أن تشعر ذات يوم بعلامات نضجك تدب بك، تحسها تسري في شرايين عقلك، ترى عمق جذورها وهو يضرب الأرض من تحتك، يتمدد بباطنها ويتشعب، أن يتسع صدرك دون علم منك أو اختيار، لتجد نفسك تتقبل كل نقد بناء يختلف كليًا وجزئيًا معها، تقبل بفكرة كان من المستحيل القبول بها، أن تعمل بنصيحة ستعدل من بعدها أغلب أفكارك، ستبعث بنسختك الحديثة، تقرر أن تمسك بنقاط ضعفك، ثم تنسفها بيديك نسفًا.
أن تبحث جاهدًا عن صورة خالية من رتوش، صورة حقيقية من واقعية تليق بك، أن تنزل على رأي غيرك ما دمت تحس أنه نابع من رغبة حقيقية في تطويرك فتقبل بتعديل مسارك، تتبنى نفسك اتجاهات جديدة، تخضع لمعايير أخرى لم تعهدها، تكسر بها تمردك، إنه أمر يحسب لك، يرفعك، يعزز مكانتك ويعلي من قدرك.
أن تؤمن بمنهاج جديد، تعتنقه راضيًا به ومقتنعًا، طريق لم تعتد السير فيه وأنت تمر بسنوات شبابك، سنوات كنت تصر فيها على رأيك بمبالغتك في حجم نفسك، برعونتك وتعنتك، كأنك قد ملكت العلم كله، عثرت على كنز زائف تغطيه قشور من الوهم وتملؤه قلة الخبرة.
ربما دفع بك هذا التفكير المحدود حينها لخسارة أناس تجرأوا في لحظة على معارضتك، كنت ترفض نصائحهم سعيدًا، كأنه انتصار وثأر لنفسك.
لكنك اليوم تغيرت، اتصفت بالحلم نفسك، اتسع صدرك حين آمنت بأن تعثرك لا يعني بالضرورة فنائك، أدركت أن كل إخفاق سيزيدك معرفة وخبرة، لم يعد نقد أفكارك يخيفك أو يربكك، فأنت تعلمت أن هناك أناس غيرك في هذا العالم فاقوك علمًا وخبرة.
كنت في الماضي أظن بأن النصيحة المقدمة إلى في صورة نقد هى قيد من حديد يكبلني، وبأن من يخالفني الرأي في أمر هو الأكثر عداء لي، إنها إحدى سمات سن المراهقة، مراهقة فكرية تترجم تحيزي لفكرة ما، لوجهة نظر يكسوها التشدد، وتعقبها ساعات طويلة من جدل وسفسطة.
عد معي الآن بذاكرتك، تذكر معي تلك اللحظة التي وقفت فيها رافضًا لكل نصيحة مباشرة أو غير مباشرة، كنت تدك الأرض من تحت قدميك، كأنك ملكت العالم، راجع معي رحلة سنوات عنادك السابقة التي أبقتك في مكانك كما أنت، سنوات عاندت فيها نفسك رافضًا لأي تغيير في مسارك، لكنك نجحت يوم أن حطمت غرورك، وبنيت بالتواضع ذاتك.
لن نكتشف أنفسنا إن ملأنا العناد، إن سمحنا له أن يحركنا، إن تركناه يرغمنا على وضع قائم لا يقبل بتطوير لأداء ولا اكتساب لخبرة، سيبقى تقدمنا للأمام مرهونًا بمرونتنا، بقبولنا لمنطق يخالف منطقنا أحيانًا، نعترف بخطئنا، ومن منا معصوم من الخطأ؟