بهجة تملأ الشوارع، تمتزج أنوار الزينة بروائح الطعام، حنين صوت الموقد بين نسمات الهواء الشتوية، الأرصفة موائد مفتوحة يتجمع حولها الصائمون فى انتظار الأذان. وبينما يلهث الجميع وراء موائد الإفطار، هناك منْ يقف خلف عربات صغيرة، لكنه يحمل إرثًا كبيرًا من الدفء والكرم.
عربات الفول، تلك المحطات البسيطة، ليست مجرد أماكن لتناول الطعام، بل هى أوطان مؤقتة يجتمع حولها العابرون، موائد مفتوحة للصائمين، ومرافئ للغرباء، وحكايات تُروى. هنا، حيث تسكب الأطباق بمحبة، وتتلاقى الأيادى قبل أن تمتد إلى الطعام، تتجلّى روح رمضان الحقيقية فى أبسط صورها.
«شغلتنا مش بس أكل.. دى حياة كاملة».. يقف «وليد»، صاحب عربة فول على إحدى نواصى شارع المريوطية بالهرم، يقف بوجه بشوش، أمام عربته التى تلمع تحت أضواء المصابيح الملونة، يقول وهو يسكب الفول فى طبق بلاستيكى لأحد الزبائن «أنا بشتغل فى العربية دى بقالى 10 سنين، رمضان بالنسبة لى شهر شغل، لكن والله بحبه الناس بتبقى قريبة من بعض، والزبون اللى بيعدى يفطر عندى يوم، لازم يعدى يسلم عليا حتى لو مش هيشتري، فى رمضان بحس إنى بساعد الناس، خاصة اللى معندهمش قدرة يشتروا حاجات غالية، وأهو الفول أكلة بسيطة بس تشبع وتدى طاقة للصيام».
ورغم أنه يعمل طوال العام، ويقول إنه يأتى من الفيوم يوميا فى غير رمضان من الخامسة فجرا حتى الثانية ظهرا حتى تنتهى عربته تماما، إلا أن رمضان بالنسبة له موسم مختلف، حيث تزداد الحركة، ويزداد الإقبال على عربته من مختلف الطبقات فى هذا الشهر، لا أحد يشعر بالغربة، فالجميع سواء عند عربة الفول، يجتمعون على طبق واحد.
«صاحب العربة» يقول إنه أقام أول ثلاث ليالى من رمضان فقط فى بلدته الفيوم وباقى شهر رمضان 27 يوما فى خدمة زبائنه؛ لتصبح العربة بيته من قبل الإفطار بساعة وحتى أذان الفجر.
«عربات الفول» باتت منقذا للصائمين، فمع أذان المغرب تتوقف السيارات فى أماكنها، وينزل البعض مسرعين نحو أقرب عربة فول أو كشك صغير لشراء ما يسد جوعهم حتى يصلوا إلى منازلهم، وهؤلاء هم أصحاب المهن الشاقة والسائقون، وطلاب الجامعات العائدون من محاضراتهم، وأحيانا عائلات كاملة لم يسعفها الوقت لتحضير الإفطار فى المنزل.
«مفتاح» صاحب عربة أخرى، وهذا اسم شهرته، صاحب عربة فى حى الطالبية، يحكى عن هذا المشهد اليومى فيقول «ساعة المغرب الدنيا بتبقى زحمة جدا.. الناس بتقف على بعض، وكل واحد عايز طبقه بسرعة عشان يفطر وساعات بنوزع طعام مجانى للناس الغلابة اللى معدية ومش معاها فلوس وأهو فى رمضان، كل واحد بيساعد التاني، وده اللى بيخلى الشهر مختلف.
وبينما يتناول البعض الفول على عجل، يقرر آخرون الجلوس بجوار العربة، يتبادلون الدعوات والضحكات فى أجواء تملؤها البساطة والمودة.
أيضا العربة هى سحور الساهرين وإذا كان الإفطار وقت الذروة، فإن السحور هو ذروة الروحانيات والهدوء فى الليالى الرمضانية، تتحول عربات الفول إلى محطات استراحة لعشاق السهر، من الشباب المتجمعين بعد التراويح، إلى العمال الذين يستعدون ليوم عمل طويل، وحتى كبار السن الذين اعتادوا أن يبدأوا يومهم قبل الفجر.
يقول «كريم» شاب فى أواخر الثلاثينيات، يعمل مع «مفتاح» على عربة الفول خلال فترة السحور: “أنا بشتغل بالليل بس.. السحور عندى ليه زباين معينين، زى السواقين اللى بيشتغلوا فى أوبر والتاكسي، وشباب بيحبوا يقعدوا مع بعض بعد الصلاة، وكمان ناس كتير بتخلص شغلها متأخر وبتيجى تاكل قبل الصيام، الحلو فى رمضان أن الناس بتهزر وتضحك، حتى اللى تعبان ، أول ما ياكل لقمة فول سخنة، تلاقيه فرفش وابتسم».
وعلى جانب آخر، هناك من يأتى إلى عربات الفول ليس فقط من أجل الطعام، بل من أجل الصحبة والأحاديث الليلية «الفول مش للأكل بس.. الفول عشرة".
ووجه لى مقترحاً «اسألى أى صاحب عربة فول عن أكثر ما يحبه فى مهنته؟" ستجدين الإجابة غالبا ليست فى الربح أو البيع، بل فى العلاقات الإنسانية التى تتكون بينه وبين زبائنه فى رمضان، هذه العلاقات تصبح أكثر عمقا، حيث يحرص البعض على الإفطار أو السحور فى نفس المكان كل يوم، حتى تتحول العربة إلى بيت صغير يجمعهم.
يستكمل: «فيه زبون عندنا بقاله 15 سنة بيفطر ويتسحر عندنا كل رمضان.. بقى زى أخونا، عارفين أولاده وعارفين ظروفه، وبنتكلم فى كل حاجة حتى لو رمضان خلص، بنفضل على تواصل، الفول عشرة، مش مجرد أكلة".
ورغم التعب والسهر، فإن أصحاب عربات الفول فى رمضان يشعرون بسعادة لا توصف، هم لا يبيعون طعاما فحسب، بل يوزعون دفئا وإنسانية فى كل طبق يقدم بحب ورضا.
