رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الدراما التليفزيونية.. أمن قومي

10-5-2025 | 14:31


سمير الجمل

سمير الجمل

عندما صدر كتابي (فن الأدب التليفزيوني) عام 1992، انقسم الوسط الفني والأدبي إلى فريقين، أولهما يؤيد المصطلح ويعتبره مناسبا لدخول عصر الصورة فى ظل تراجع القراءة، والفريق الثاني يرى أن الأدب فقط هو المكتوب، على رأس من تحمسوا للمصطلح الأديب الكبير عبدالله الطوخى وكتب فى ذلك مقالا بعنوان (غروب الأدب)، وترأس الأديب الكبير جمال الغيطانى الفريق المعارض والذى يرى الأدب فقط فى المكتوب وليس فى المرئي وبعد أن أصدر الكاتب والمفكر جابر عصفور كتابه الشهير (زمن الرواية)، وكيف أنها أزاحت الشعر من مكانه لتصبح هى ديوان العرب، عندها كتبت مقالا فى مجلة العربي الكويتية حيث كتب مقاله الذى أصبح فيما بعد كتابا وجاء مقالى بعنوان «عفوا هذا الزمن» الرواية التليفزيونية وهى ديوان العرب الشعبى حتى لمن لا يقرأ ولا يكتب واستندت إلى انتشار وشهرة كبار كتاب الرواية والقصة عندما تحولت أعمالهم إلى أفلام ومسلسلات.

وقلت إن نجومية المؤلف الدرامى التليفزيونى انطلقت غالبا من المنابع الأدبية التى جاء منها العدد الأكبر منهم، فقد كتبوا القصة والمسرح والرواية والمسلسل الإذاعى، وكلها روافد تدعم مكانة كاتب السيناريو، وكان الأدباء الأوائل للدراما الذين بدأوا مع انطلاق الإرسال (يوليو 1960)، قد عملوا في ظروف صعبة للغاية وإمكانات بسيطة تعتمد على ديكور داخلى محدود، وكانت الحكومة، تضع أجهزة التليفزيون (14 بوصة) في الحدائق العامة لكى تتابع الجماهير الأخبار والدراما (الساقية، الضحية، هارب من الأيام، بنت الحتة)، (القاهرة والناس)، ولمعت أسماء مصطفى كامل، جلال الغزالى، عاصم توفيق، فيصل ندا، عصام الجمبلاطى، كرم النجار، لكن النجومية الحقيقية للمؤلف، ترتبط باسم أسامة أنور عكاشة، وتحديدا في مسلسل الشهد والدموع، وكانت الانطلاقة الكبرى مع رئاسة ممدوح الليثى لقطاع الإنتاج وامتد تأثير الدراما المصرية، إلى العالم العربى، فقد اتسم الإنتاج في هذا التوقيت بالعمق، وربط التاريخ بالواقع، والغوص في هموم الناس والتطلع إلى الأمام بأعمال ما تزال راسخة في ذهن المشاهد العربى حتى وقتنا هذا، ليالى الحلمية، بوابة الحلوانى، الفرسان، الراية البيضاء، الأصدقاء، المال والبنون، حلم الجنوبى، عمر بن عبدالعزيز، هارون الرشيد وغيرها.

قراءة رشيدة

لم تكن الأعمال التى حملت أسماء محمد جلال عبدالقوى، محفوظ عبدالرحمن، محمد صفاء عامر، بشير الديك، يسرى الجندى، كرم النجار، فتحية العسال، عاطف بشاى، محمد أبوالعلا السلامونى، محمد السيد عيد، وفى مقدمة هؤلاء وحيد حامد.

لم تكن هذه الأعمال مجرد مسلسلات للتسلية فقط، بل إنها رفعت مستوى الوعى عند المواطن بكل ما يدور حوله في الماضى والحاضر والمستقبل، وعندما داهم الإرهاب الأسود قلب الوطن في التسعينيات سرعان ما قدمت الدراما أعمالا ناقشت الموضوع من جذوره، وبالمثل تصدى وحيد حامد للفتنة التى حاولت الفصل بين أبناء الوطن الواحد (مسلم ومسيحى)، (أوان الورد)، وهو ما لم تعرفه مصر عبر تاريخها القديم والحديث، ودخل الإنتاج المشترك لكى يوسع دائرة الوعى إلى المحيط العربى.

