لا أحد ينكر القول الشائع إن الصحافة هى مهنة البحث عن الحقيقة؛ لأنك إن أنكرت فقد أنكرت هويتك الصحفية وشرف الانتساب لهذه المهنة الرائعة، ومرات كثيرة -حين كنت صغيرا فى الدبلوماسية - أعربت عن اعتقادى أن الاثنتين الدبلوماسية والصحافة مهنتان تلتزمان الحقيقة هدفا وسببا لوجودهما، وإلا ما قيمة الجهد فى العمل بهما.. هكذا كتب الأستاذ جميل مطر فى مذكراته أو ذكرياته التى حملت عنوان «حكايتى مع الصحافة»، وربما من خلالها حكايته مع هيكل أيضا لمدة اقتربت من نصف قرن.
أستاذ جميل مطر الدبلوماسى والذى استقال من الخارجية ليصبح باحثا أكاديميا والحصول على الدكتوراه من كندا، وزامل هناك د. علىّ الدين هلال وأصدرا سويا كتابا عن العلاقات الدولية والإقليمية، وهو صحفى تم تعيينه بالأهرام وهو مفكر أصيل، ولذلك أراه صحفيا مفكرا بالضرورة يكتب أحيانا بمشرط الدبلوماسى لعمله بالخارجية المصرية لسنوات وبالجامعة العربية، وأصدر عنها ذكرياته أو مذكراته بها فى كتاب من إصدار -دار الهلال دارنا العريقة - ورغم أنه بدأ بكتب السيرة عن الدبلوماسية أولا ثم الثانية بالصحافة، وأتمنى يختمها بالثالثة عن علاقته بالبحث الأكاديمى والوسط العلمى فى العلوم الإنسانية والسياسية، وهى التى حصل منها أيضا على الدرجات العلمية من جامعة ماكجيل بكندا.
علاقتى بالأستاذ جميل تعود لعقدين من الزمان ومن خلال الكتابة بالتعليم، فهو لديه قدرة مذهلة على قراءة كل الإصدارات وتقع عينه على الصحافة وما يكتب بها، لذلك كانت سعادتى بعد بداية كتاباتي للمقال أن يتفضل علىّ بنشر مقالاتى، لذلك كان كتابه الأحدث «حكايتى مع الصحافة»، والذى صدر مؤخرا عن الدار المصرية اللبنانية، وليس عن دار الشروق التى ارتبط معها منذ عقود بالعمل والشراكة فى إصدارات مجلة «وجهات نظر»، أروع ما صدر فى الثقافة المصرية عن الكتب وسيأتى ذكر تجربتها لاحقا ثم إصدار جريدة الشروق اليومية، مفأجاة كبيرة فى التفاصيل والحكايات الصحفية والأشخاص والأماكن. فانتهيت من الكتاب باستمتاع شديد خاصة أن بدايته بالنشأة كان تقريبا عن نفس المنطقة والحى الذى نشأت به حى الدواوين ونوبار ولاظوغلى ووسط البلد، إصدار الكتاب خارج الشروق يعنى أن أستاذ جميل يحب استقلالية عمله وإنتاجه الفكرى وعدم خلط الأوراق بين العام والخاص. طوال الكتاب وربما فى أغلب الصفحات التى تبلغ 250 صفحة من القطع المتوسط العادى، وفى نهايته ملحق للصور أغلبه مع أستاذ هيكل، والذى امتدت علاقتهما أكثر من نصف قرن من البداية والمشاركة بالصحافة والبحث عقب تأسيس مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ولم تنقطع لحظة علاقتهما حتى غادر الأستاذ هيكل حياتنا قبل سنوات.
