بقلم/ أحمد تركي ... خبير الشؤون العربية
تُعد سلطنة عُمان من أوائل الدول التى كرست كل اهتمامها لبناء الإنسان "المواطن" باعتباره صانع التنمية وبانى نهضتها الحديثة والمتجددة، وذلك انطلاقاً من استراتيجيتها الثابتة على مر العصور "بناء البشر قبل الحجر، وأن الاستثمار فى الإنسان هو الرهان الرابح على الفوز بمستقبل أفضل فى مختلف القطاعات، وأن الإنسان هو حجر الزاوية فى كل بناء تنموى وهو قطب الرحى الذى تدور حوله كل أنواع التنمية إذ إن غايتها جميعاً هى إسعاده وتوفير أسباب العيش الكريم له وضمان أمنه وسلامته.
وقد أولى السلطان هيثم بن طارق، سلطان عُمان منذ توليه مقاليد الحكم فى 11 يناير 2020م بناء الإنسان اهتماماً كبيراً باعتباره أهم الركائز فى أى تنمية، وقال فى خطابه التاريخى فى 23 فبراير 2020م: «إن شراكة المواطنين فى صناعة حاضر البلاد ومستقبلها دُعامة أساسية من دعامات العمل الوطنى».
وليس من قبيل المصادفة القول، أن التنمية البشرية فى عُمان تتميز بأنها ذات طابع خاص، فهى تأتى متكاملة ومترابطة مع مسارات عديدة ومجالات مختلفة، وركيزة للتنمية بمفهومها الشامل، تنطلق من معادلة واضحة وهى أن الإنسان العُمانى هو الغاية من تحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة، وأن تحقيق التنمية يتطلب الاهتمام ببناء المواطن العُمانى باعتباره الثروة الحقيقية.
وجاءت رؤية عُمان 2040، التي انطلقت مطلع عام 2021، لتؤكد أن محورها الأول والرئيسى هو "الإنسان والمجتمع"، يرتكز على تعزيز الرفاه الاجتماعى الذى يهدف إلى إرساء مبدأ العدالة والمساواة بين أفراد المجتمع العُمانى، بحيث ينعمون بالرعاية الاجتماعية ويكونون قادرين على التعامل مع المجتمعات الأخرى، وذلك من خلال تمكين الأسرة ودعم المرأة والاهتمام بالشباب والأطفال والأشخاص ذوى الإعاقة والمسنين.
ووفقاً لتقرير "رؤية عُمان 2040" فإن التشريعات والقوانين العمانية تكفل للأشخاص ذوي الإعاقة الحق في حياة كريمة تمكنهم من الاندماج في المجتمع الذي يوفر لهم شبكة أمان اجتماعية فاعلة ومستدامة، وقد شهدت الأعوام الخمسة الماضية تنفيذ العديد من البرامج والأنشطة والفعاليات التي تسهم في إدماج ذوي الإعاقة في المجتمع وتحسين جودة الخدمات المقدمة لهم وتلبية تطلعاتهم واحتياجاتهم في إطار منظومة وطنية يسهم في تنفيذها القطاع العام والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني والأفراد.
ومن الأعمال والبرامج المنفذة: تهيئة عدد من الحالات للدمج التعليمي الجزئي في مدارس الحلقة الأولى، وحالات للدمج الجزئي في الروضة، وتنفيذ زيارات للحالات التي تم دمجها في المدارس، وتنفيذ مختبر تطوير خدمات وبرامج الأشخاص ذوي الإعاقة، وبرامج توعوية وتدريبية عن فنون التعامل مع أحداث الحياة الضاغطة لدى أسر الأشخاص ذوي اضطراب طيف التوحد، ودور الأسرة في تقديم الدعم السلوكي والوجداني للأطفال ذوي اضطراب طيف التوحد، وكيفية التعامل مع الضغوطات النفسية لدى أمهات الأشخاص ذوي اضطراب طيف التوحد وطرق تطبيق أنشطة التهيئة المهنية داخل المنزل.
وتؤكد مؤشرات الحماية الاجتماعية لعام 2023 ارتفاع عدد ذوي الإعاقة المنتفعين من الضمان الاجتماعي بنحو 11%، ليصل عددهم إلى 46 ألفا و395 شخصا، كما أن 92% من العدد الإجمالي يشملهم الضمان الاجتماعي، حيث تم صرف 41 مليون ريال عماني لهذه الفئة.
وعن الخدمات المقدمة، وصل عدد المستفيدين من الأجهزة التعويضية والخدمات المساندة خلال النصف الأول من العام 2024م إلى 6 آلاف و782 شخصا، منهم 3 آلاف و676 ذكورا و3 آلاف و107 إناث. وشكلت نسبة 22% من إجمالي المستفيدين من النظارات الطبية في عام 2023م.
إنشاء مركز اضطراب طيف التوحّد للرعاية والتأهيل
لم ينقطع الاهتمام العُماني بأصحاب القدرات الخاصة أو "القادرون باختلاف"، وفي إطار هذا الاهتمام البالغ بذوي الإعاقة والسعى إلى توفير الرعاية والدعم والتأهيل لهم بشتى الوسائل المتاحة ووفق إمكانياتهم وقدراتهم ، جاءت الأوامر السلطانية السامية الكريمة باعتماد 7 ملايين ريال عُماني لإنشاء "مركز اضطراب طيف التوحّد للرعاية والتأهيل" بمحافظة مسقط - يتبع المركز الوطني للتوحد – يكون خاصاً بالأطفال الذين يعانون اضطراب طيف التوحد ممن لم تتح لهم بعد فرص التأهيل في مراكز تقدم خدمات عالية الجودة.