الأمن القومى ترصده الدراما بما تقدمه من أعمال ترفع نسبة الوعى عند المواطن بالأخطار التى تحيط بالبلاد داخليا وخارجيا وكيفية التعامل معها والتصدى لها بأن يدرك المواطن البسيط دوره المهم في الحفاظ على تماسك البلاد وتقدمها وقدرتها على المواجهة.

والقيادة السياسية تؤكد في كل مناسبة على أن وعى الشعب هو أقوى الأسلحة في مواجهة كل المخاطر وتحقيق أصعب الطموحات وعندما تتنوع الأعمال بين الاجتماعى والدينى والتاريخى فإنها تساهم بقوة وبما لها من تأثير بالغ في إعادة ترتيب البيوت نفسيا واجتماعيا، وعندما تستقيم الأسرة الصغيرة وتستقر حياتها، ينعكس هذا على الأسرة الكبيرة، فما هو الوطن إلا أنا وأنت.

المدرسة والعيال

الفن يؤثر في الناس، ولو أن كاتب الدراما يأخذ من الناس، وليست مهمة الفن إعادة تقديم ما ينتجه الشارع، لأن دوره الحقيقى، إعادة صياغة الواقع بنشر قيم المحبة والتسامح والجمال والعدل والارتقاء بالذوق العام، وليس بإشاعة منطق البلطجة والجبروت وتمجيد تجار المخدرات والآثار وكبار اللصوص وتجميلهم تحت مسمى الأكشن، فهذه دراما تلعب نفس دور المخدرات في تغييب العقل، وهى تأتى على غرار أغانى المهرجانات، ويمكن أن نسميها أيضا (دراما التوك توك)، والدراما الحقيقية تنادى "غفاة البشر". كما قال الشاعر محمد إقبال في رائعة أم كلثوم "حديث الروح"، حتى نلحق بركب الحضارة ولا نصبح أمة على هامش العالم يسمونها النامية أو المتخلفة ونحن أصل الحضارة الإنسانية وفجر ضميرها والعمل الفنى يشعل الاعتزاز بالوطن ويشحن بطاريات الوعى، ويربط بين الأصالة والمعاصرة وحياة الأمم تدوم بدوام إبداعها وبقدر معرفتها وقد قال الشاعر :

رأيت العز في أدب وعقل

وفى الجهل المذلة والهوان

وعندما تتراجع القراءة عند أمة اقرأ، يصبح المرئى والمسموع هو البديل لكى نأخذ بأيدى هؤلاء ونحولهم من كم مهمل معدوم إلى قيمة مضافة فاعلة ومنتجة.

فاقد الشيء

أزمة الدراما في السنوات الأخيرة هى المؤلف المثقف الوطنى لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وعندما ظهرت موجة ما يسمى بالورش، تدهورت أحوالنا الدرامية، وما يصلح لعمل كوميدى (ست كوم)، لا يليق برواية تليفزيونية لا يقدر عليها إلا من امتلك زمام الإبداع بحق، بتراكم المعرفة والخبرة والبحث.

فى ورشة جبريل ماركيز أديب نوبل الشهير، يفكرون كمجموعة تضم حوالى 15 عضوا تقريبا، لكن الصياغة النهائية لكاتب واحد حتى يخرج السيناريو منسجما.

فى الورشة أعمار وثقافات وقدرات مختلفة، كيف لها أن تجتمع حول فكرة واحدة، فما يقتنع به أحدهم يرفضه غيره وهذا حقه، لكنهم رغبة في الحضور، يحولون إلى قطيع يديره صاحب الليلة الذى يلطع اسمه الشريف على النص ويأخذ النصيب الأكبر من البيعة ويترك لهم الفتات المادى والمعنوى، وترى أحدهم وقد ظهر اسمه على عدة أعمال في موسم واحد، وهو ما لا يقبله العقل ولا المنطق، وما يصلح في ورش إنتاج الملابس والأدوات المنزلية لا يصلح مع الدراما، وهى تخاطب الوجدان وتأخذ المتفرج إلى الأرقى والأفضل والأجمل.

وعندما يسترد المؤلف الجيد مكانته، ستعود الدراما إلى أصالتها وتألقها ورواياتها ودورها الكبير في تدعيم أواصر الأمن الاجتماعى والوطنى والدينى، عندما نصالح من خلالها أنفسنا، على بعضها البعض وعلى الدنيا من حولنا، وأن نشعر كأمة عربية بأننا قد خرجنا من دائرة الكومبارس في هذا العالم إلى مصاف النجوم.