لا أعلم لماذا رغم العلاقة الطويلة لأستاذ جميل بالعمل الصحفى وتعيينه بالأهرام أنه لم يلتحق بنقابة الصحفيين؟! وظل هذا السؤال يشغلنى طوال القراءة؛ لأنى أرى أنه خُلق صحفيا ليحكى ويكتب، إنها الأقدار كما نقول، وتبدأ علاقة جميل مطر بالصحافة وربما بالأهرام منذ طفولته؛ حيث كانت جريدة الأهرام هى قدس الأقداس فى منزله ومنازل العائلة لا يقرأؤها ويتصفحها إلا بعد أبيه وزوج خالته فى الإجازات العائلية، وأن يكون شكلها كما خرجت من المطبعة طازجة، بمعنى آخر حتى إنه كان يستخدم المكواة بعد قراءتها خلسة لتعود كما جاءت من المطبعة. ثم الأقدار تضعه فى تماس مباشر مع الصحافة حينما جاء أول تعيينه بالدبلوماسية بإدارة الصحافة بوزارة الخارجية والتى بها يطلع على الصحف الأجنبية، وكذلك كان يعهد له غالبا بإعداد النشرات الصحفية والمقالات رغم أنها أحيانا ليست عمله الأساسى بالدول التى عمل بها مبعوثا دبلوماسيا، كانت تأتى مقالات هيكل مشفرة فى ذلك الزمان، ولأنه بتركيبة القارئ النهم للصحافة والمقالات لاسيما الأجنبية أو فى الدول التى يعمل بها. لأنها كانت الوسيلة للتعرف إلى ما يجرى بالبلاد والواقع السياسى لها حدث له أول اصطدام مهنى، ففى عمله بالهند استدعاه السفير لكتابة الرسالة المعتادة لوزارة الخارجية ومكتب الرئيس، وحينما وصل السفير إلى جزء محدد يمليه فى البرقية عن نشاطه فى لقاء مع وكيل الخارجية صباح نفس اليوم، فما كان من أستاذ جميل إلا أن علق بأن المسئول غير موجود بالعاصمة وأن الصحف تقول إنه بجولة وأن معلومات الرسالة نفسها فهى واردة نصا! وضمن مقال ورد فى التقرير الصحفى الذى أعددته لسيادتك صباحا، وأنه فى انتظار التغيير الذى يطلبه قبل تشفير الرسالة وإرسالها إلى القاهرة، وقامت الدنيا بالسفارة لأن السفير غاضب، بعد 15 سنة عرف من صلاح العبد مستشار السفارة وقتها وأثناء زيارة له مع الأستاذ هيكل والوفد من مركز الدراسات بالأهرام والذى كان عضوا به سبب الأزمة، وأن السفير كتب تقريرا وكان يسعى لاستصدار قرار وزارى يعلن عدم صلاحيتى لاستمرار فى العمل الدبلوماسي، وكيف نجح السفير المهندس حسن رجب سفير مصر وقتها فى الصين فى وقف هذا القرار، ولم يكونا قد التقيا فى ذلك الحين، ولكن بعد واقعة نيودلهى بالهند سيرتبط بعلاقة ممتدة فى العمل مع السفير حسن رجب بالصين ثم إيطاليا.
فى الهند أيضا كان حبه وارتباطه بزوجته رفيف ابنة أبو ريشة السفير السورى فى الهند وقتها، والسفير أبو ريشة ممثل دولة الوحدة بين مصر وسوريا فيما بعد، وستكون له أيضا قصة مع الصحافة والصحفيين والأخبار التى كانت غير صحيحة وتسبب أزمات فيما بعد، ورواها الكاتب فى الكتاب ثم يروى حكاية صحفية أخرى دليلا على علاقته القدرية بالصحافة، وهى عن سقوط الطائرة وكان فى طريقه من الصين إلى إيطاليا، ويرد على ملابسات الطالع والعرافين وألا يستقل الطائرة والتى سقطت، ولكنه لم يكن قد استقلها بالفعل، وكانت للأهرام أيضا المكانة الأولى فى استقباله ونشر خبر نجاته من احتراق الطائرة، وبعد قضائه إجازة قصيرة بالقاهرة انضم إلى سفارتنا بروما مع السفير حسن رجب، وكان هناك بالسفارة زميل دفعته نبيل العربى الوزير وأمين الجامعة العربية فيما بعد، والذى سيلعب دورا هاما فى حياته عندما عرّفه على الأستاذ هيكل فيما بعد عندما قرر الاستقالة من العمل الدبلوماسى، وبداية العمل الحقيقى المباشر بالصحافة ومع أستاذ هيكل مباشرة، وبدأ أستاذ جميل الذى كان يعد وقتها رسالة الدكتوراه بجامعة ماكجيل بمونتريال بكندا وبرسالة منه إلى صديقه نبيل العربى بنيويورك لأنه يريد مناقشته فى تفاصيل حياته المقبلة والعودة إلى القاهرة، فعرض نبيل العربى عليه فكرة أنه سيتواصل مع الأستاذ هيكل -صهره -للاستفادة من خبرته وبإلحاقى لمهمة محددة بمركز الدراسات الفلسطينية والصهيونية بالأهرام، وبالفعل تحدث نبيل العربى مع الأستاذ هيكل الذى رحب به وأصبح رئيسا لوحدة العلاقات الدولية بالمركز والذى زاره ورحب بعمله حاتم صادق وعرّفه على السيد ياسين المشارك والمؤسس فى عمل المركز وعلى د. عمرو محيى الدين وسميح الصادق واللواء حسن البدرى، ووقتها التقى لأول مرة مع الأستاذ هيكل وربما لم يفترقا منذ ذلك الحين وحتى مغادرة هيكل الحياة، والمفارقة أن كثيرا كتبوا عن علاقتهم بهيكل وأسرار وحكايات والوحيد الذى لم يكتب كتابا منفردا بعنوان مع هيكل كان أستاذ جميل، رغم أن كتابه هذا «حكايتى مع الصحافة» صفحاته تتضمن الكثير مع هيكل.
