فض الاشتباك بين عجز الموازنة وتعديل بوصلة الميزان التجارى العبور لمناطق التصحيح فى إدارة الدين العام
بقلـم: د. وفاء على
لاشك أننا أمام نظام عالمى جديد بمراحل انتقالية قد تطول وتحتاج إلى حالة من التموضع الجديد على الخريطة العالمية فى تحول دراماتيكي للتركيبة الاقتصادية والسياسية، تستدعى فى أولى مراحلها أن كل دولة تستطيع إدارة الدين العام حتى لا تقبع الدول فى المناطق الرمادية، ويكون لها تمحور جديد فى دوائر صنع القرارات فى إدارة الإنفاق والتصرف فى ظل مخاطر الحروب التجارية.
ولا شك أن مآلات المشهد وشواهده تقول إننا نسعى لبناء مستقبل مستدام ونعبر الجسور وأننا نمتلك أدوات لصياغة المستقبل، وكى تتلمس هدفك وتشق طريقك الآن، فهو أمر ليس بالسهل فى ظل الظروف الاستثنائية العالمية، فالاقتصاد عنوان عريض وبوابة لأى دولة يتم بناء مرتكزات بشأنها، وهنا نقول إن الطريق أمام أى دولة أن تعبر لمناطق التصحيح، وأن تفض الاشتباك الحادث بين عجز الموازنة واستعدال بوصلة الميزان التجاري وإطفاء نار الدين إن وجد.
وتحاول كل دولة التقاط أنفاسها حتى تتوافق ظروفها مع الأخذ فى الاعتبار سداد التزاماتها فى مواعيدها المحددة، ويكون دوما لديها حالة استنفار للشحنة الدلالية التى ينتظرها الجميع وتقديم البراهين على الصوابية فى تحركاتها المالية وسداد مستحقات الشركاء والديون وفوائدها فى الموعد المحدد.
وهنا نقول إن مصر لم تتخلف يوما عن سداد التزاماتها وهى فى أصعب الظروف خصوصاً بعد أن تبعثرت أوراق الشرق الأوسط والعالم فى الفترة الأخيرة بفعل ضغوط سياسات الإكراه الاقتصادى والتشديد النقدى.
ولا شك أن وجود الدولار ومساحته فى التعاملات وزيادة قبضته جعلت العملات كلها على مستوى العالم تتنافس أمام الدولار ومع عودة ترامب ومحاولة تعزيز الاقتصاد الأمريكى على نفقة العالم، فالأسواق الأمريكية تستفيد من التحفيز على المستوى القصير، ومع الضغوط فى الحروب التجارية قد يعزز الحال اللجوء إلى الملاذات الآمنة كالدولار والذهب والأسواق المالية الدولية تركز على المستقبل، بالرغم من أن إدارة الدين العام العالمى قد وصل إلى أعلى مستوياته منذ الحرب العالمية الثانية وزادت حالة التشنجات فى المشهد ويسير العالم إلى مزيد من المديونية، والسؤال الحائر، متى يتنفس العالم الصعداء؟
فالمديونية تزيد وإذا كان عام 2024 عام الانفتاح على المخاطر، فإن عام 2025 عام يكمل المسيرة بفعل التوترات الجيوسياسية وتأثيرها بل أصبح الدين العام أكثر ارتباكا، وهناك تفاوت فى المشهد، فأنت لست وحدك كدولة فى مسألة الدين العام، فرادار الأداء برغم نشاطه الإيجابى اقتصاديا؛ إلا أن قضية الدين العام تؤرق الجميع وكيفية إدارة دفة الاقتصاد الكلى ليس لها ثوابت، فأمريكا مثلا سقف ديونها بلغ 36.17 تريليون دولار، وهناك عجز فى الموازنة يبلغ 711 مليار دولار.
ومع ذلك لا يمثل الأمر أى حاجز نفسى كنطاق مقاربة للاقتصاد الأمريكي ولا يرى أى عيب فى الأمر، وإنما جاء ترامب بالمدرسة الخاصة بجون منز كينز أبى الاقتصاد ليقول خفض الإنفاق الاستثماري الحكومى وهو نهج تكتيكى لخفض عجز الموازنة أيضاً فى عالم منقسم ومتقلب تتجدد فيه المعطيات كل يوم.
