إصلاح المنظومة الضريبية.. قراءة تحليلية لمقترح المساهمة الموحدة
بقلم: د. محمد فؤاد
تابعت حالة الاحتفاء التى رافقت قرار استبدال الرسوم المتعددة التى تفرضها الجهات الحكومية المختلفة على المستثمرين بضريبة موحدة تُحتسب على صافى الأرباح، والتى يبدو أنها تأتى ضمن مسار طموح لتحسين بيئة الاستثمار ودعم كفاءة الإدارة المالية، وتفتح الباب واسعًا أمام استراتيجية شاملة لإعادة هيكلة النظام الضريبى من خلال مقترحات عدة، يبرز وسطها تطبيق «مساهمة موحدة» كبديل واعد عن تعدد الرسوم والضرائب شبه الضريبية المطبقة فى الواقع الحالي.
هذا الواقع الذى تبدو ملامحه وكأنه لوحة معقدة، حيث تشير البيانات الرسمية والفنية إلى أن المنظومة الراهنة تتضمن فرض أكثر من 2400 رسم متنوع من جانب نحو 80 جهة حكومية مختلفة. ورغم هذا العدد الهائل من الرسوم، الذى يوفر إيرادات سنوية تقارب 30 مليار جنيه مصرى (أى أقل من 1% من الناتج المحلى الإجمالي)، إلا أن الحصيلة لا تبدو متناسبة مع الأعباء الإدارية المصاحبة لها، سواء من حيث التكلفة الزمنية أو المالية التى يتحملها المستثمرون والشركات.
ففى المتوسط، يجد المستثمر نفسه مضطرًا للتعامل مع أكثر من 75 إجراءً ماليًا سنويًا موزعة على عشرات الجهات، مما يؤدى إلى استنزاف نحو 180 يوم عمل فى السنة فقط للوفاء بالالتزامات المالية غير الإنتاجية، وهو ما ينعكس بطبيعة الحال فى تآكل الإنتاجية وزيادة تكاليف ممارسة الأعمال مقارنة بالمستويات السائدة فى الأسواق المنافسة.
وإلى جانب ذلك، تفتقر نسبة كبيرة من الرسوم إلى الأساس القانونى الصريح، إذ يتم فرضها بموجب تعليمات أو قرارات تنظيمية، ما يفاقم من حالة الغموض ويقوض القدرة على التخطيط المالي، سواء بالنسبة للدولة أو للقطاع الخاص. وهو واقع لا يمكن تجاهله فى ظل الحاجة الماسة إلى إعادة ضبط هذا المشهد بما يعزز تنافسية بيئة الأعمال، ويواكب حجم التحديات الاقتصادية المتزايدة على المستويين المحلى والعالمى.
جوهر مقترح المساهمة الموحدة
يقوم مقترح «المساهمة الموحدة» على أساس استبدال الرسوم المتفرقة بمساهمة موحدة تُفرض كنسبة من صافى الأرباح، يتم تحصيلها من خلال جهة مركزية، مع توزيع العائدات لاحقًا على الجهات الحكومية المختلفة وفق معادلات يتم الاتفاق عليها سلفًا.
وعلى المستوى الاقتصادي، يستهدف هذا النظام تحقيق عدالة مالية أكبر، حيث ترتبط المساهمة بقدرة الكيان الاقتصادى الحقيقية، لا بمجرد نشاطه أو ترخيصه. كما يهدف إلى تبسيط الإجراءات وتقليص التكاليف الإدارية غير الضرورية، بما يساعد المستثمرين، وقد يحسن من ترتيب مصر على مؤشرات سهولة ممارسة الأعمال بمرور الوقت.
لكن الإشكالية تكمن فى أن فعالية هذا النظام – حال تطبيقه – تعتمد بشكل رئيسى على دقة التنفيذ، وشفافية معايير توزيع الحصيلة، ومدى القدرة على معالجة التفاوتات القائمة بين القطاعات الاقتصادية المختلفة، بجانب بعض المخاطر والتحديات التى ينبغى الانتباه لها مسبقًا ومحاولة تجنبها.