ويحكى تفاصيل لقائه الأول بهيكل ثم لقاءات بعدها وأسئلة كثيرة من الأستاذ هيكل عن دراسته الأكاديمية وعناوين الأبحاث بها، واهتمام هيكل بموضوع الصراع الدولى وأساليب تسوية الصراعات ونظرية مايكل بريشر أقدم أستاذ بجامعة ماجيكل فى تدريس العلاقات الدولية وله كتاب عن قرار الحرب الذى اتخذته إسرائيل عام 1967 وأنه كلف طلابه بإجراء بحوثهم حول ذلك، فطلب هيكل الكتاب ولم يكتف بوعده بذلك بل وجه باسم الأهرام لبريشر لزيارة القاهرة وقبل الدعوة، وفى هذا اللقاء صارح هيكل جميل مطر بأسباب نشر أول مقال له بالأهرام وبه ملاحظات له على رأسها أنه مقال ممتاز ومعلومات هامة لكن لقارئ آخر غير قارئ الصحف الذى يريد أن يفهم من القراءة الأولى للمقال ما يريد الكاتب قوله، وكانت هذه أول نصيحة من الأستاذ هيكل -والتى أتمنى حتى الآن أن تعمم ويعرفها من يكتب للصحافة - ويصف أستاذ جميل وهو حكاء عظيم أيضا لقاءه الأول هذا بأن هيكل أراد أن يحصل على كل المعلومات فى جلسة واحدة، وأنه كان بارعا بل مذهلا فى سعيه وراء المعلومة، وأن هذا الرأى وتفاصيل اليوم واللقاء تعمق عند الأستاذ جميل عقب رؤيته لهيكل فى كل مرة يحطم حاجز الإخفاء أو الكتمان عن ملك أو رئيس أو عند آخرين، ويعود بما يريد وكانت متعة لا تعادلها متعة أخرى لديه، وتوطدت العلاقة بينهما واصطحب أستاذ هيكل فى رحلات خارجية كثيرة، ودارت الحوارات بينهما وتبادلا فيها المخفى فى العلاقات لاسيما عن عالم الصحافة والصحفيين، ومنها ينتقل لعلاقته بالمكان أى الأهرام والذى تم تعيينه بها، وعن تفاصيل العمل اليومى للمادة التى ستظهر بالجريدة فى اليوم التالى ومانشيت الخبر الرئيسى والنجم بها عبد الحميد سرايا والأسطورة ممدوح طه الذى تفوق قبل قدوم هيكل الذى أبقى عليه وعلى سلطاته، والذى تعرف عليهما فى غرفة الأستاذ صلاح الدين حافظ وله عند الكاتب منزلة خاصة، والتى اشترك بها معه فى محبة التعامل والتعلم من أستاذ صلاح زميل أبى أيضا.
هناك تعرف على الأجيال الجديدة والتى سيلمع اسمها فيما بعد من مدرسة الأهرام أو ما أطلق عليها مدرسة هيكل، ومنهم كمال الملاخ ومكرم محمد أحمد وفهمى هويدى وصلاح منتصر وزكريا نيل وإنجى رشدى ومحمد حقى، وهى زيارات سكان الطابق الرابع من سكان الطابق السادس الذى كان يسكنه الكاتب حيث لا يفضل هيكل عدم الاحتكاك كثيرا بين شاغلى الطابقين؟!