ونحن كمصر دولة لها طبيعة خاصة، جعلتنا فى مساحة من التفاؤل المشوب بالحذر فنحن نريد رفع معدلات النمو وخفض الدين العام والنزول بمعدلات التضخم والوصول بعدد السائحين إلى 30 مليون سائح بحلول 2030 وتوسيع قاعدة التشاور مع القطاع الخاص، وأن يصبح السوق العقاري مصدراً للعملة، وان يكون حجم الاقتصاد الرقمي المصرى أكثر من 276 مليار جنيه، فضلاً عن إنهاء كل مستحقات الشركاء الأجانب بجدول زمني محدد واستشراف للمستقبل والانخراط فيه. وهذه معادلة مصر للاستدامة المالية، فهل هذه الأدوات والتجهيزات تستطيع أن تدير الدين العام بآليات فى مناطق التصحيح وتحقق الغرض، أم أن دولاب العمل لملفات مصر وأولها إدارة الدين الخارجى يحتاج إلى تنظيم على كافة الأصعدة بلغة تشاركية لتصل صادراتنا 2023 إلى 115.8 مليار دولار والهبوط بالواردات إلى 105 مليارات دولار .
ويحتاج المشهد إلى نوع من المرونة حال ومآلا ولا يغرد أحد خارج السرب، وأن نستخدم قدراتنا التمكينية حتى تحقق المعادلة الهدف فى النهاية، فالظروف غير مسبوقة والعالم كله يقفز على الحقائق .
فحجم الاقتصاد العالمى كله 110 تريليونات دولار منها 25 في المائة لأمريكا، والبقية للعالم ومع ذلك ديون أمريكا 3 أضعاف دخلها، وسوريا مثلا ليس لها دين عام، أما مصر ذات الثقل النوعي الذى قد لا يعرفه البعض، فالناتج القومى يمثل حوالى 8 في المائة وهو يزيد على دول كبيرة اقتصاديا، ومع ذلك تعانى من خدمة الدين، وهنا نقول لابد من وجود فريق عمل متخصص للخروج والتموضع وتحقيق الهدف المالى، ولكل دولة أدواتها فى هذه المرحلة الحساسة التى تحتوى على رسائل متضاربة، ويجب إعطاء وزن نسبى لآلية جدولة الديون.
وهنا يجب أن نقف أمام خطط العالم الذى يترنح من الأزمات والبقاء على الحياة، له مستلزمات، ومن القراءة الإجمالية نجد مثلا أن السعودية لديها عجز يبلغ 115.6 تريليون ريال للربع التاسع على التوالي، وقد تحدث “مؤتمر العلا للاقتصادات الناشئة” عن التغيرات الهيكلية فى الاقتصاد العالمى وارتفاع الديون، ولابد من وجود برامج عربية للإقراض بعيداً عن المؤسسات المالية الدولية .
والسيناريوهات صاحبة الحظ الأكبر، هي خواتيم الأمور واكتشاف ما يلزم، فتراكم الأحداث الاقتصادية يجعل معضلة الدين العام محيرة. ويحاول الكل وضع نسب ثابتة للحد الآمن للدين العام المحلى والخارجي وعبور الأفق الزمنى واتساع المساحة من حيث المكان والزمان، وهو أمر صعب وغير صحيح من الناحية الاقتصادية، حيث تختلف الظروف من دولة إلى دولة فربما نسبة آمنة لدولة لا تكون آمنة لدولة أخرى بل تكون في بعض الظروف تنذر بوقوع أزمات اقتصادية أو وضع اقتصادي غير مريح.
لكن الأهم ما آليات المرونة الاقتصادية التي مع المعطيات والظروف المتغيرة، وهنا لابد أن نقف ونفكر في سياسة لإدارة الدين ترتبط ارتباطاً وثيقاً بين مفهوم الاستدامة المالية والاستدامة الاقتصادية التي تعطى نتائج للاستقرار المالي والديناميكى للاقتصاد الذى له وجوه كثيرة منها ضبط الدين العام وكيفية إدارته بالسيولة النقدية والسياسة المالية وأسعار الصرف والفائدة والضرائب.