على سبيل المثال، من الناحية القانونية، يستلزم التحول إلى نظام موحد إعادة تعريف دقيقة للفوارق بين الرسوم والضرائب؛ فالرسوم عادةً ما تكون مقابل خدمات مباشرة، بينما تُفرض الضرائب لتحقيق مصلحة عامة دون مقابل محدد.. وهو ما يعنى أن الدمج غير المحسوب قد يفتح المجال أمام طعون قانونية تهدد استقرار المنظومة الجديدة.
كما أن نظام المساهمة الموحدة يرتبط بدخل الشركات وأرباحها، مما يجعله عرضة للتذبذب مع الدورات الاقتصادية؛ ففى حالات التباطؤ أو الركود قد تنخفض الحصيلة بشكل ملحوظ، مما قد يضغط على قدرة الجهات الحكومية على تمويل أنشطتها التشغيلية والخدمية حال تراجع الإيرادات عن المستهدف.
أضف إلى ذلك أن مسألة توزيع الحصيلة بين الجهات المستفيدة ستطرح تحديًا مؤسسيًا حقيقيًا، بالنظر إلى واقع التنسيق المؤسسى القائم. إذ قد تشعر بعض الكيانات التى كانت تعتمد على رسوم مباشرة بأنها فقدت جزءًا من استقلالها المالي، مما قد يخلق مقاومة مؤسسية صامتة أو ظاهرة، خاصة فى ظل غياب آلية توزيع شفافة ومستقرة.
أيضًا هناك تحدٍ آخر يتعلق بتوفير البنية التحتية اللازمة لتحصيل المساهمة الموحدة وإدارة توزيعها، خاصة أنها تتطلب استثمارات ضخمة فى الأنظمة الإلكترونية، وربط قواعد بيانات مالية دقيقة، وتدريب كوادر قادرة على إدارة النظام بكفاءة؛ وهو ما قد لا يتوفر بالكامل على المدى القصير.
كما يجب العمل على دراسة تأثير النظام الجديد على القطاعات المختلفة بشكل مسبق، وخاصة القطاعات ذات الربحية المنخفضة، التى قد تستفيد من خفض العبء المالي، فى مقابل قطاعات أخرى قد تواجه زيادة فى الالتزامات، خاصة تلك التى كانت تتمتع برسوم ثابتة منخفضة مقارنة بصافى أرباحها الحقيقية.. وهو تفاوت يستدعى دراسة دقيقة لتفادى خلق آثار جانبية غير مقصودة على هيكل القطاعات الاقتصادية.
التقييم العام للمقترح
رغم التحديات التى تم استعراضها، فإن مقترح المساهمة الموحدة يجب أن يُعد خطوة ضمن حزمة أوسع من الإصلاحات المالية والإدارية التى تسعى الدولة إلى تنفيذها.. وعلى الرغم من كونه يمثل نقلة نوعية محتملة نحو تبسيط بيئة الأعمال، إلا أن تحقيق أهدافه يتطلب تصميمًا قانونيًا دقيقًا، واستعدادًا مؤسسيًا عالى المستوى، وإدارة انتقالية مرنة تراعى حساسية التوقيت والأثر الاقتصادى عبر مختلف الفئات.
وعليه، سيظل تقييم هذا المقترح مرتبطًا بمدى نجاحه فى تجنب المخاطر المحيطة به، وليس بمجرد صياغة أهدافه النظرية؛ حيث إن المعيار الحقيقى لنجاحه يكمن فى قدرة النظام الجديد على تحقيق توازن دقيق بين تبسيط الإجراءات، وضمان العدالة الضريبية، واستدامة الإيرادات العامة، دون إحداث صدمات سلبية للأنشطة الاقتصادية القائمة.
ختامًا
يمثل مقترح «المساهمة الموحدة» فرصة حقيقية لإحداث نقلة نوعية فى بيئة الاستثمار عبر تبسيط الإجراءات وتعزيز العدالة المالية والضريبية.. غير أن تحقيق هذه الأهداف الطموحة يظل رهينًا بمدى دقة الإعداد، وحُسن التنفيذ، ومدى قدرة الدولة على بناء منظومة إدارية وتشريعية مرنة وشفافة قادرة على استيعاب هذا التحول بسلاسة، حتى تصبح هذه الفكرة ركيزة أساسية فى مسار الإصلاح الاقتصادى الشامل، لا سببًا إضافيًا لإرباك المشهد وتعقيده.

