تراجع حاد فى الأسواق.. وخسائر بـ«تريليونات الدولارات» الاقتصاد العالمى يسدد فاتورة «تحرير أمريكا»
سادت الأسواق المالية العالمية حالة من الاضطراب، فى ظل تصاعد الحرب التجارية المشتعلة التى شنّها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بعد فرضه رسومًا جمركية شاملة بنسبة 10 فى المائة على جميع الواردات، بالإضافة إلى نِسب أعلى متفاوتة على الحلفاء والخصوم على حد سواء، بما فى ذلك 34 فى المائة على الصين، و26 فى المائة على الهند، و46 فى المائة على فيتنام، و20 فى المائة على الاتحاد الأوروبى، إلى خسارة أكبر الشركات فى العالم مثل «آبل» و«إنفيديا»، تريليونات الدولارات مما زاد من مخاوف حدوث تباطؤ عالمى حاد وركود اقتصادى.
ورغم أن التعريفات الجمركية التى أعلنها «ترامب» تسببت فى محو حوالى 2.5 تريليون دولار من «وول ستريت» وأسعار الأسهم فى المراكز المالية الأخرى فى جميع أنحاء العالم، إلا أنه رفض المخاوف بشأن صدمة السوق مجادلًا أن يوم 2 أبريل، هو يوم «تحرير أمريكا»، وأن التعريفات ستشجع المستهلكين الأمريكيين على شراء المزيد من السلع المصنّعة فى الولايات المتحدة، ما يعزز اقتصاد البلاد، ويحمى الوظائف، ويزيد من مقدار الضرائب المحصّلة.
عقب الإعلان عن الرسوم الجمركية الجديدة شهدت العاصمة الأمريكية واشنطن مظاهرات حاشدة، كما أعدت جماعات حقوقية لنحو 1200 مظاهرة فى أنحاء الولايات المتحدة وسط موجة غضب من سياساته الداخلية والخارجية، خاصة بعد أن انعكست قرارات الرسوم الجمركية على الولايات المتحدة وكبدت اقتصادها خسائر فادحة خلال يومين.

وتوالت ردود الأفعال العالمية بشأن الرسوم الجديدة، حيث هاجم قادة العالم سياسات «ترامب» الحمائية، فقد أدانت بكين ممارسات «التنمر الأحادى الجانب» بعد ارتفاع إجمالى الرسوم الجمركية الأمريكية على الواردات من الصين إلى 54 فى المائة، حيث فرضت الولايات المتحدة سابقًا رسومًا بنسبة 20 فى المائة، وأعلنت أنها ستفرض رسومًا جمركية بنسبة 34 فى المائة على جميع الواردات القادمة من الولايات المتحدة، وذلك بدءًا من العاشر من أبريل الجاري، وتقييد بعض صادراتها من المعادن الرئيسية، وإضافة 27 شركة أمريكية إلى قوائم الشركات الخاضعة لعقوبات تجارية أو ضوابط تصدير، فضلًا عن رفع دعوى قضائية لدى منظمة التجارة العالمية بشأن مسألة الرسوم الجمركية، وفقًا لوكالة أنباء الصين الرسمية «شينخوا».
وعقب صدور القرار الصيني، اجتاح تسونامى البورصات العالمية، حيث عمقت العقود الآجلة الأمريكية من خسائرها، فقد هبط مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بأكثر من 2 فى المائة، كذلك هبط مؤشر ناسداك 100 بنحو 2.3 فى المائة فى حين بلغت خسائر عقود الداو جونز الآجلة نحو 2.3 فى المائة ما يعادل نحو 940 نقطة. فى حين هوت أسواق الأسهم الأوروبية بشكل حاد، وانخفض مؤشر ستوكس 600 بنسبة 4.5 فى المائة، معمقًا من خسائره السابقة، مع انخفاض أسهم القطاع المصرفى الأوروبى بأكثر من 9.5 فى المائة.
وعلى الصعيد الأوروبي، يستعد الاتحاد الأوروبى لفرض رسوم جمركية تستهدف الألومنيوم والصلب بحلول منتصف أبريل الجارى، وذلك ردًا على إجراءات مماثلة اتخذها ترامب فى وقت سابق، وأعلنت باريس أنها سترد بالتنسيق مع بروكسل، على الرسوم الجمركية التى فرضها ترامب باستهداف الخدمات الرقمية الأمريكية، مثل شركات التكنولوجيا الكبرى، وحذر الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون من تقديم تنازلات أو استثمارات فورية فى الولايات المتحدة بهدف الحصول على إعفاءات من الرسوم الجمركية، بينما تدرس بعض الحكومات التنسيق فيما بينها لاتخاذ إجراءات انتقامية منسقة، ما ينبئ باندلاع حرب تجارية واسعة النطاق قد تعيد تشكيل ملامح الاقتصاد العالمي.