ومصر ليست في حاجة إلى مواصلة الاقتراض الخارجي عند المعدلات السابقة نفسها أو حتى بالقرب منها، فالإبطاء في الاقتراض أصبح ضرورة ملحة في هذه المرحلة فقد تجاوزنا الأهم، وهو بناء البنية التحتية، وعلينا فرملة الاقتراض بالرغم من أن الاقتراض حالة ضرورية لكل دول العالم وأولها الولايات المتحدة الأمريكية التي وصل سقف ديونها إلى أكثر من 34 تريليون دولار، ولا تستطيع سداده بل إن هناك شركات أمريكية أفلست في الوقت الماضي من الشهور القليلة.
لكن يجب ألا يتلخص موضوع الاقتراض في قدرة الدولة على الاقتراض؛ لكن بقدرة الدولة على الاقتراض والسداد من تشغيل القروض لتأتى بعوائد تساهم في السداد وهنا يأتي أيضاً الفرق بين الاقتراض للإصلاح الاقتصادي والاقتراض للإنقاذ، وقد تأتى الإيرادات؛ لكن لا تحسن الدولة إدارتها وتفعيلها مع حالة القروض مما يؤدى في النهاية إلى اقتراض مرة أخرى، وإذا كان الاقتراض لابد منه فلابد من الإدارة الاستراتيجية للدين وفق خطط لا تكون لسد عجز الموازنة فقط وإنما للتنمية وللإنتاج لتدر عوائد اقتصادية تساعد على الربحية ومعدل تكرار السيولة، ولابد من التمهل حتى لا تأتى التداعيات السلبية على المدى الطويل .
وهناك مواجهة للاستحقاقات الخارجية خلال السنوات الثلاث المقبلة، حيث يتوقع البنك المركزي سداد أكثر من 60 مليار دولار خلال عامى 2025 إلى 2027 ونرى أن تفاوت آجال سدادها بالنسبة للديون أربك المشهد قليلاً لاستخدام القروض قصيرة الأجل إلى مشروعات طويلة الأجل، وهو ما يشكل أزمة واحتواء آثار الدين على السنوات المقبلة .
ولا شك أن مصر تواجه تحديات اقتصادية كغيرها من دول العالم بسبب تفاقم حجم الديون خلال السنوات الأخيرة، حيث تضاعف الدين الخارجي إلى 168 مليار دولار بنهاية عام 2023 وبالرغم من ارتفاع حجم الدين الخارجي، نجحت الدولة المصرية في تقليصه رغم التداعيات والرياح المعاكسة بفعل الظروف العالمية الراهنة إلى حوالى 155 مليار دولار بنهاية 2024 ثم انخفض إلى 152.88 مليار دولار.
أما الدين المحلى فقد شهد أيضا تراجعا بنسبة 2.7 في المائة ليصل إلى 8.7 تريليون جنيه فى نهاية يونيو 2024 مقارنه بـ 8.9 تريليون جنيه في مارس من العام ذاته، وقد قامت الدولة بوضع استراتيجية لإطفاء نار الدين تهدف فيها إلى تقليص نسبة الدين إلى الناتج المحلى الإجمالي لتصل إلى 85 في المائة خلال العام المالى الحالي.
ويشكل تراكم الديون حزمة ثقيلة على الميزانية العمومية وتستهلك الديون وفوائدها أكثر من 80 في المائة من إجمالى المصروفات أو الإنفاق الحكومي، وهناك سعى جاد إلى خفض الإنفاق إلى 30 في المائة على المدى المتوسط من خلال آليات أهمها:
إعادة هيكلة سياسة الاقتراض لتوجيه الدين نحو مسار هبوطي .وإطالة متوسط عمر الديون لتخفيف الضغط على المالية العامة . وتنويع مصادر التمويل من خلال إصدار أدوات دين جديدة من الصكوك المحلية والسندات متغيرة العائد . وحصر الاقتراض الخارجي على التمويلات الميسرة ذات الفوائد المخفضة.
وتستهدف الاستراتيجية خفض تكلفة الفوائد عبر توجيه جزء من حصيلة بيع الأصول الحكومية لسداد الديون وتخصيص 50 في المائة من إيرادات حقوق الانتفاع لصالح وزارة المالية مما يعزز جهود تقليل الديون ومن الأهداف الواضحة تحويل الديون إلى استثمارات من خلال الاستفادة من نماذج تمويلية مبتكرة مثال صفقة رأس الحكمة التى قلصت الدين الخارجي واستبداله باستثمارات منتجة.