تكتسب هذه الأوامر السّامية أهمية خاصة ليس لأنها تقضي بإنشاء مركز متطور يعمل باحترافية، إنما لأن جزئية منها تنص على دراسة حاجة المحافظات العُمانية لمثل هذه المراكز ووضع برنامج زمني لإنشائها وفق عدد الحالات في كل محافظة، وهو ما يؤكد أن السلطان هيثم بن طارق على معرفة تامة لما يعنيه اضطراب التوحد والظِلال القاتمة التي يُلقيها على كاهل الأسر في مختلف المحافظات.
والأمر الذي يبعث على الراحة والسكينة للمواطن العُماني، بأن يكون "مركز اضطراب طيف التوحّد للرعاية والتأهيل" هو الأول من نوعه في الشرق الأوسط من حيث نوعية خدماته وتجهيزاته المتطورة، ما يعني أنه سيحدُ بصورة مباشرة من استقرار بعض المواطنين خارج الوطن للحصول على خدمات متقدمة لأبنائهم المصابين باضطراب التوحد.
ومما يدعو للارتياح أن المركز الجديد سيستوعب 150 حالة يوميًا ربما كانت تعتبِر التأهيل حلمًا بعيدًا، كما أنه سيُمكن غير الملتحقين به من استخدام قاعاته المتعددة وفق أوقات محددة إلى جانب أنه سيكون الجهة المركزية المعنية بتوفير خدمات التدريب المتخصصة للعاملين في مجال اضطراب طيف التوحد مع ميزة التخويل لمنح رخص مزاولة مهنة العمل في هذا المجال وتقديم خدمات التدريب المستمر للأسر من كافة المحافظات العُمانية.
الجدير بالذكر أن إجمالي عدد المراكز في عُمان يبلغ نحو 75 مركزًا تأهيليًّا حكوميًّا وخاصًا وأهليًّا منتشرة في مختلف الولايات، تقدم خدماتها لحالات التوحد وأغلب المراكز الخاصة تعنى بالتوحد، إلى جانب وجود مراكز مُتخصصة في مجال التوحد تابعة لوزارة التنمية الاجتماعية، ناهيك عن أن ثمة تعاونًا بين وزارة التنمية الاجتماعية ووزارة التربية والتعليم والجمعية العُمانية للتوحد لتأسيس وتوسيع برنامج الدمج التعليمي لهذه الحالات أسوة ببرنامج دمج الإعاقات السمعية والذهنية.
لا شك أن هذه الأوامر السامية الكريمة بإنشاء "مركز اضطراب طيف التوحّد للرعاية والتأهيل بمحافظة مسقط"، جاءت لتؤكد الاهتمام الشخصيّ من قبل القيادة السياسية الحكيمة بهذه الفئة من المجتمع وأنها فئة يُعول عليها أيضًا في مسيرة النهضة المتجددة، وهي لم ولن تكون يومًا من الأيام كمًا مهملًا.
كما أن الاهتمام بالأشخاص ذوي الإعاقة في عُمان، يأتي من حرص الحكومة ممثلة في وزارة التنمية الاجتماعية بأن تحظى هذه الشريحة بجميع فئاتها بالحصول على كافة الحقوق كبقية المواطنين، ومن هذه الحقوق تأهيل هؤلاء الأشخاص في مؤسسات التأهيل المختلفة والتي تقدم خدمات التأهيل التي يحتاجها الأشخاص ذوي الإعاقة ليصبحوا أشخاصا يسهل دمجهم في المجتمع.
فضلاً عن ذلك تعمل الحكومة ممثلة في وزارة التنمية الاجتماعية على ضرورة تمكين الأشخاص ذوي الإعاقة، في مختلف جوانب الحياة، في العمل ليس فقط كفالة الحق في العمل وإنما بيئة مهيأة ميسرة وخالية من أية عوائق، لأن المتطلبات تختلف من إعاقة إلى أخرى فالإعاقات الجسدية تحتاج إلى ترتيبات خاصة والسمعية والبصرية كذلك تحتاج إلى ترتيبات مختلفة.
والمخطط وفقاً لتقرير "رؤية عُمان 2040"، زيادة نسبة المستفيدين من برامج التأهيل في مراكز تأهيل الأشخاص ذوي الإعاقة بمعدل يصل إلى 65% بحلول 2027، وزيادة نسبة الأشخاص ذوي الإعاقة المستفيدين من برامج التعليم الدامج في المدارس الحكومية والخاصة بمعدل 10% سنويا، ورفع نسبة المدمجين من الأشخاص ذوي الإعاقة في سوق العمل بنسبة 25% بحلول عام 2027، إضافة إلى استكمال مشروع تمكين توظيف ذوي الإعاقة بنسبة 35% ومشروع تطبيق المواد القانونية الخاصة بتشغيل الأشخاص ذوي الإعاقة بنسبة 100% بحلول عام 2027.