وفى هذا السياق، قال الدكتور أحمد عبود، أستاذ الاقتصاد بجامعة بورتسموث ببريطانيا: إن «سياسات ترامب فى الفترة الأخيرة أسهمت فى خلق بيئة تجارية غير مستقرة، وذلك بسبب فرضه تعريفات جمركية بنسب مرتفعة جدًا، وهو ما أثر على البيئة التنافسية، وأدى إلى زيادة التكلفة على الشركات والمستهلكين وبالتالى بطء فى تدفقات التجارة العالمية، والتأثير على قدرة بعض الدول فى التكيف مع هذه السياسات، ونقص فى بعض السلع، وارتفاع الأسعار بشكل كبير ما يؤثر على سلاسل التوريد الخاصة فى التجارة العالمية، وينعكس كذلك تأثير سياسته على الدول المصدرة بالأخص حيث سينخفض الطلب على السلع الخاصة بهم، وبالتالى انخفاض عائد الناتج القومى لهذه الدول، ما سيؤدى فى النهاية إلى حدوث ركود اقتصادى فى بعض المناطق خاصةً المعتمدة على التصدير لأمريكا، كما تعمل سياسات ترامب الأحادية على عرقلة عمل المنظمات الدولية، وبالأخص منظمة التجارة العالمية.
«عبود» أوضح أن «الدول أصبحت تبحث عن أسواق بديلة للسوق الأمريكى من أجل تصدير السلع، واتجهت بعض الدول لرفع التعريفات الجمركية للمنتجات الأمريكية من منطلق «المعاملة بالمثل»، وذلك سيؤثر بشكل سيئ على التجارة العالمية ويتعارض مع السياسات التى كانت تتجه إليها أوروبا وأمريكا فيما يخص التجارة الحرة وأثر ذلك الإيجابى على توفر السلع والمنتجات داخل معظم الدول، ووجود قوة تنافسية كبيرة، وسنشهد خلال الفترة القادمة جدية فى التنافس ونقص بعض السلع وارتفاع فى بعض الأسعار، وعدم ثبات اقتصادي، كما سنرى ملامح جديدة للاقتصاد العالمى لا نعلم متى ستكون إيجابية، لكننا نسير فى الطريق المعاكس فيما يخص حرية التجارة والعمل على تقليل معدلات التضخم، وتوفير المنتجات وتدعيم سلسلة الإمداد».
من جهة أخرى، وصل الدولار الأمريكى إلى أدنى مستوى له فى ستة أشهر، بنسبة 2.2 فى المائة، وسط فقدان متزايد للثقة فى عملة كانت تعتبر فى السابق الأكثر أمانًا فى العالم. كما لم تسلم العملات المشفرة من موجة التراجع حيث هبط سعر «البيتكوين» بنسبة 5 فى المائة مطلع الأسبوع الجارى ليسجل 77.7 ألف دولار، كما انخفضت أسعار الذهب لأدنى مستوى لها فى ثلاثة أسابيع خلال تداولات آسيا حيث قام المستثمرون بتصفية مراكزهم لتغطية خسائر أسواق أخرى، لكن ما زالت التوقعات تشير إلى وصول الذهب لمستويات قياسية فى الفترات القادمة فى ظل حالة عدم اليقين الاقتصادى.

وفى هذا الإطار، أوضح عمرو المغربى، عضو شعبة الذهب بالاتحاد العام للغرف التجارية، أن «قرارات ترامب بفرض رسوم على الواردات أحدثت حالة من الفوضى، وأن الدول والبنوك بدأت تخشى من تأثير سياسته على الدولار مما جعل التوجه أكثر إلى الذهب وارتفاع سعره فى الفترة الماضية. والهبوط الذى حدث فى البورصات العالمية يعتبر جنى أرباح وتصحيحا لمعدلات الارتفاع، وعلى الرغم من الهبوط الطفيف الذى شهدته أسعار الذهب إلا أنه -كما ذكرت التوقعات- ستحدث ارتفاعات مرة أخرى فى أسعار الذهب الفترة القادمة نظرًا أيضًا للحرب الموجودة فى غزة، والحرب الروسية – الأوكرانية، فضلًا عن شراهة الصين والهند فى شراء الذهب بكميات كبيرة، كما ارتفعت الأسعار محلياً بشكل طفيف بسبب ارتفاع سعر الدولار محلياً.
أما النفط، فقد انخفضت أسعاره بنسبة 7 فى المائة يوم الجمعة الماضى لتستقر عند أدنى مستوى له فى أكثر من ثلاث سنوات بعد رد الصين الانتقامى، حيث انخفضت العقود الآجلة لخام برنت القياسى العالمى بمقدار 4.56 دولار للبرميل، بينما خسرت العقود الآجلة لخام غرب تكساس الوسيط الأمريكى 4.96 دولار للبرميل، وخلال الأسبوع الماضى انخفض خام برنت بنسبة 10.9 فى المائة، مسجلًا أكبر خسارة أسبوعية له من حيث النسبة المئوية منذ عام ونصف العام، بينما سجل خام غرب تكساس الوسيط أكبر انخفاض له منذ عامين بانخفاض قدره 10.6 فى المائة، بحسب ما أفادت به وكالة «رويترز» للأنباء.
