقًا غريبًا.. وتنزل منها دموع تختلط بالفخر.

 

وقد نالت والدة الشهيد البطل تكريمًا من الرئيس عبدالفتاح السيسى لأسرة البطل، طالبت حينها أن يكون النقيب جورج ويليام مرافقًا لها أثناء التكريم، فقد كان هو أعز أصدقاء الشهيد البطل، حيث كان «سعيد» يعتبره بمثابة الأخ الذى لم تلده أمه وكذلك كانت «فاطمة» تراعى جورج أثناء تواجده بالمستشفى، حتى لا يشعر أهله بالقلق عليه.

 

اليوم، تحوّلت غرفة «سعيد» الصغيرة إلى مزارٍ يومى لأمه.. تزيل الغبار عن أغراضه الشخصية وما تبقى له منه من زى عسكرى، وتُرى الزائرين وصيته التى كتبها قبيل استشهاده والتى قال فيها: «ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون، إلى أعزائى وأصدقائى وأهلي، أنا لم أمت، أنا اخترت الرحيل كى أعيش حيا فى تاريخ وطنى مصر، أنا حى فى تاريخ شهداء مصر وفى تاريخ العطاء والتضحية للوطن، أنا حى واسمى مخلد فى ذاكرة من ضحوا بحياتهم فداء لمصر».

 

صار اسم «أم سعيد» مرادفًا للصمود. فى كل عيد أم، تقول: «ابنى لم يمت، بل صار شمعةً تُنير درب غيره». ربما تكون أعظم هديةٍ قدمها سعيد لأمه هى جعل اسمها يُنطق دائمًا مقرونًا بالشرف. لكنّ الأم ترى الأمر مختلفا: «هديته لى كانت أن جعلنى أمًّا للجميع.. هذا يكفيني»

غرفة الشهيد البطل سعيد حمدى تحوّلت إلى مزارٍ يومى لأمه.. تزيل الغبار عن أغراضه الشخصية وما تبقى له منه من زى عسكرى، وتُرى الزائرين وصيته التى كتبها قبيل استشهاده