وهناك تحول جوهرى في إدارة سياسة الاقتراض من خلال تغير جوهرى، حيث تم تقليل الاعتماد على القروض الخارجية المكلفة والتركيز على موارد أكثر استدامة، ولقد بدأت هذه السياسة تؤتى ثمارها مع انخفاض الدين الخارجي والمحلى في النصف الأول من عام 2024 ، والإعلان مع بدايات عام 2025 عن استراتيجية جديدة لإدارة الدين العام المصري وإذا تمت هذه الاستراتيجية بخطط ذات فاعلية ثابتة فإنها تحقق الاستقرار المالى وتخفف العبء عن الموازنة العامة وتعزز قدرتها على تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وإذا كان هناك برنامج عمل قابل للتنفيذ فلابد من اتباع استراتيجية لإدارة الدين العام ليس في مصر فقط؛ وإنما في كل المنطقة العربية التي تعانى بفعل الظروف والتداعيات واتساع مسارح النزاعات ويأتي على أولها تحسين حافظات الديون، وكذا تعزيز كفاءة أطر الإيرادات والنفقات العامة، وزيادة استخدام آليات التمويل المبتكرة وأطر التمويل المستدام .
والسؤال العالق دوماً هل نمتلك أدوات صياغة مستقبل الدين العام؟ والإجابة القطعية، نعم، فهناك شحنة دلالية على القدرة المؤسسية على أداة الديون مع تحسين السيولة والتمويل الميسر من خلال الإصلاح المالي مع تشجيع أدوات التمويل المبتكر الحقيقي وأن تكون هناك إجابة تنم عن الفهم الحقيقي لطبيعة المشكلة بتحسين كفاءة النفسية للموارد المحلية لتحقيق أقصى عائد من الإيرادات كذلك تحسين كفاءة الإنفاق العام لزيادة فاعلية الإنفاق باعتبار أنه المفصلة الأولى .
لا شك أن الدين العام يتأرجح صعوداً وهبوطاً خلال هذه الفترة طبقاً لقوة الدولار بعد تولى الرئيس الأمريكي ومعاناة الأسواق المالية في دول العالم من زيادة قبضة الدولار لذلك خطة الخفض التي تستهدف حوالى 85 في المائة من الناتج المحلى الإجمالي، وهناك أسباب فصلية للارتفاع تمثل فيها الديون قصيرة الأجل 8.1 تريليون جنيه من الديون المحلية لمصر في حين تراجعت الديون المتوسطة الأجل نحو 1.7 في المائة لتصل إلى 271.4 مليار جنيه وزادت الديون متوسطة الأجل نحو 1.3 في المائة إلى 1.13 في المائة تريليون جنيه .
ولقد سددت مصر أكثر مما اقترضت خلال الفترة الماضية؛ لكن ذلك لم ينعكس على تقييم الدين الخارجي نتيجة انخفاض الدولار مقابل العملات الأخرى في تلك الفترة وارتفاعه أمام الجنيه محلياً لذلك ظل الدين عند 79 مليار دولار رغم سداد 3 مليارات دولار واقتراض 1.8 مليار دولار والأمر مفهوم ببساطة فقد زادت قوة الدولار أمام العملات الأخرى التي تمثل نحو 33.8 في المائة من دين مصر الخارجي مما يشير إلى ظروف مواتية أكثر لخفض أعباء الديون الخارجية.
والأهم توصيف الحالة الاقتصادية ووضع مؤشر للقياس يعتمد على شراء المستقبل بدولاب العمل الاستثمارى والتدفقات وحالة التسعير الصحيحة بقوة لخفض عجز الموازنة ودعم الاحتياطي النقدى ومرونة التفرقة بين الإصلاح والإنقاذ والاستقامة الهيكلية التى تعزز الاقتصاد الوطني وإدارة الدين العام واحترافية فلسنا وحدنا فى هذه المرحلة؛ ولكن الأهم كيف نضع أقدامنا على الخريطة الاقتصادية العالمية وحالة التسعير والتوترات التى تضغط على كل العالم.