وفى أعقاب رسوم «ترامب»، قررت منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، زيادة الإنتاج مما دفع أسعار النفط الخام إلى الانخفاض. والجدير بالذكر أن البيت الأبيض أكد إعفاء النفط والغاز والمنتجات المكررة من الرسوم الجمركية الجديدة.

وتعليقًا على ما سبق، أكد الدكتور ممدوح سلامة، الخبير الدولى فى مجال النفط والطاقة، أن «سياسة ترامب ستخلف فوضى فى السوق العالمى للنفط ولكنها لن تؤثر على إنتاج الدول الرئيسية من النفط وعلى صادراتها، فالولايات المتحدة تعتمد بنسبة 8 ملايين برميل فى اليوم على استيراد النفط لأن إنتاجها لا يكفي، وهذا يعنى أنها الآن وتحت سياستها الحالية ستضطر إلى أن تدفع ثمنًا أعلى حتى تلبى حاجتها».
«سلامة»، لفت إلى أن «اقتصاد الولايات المتحدة وصل إلى ذروته عام 2023 ومنذ ذلك الوقت وهو آخذ فى الانخفاض، ويجب علينا ألا نقبل بالادعاءات الكبيرة التى تعلنها إدارة المعلومات الأمريكية عن حجم الإنتاج الأمريكى فهو دائمًا مبالغ فيه إلى حد الكذب، ومن هذه الزاوية حاجة الولايات المتحدة سترتفع إلى أكثر من 8 ملايين برميل وربما تصل فى السنوات الخمس المقبلة إلى 9 ملايين برميل. وهذا يدعم أسعار النفط وبالتالى يؤثر على الميزان التجارى الأمريكي، ويزيد من توزيع النقص فى الميزانية، ويدفعها إلى طباعة الدولار لسد هذه الفجوة، وبالتالى انخفاض القدرة الشرائية لها فى السنوات القادمة كما يحدث الآن، وسيستمر الانخفاض لسنوات قادمة، إلا إذا اضطرت الولايات المتحدة إلى إجراء خفض ضخم للدولار.
«سلامة» أوضح أن سياسة ترامب فى فرض رسوم على صادرات دول العالم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، قائلًا: إنها تهدف إلى تحقيق هدفين رئيسيين؛ الأول: إعادة بناء القدرة الصناعية للاقتصاد الأمريكى التى انخفضت عبر السنوات الماضية بشكل ضخم بحيث وصلت إلى أقل من 10 فى المائة من الناتج الإجمالى للولايات المتحدة الأمريكية مقارنة بأكثر من 30 فى المائة للاقتصاد الصينى. وهذا يعنى أن الولايات المتحدة تعتمد اعتمادًا كليًا على الواردات، فقد استوردت فى عام 2024 ما يساوى 4 تريليونات دولار، والسبب فى ذلك أن اقتصادها غير قادر على تحقيق إنتاج أعلى يلبى حاجة المواطن الأمريكي، ودول العالم من السلع، أما السبب الثانى: أنه يسعى إلى حل العجز فى الميزان التجارى بين الولايات المتحدة ودول العالم، فحتى إذا تمكنت أمريكا من تحقيق إنتاج أعلى فهى غير قادرة على مؤازرة التنافس الذى تواجهه من الصين والهند وغيرهما من دول العالم.
كما أشار إلى أن سياسة ترامب خلقت الفوضى والتشكيك فى قدرة الإنتاج والاقتصاد العالمى، وهى سياسة خاطئة أنانية تضر بالعالم وتضر بالولايات المتحدة بشكل أكبر، لكنه أكد كذلك أنه سيفشل فشلًا ذريعًا، إذ إن الولايات المتحدة لا تستطيع الآن أو فى المستقبل أن تربح حرب رسوم جمركية أو تجارية ضد الدول الرئيسية المصدرة لها مثل الصين والهند والاتحاد الأوروبي، وهذا يظهر جليًا من قرار البنك الفيدرالى الأمريكى قبل بضعة أيام بإعادة رفع تقديره للتضخم المالى فى الولايات المتحدة من 2.5 فى المائة إلى 2.8 فى المائة، وتخفيضه لتوقعه للنمو الاقتصادى العالمى لعام 2025 من 2.1 فى المائة إلى 1.7 فى المائة، وسيأخذ فى الانخفاض بشكل أكبر، وقد لام البنك الفيدرالى الأمريكى الرئيس ترامب فيما يتعلق بفرض رسوم وعلى هذا الانكماش فى الاقتصاد الأمريكى.
كما توقع «سلامة» أنه إذا استمر ترامب فى هذه السياسة، فإن اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية سيدخل فى انكماش كامل وهو ما سيكون له تأثير ضخم على الاقتصاد الأمريكى وشعبه، حيث إن البنك الفيدرالى سيضطر إلى رفع الفائدة للسيطرة على التضخم المالي، وهو ما يعنى وقف أى نمو للاقتصاد الأمريكى فى المستقبل.
