رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


دوامة فتاوى غير المؤهلين

15-5-2025 | 19:45


د.هدى درويش رئيس قسم الأديان المقارنة بجامعة الزقازيق

بقلم: د. هدى درويش

تعد الفتوى من أخطر الأمور التى ينبغى تنظيمها ولا شك أن الفتوى فى الإسلام لها مكانة كبيرة، فالمفتون هم موقعون عن الله فيما يقولون، وبالتالى عليهم أن يلتزموا بضوابط هذه الأمانة الموكلة إليهم، وقد حدد الدستور الهيئات المنوط بها أمر الفتوى فى مصر ومرجعية الإفتاء فى هيئة كبار العلماء ومجمع البحوث ودار الإفتاء، ومن هنا ينبغى تأهيل كل من يتصدر للإفتاء لأن الفتوى علم قائم بذاته، ومثلها مثل العلوم كلها، فلكل علم قواعده وأصوله، إذ لا يعقل أن يقحم شخص نفسه فى علم الطب، أو الصيدلة، أو الهندسة، أو الرياضيات، دون أن يكون لديه إلمام بقواعد تلك العلوم ومباحثها، ومصطلحاتها، ومفاهيمها، وأصولها، وفروعها، ولا نجد مخالفًا فى إقرار هذا الحق لكل علم من العلوم المذكورة.

لكن الغرابة تبدو جلية حين نجد السماح باقتحام حصون الفتوى من غير أهلها، وقبول ذلك من فاعليه، وكأن من حق أى شخص أو فئة الإفتاء دون التقيد بأية مرجعية أو معيار، وفى هذا تعسف واضح، وللأسف فإن بعض الناس يبدو أنهم يتجاهلون هذا التجنى رغم وضوحه، بدليل أنهم يحاجون بسفاسف الفتاوى وشواذها، ولو ردوا الفتاوى إلى أولى الأمر من العلماء لعرفوا الحقيقة دون مواربة، كما أن وظيفة المفتى تتلخص فى بيان الحكم الشرعى فى مسألة من المسائل، أو فى أمر من الأمور، ويقتضيه هذا العلم بالقرآن الكريم، والسنة النبوية، وفتاوى سلف العلماء وخلفهم، فيما يخص المسألة التى يفتى فيها، على أقل تقدير، كما لا بد له من الإحاطة الواعية بالظروف والبيئة المحيطة بحال السائل ومسألته، وينبغى للمفتى كذلك أن تكون له قدرة على تحليل المواقف، وربطها بالأحكام الشرعية.

 

إن المجتمعات المسلمة تعانى من فوضى الفتاوى بسبب الثورة الرقمية، ولأن الأزهر لا يعرف سوى الفتوى المنضبطة فقد أنشأ الأزهر هيئتين كبيرتين تصدر عنهما الفتاوى (هيئة كبار العلماء- مجمع البحوث الإسلامية)، حيث يضم مجمع البحوث خيرة العلماء لا من الأزهر وحده ولا من مصر وحدها لكن من العالم الاسلامى أجمع، حيث يتكون من خمسين عضواً، 20 فى المائة من خارج مصر و80 فى المائة من داخل مصر، فالتكوين العلمى لمجمع البحوث الإسلامية فيه علماء فى الطب والاقتصاد والقانون واللغة العربية والشريعة والعقيدة والحديث والتفسير وغيرها، وعندما يستجد أمر يجتمع هؤلاء بحسب القضية المنظورة وتتكون اللجنة الكبرى للنظر فى الأمر المستجد المستحدث، نعيش الآن فى عصر الاجتهاد الجمعى وليس فى عصر الاجتهاد الفردى وذلك نتيجة التطور، فتخرج الفتوى منضبطة بضوابط الشرع بلا إفراط أو تفريط، فالتحديات التى تواجه أمتنا اليوم كبيرة، والاجتراء على الفتوى والافتئات على الشرع خطر كبير، وعلاج هذا الواقع لا يكون بالتحذير منه فقط بل برسم خطة واضحة من الإصلاح الفكرى، ولا نستطيع أن نعزل الشذوذ الذى أصاب جسم كثير من الفتاوى عن الواقع.

ولعل مما أتذكر ما سمعته من فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر فى أحد المؤتمرات أنه قال: إن مراعاة الفتوى الصحيحة هى العاصمة من الترخص الذميم والتحلل من ربقة الدين، وصناعة الفتوى السليمة هى الكفيلة بترغيب الناس فى الالتزام بالشرع الحنيف، وعلى المُفتِينَ أن يجدِّدوا النظر فى تولى المرأة القضاء، والتحرُّج والتأثم هما مفترق طريق تضل فيه الفتوى بين طرفى الإفراط والتفريط، مع وجود النص القاطع الصريح فى الشريعة لا نظر ولا تجديد وإنما التسليم لله والرسول، والتساهل فى فتاوى التكفير والتفسيق والتبديع يؤدى إلى استحلال الدماء المعصومة.

 

إننا فى أشد الحاجة إلى تعاون ينظم الفتوى من أجل أن لا يتصدى للفتوى أحد من غير أهلها، فلا يفتى إلا المتخصص فى أمر الفقه والشريعة أو الذى يحصل على رخصة للفتوى بعد عقد الاختبارات اللازمة للتأكد من كونه مؤهلًا أو غير مؤهل، فكما أن الطبيب لا يستطيع فتح عيادة متخصصة؛ إلا بعد إصدار التراخيص اللازمة كذلك من يتصدى للفتوى ينبغى عليه الحصول على شهادة إجازة الفتوى، فأمر الفتوى لا يتعلق بمجرد معرفة الحكم الشرعى فيجعل العارف به صالحًا لأن يفتى الخلق ويخبرهم عن مراد الله منهم؛ لأن الفتوى فيها قدر زائد على مجرد معرفة الحكم الشرعى، وهذا القدر الزائد هو الواقع المتعلق بالمستفتى، أو بواقعة السؤال، فليس كل شخص يقوم بالفتى ولكن لا بد أن يؤهل أولا فى الأزهر الشريف ودار الإفتاء، وتكون هناك ضوابط صارمة حتى نخرج من دوامة الفتاوى الشاذة التى تطل على الناس كل يوم، وحتى نعيد الانضباط إلى المجتمع، لأن الفتوى لا بد من أن تراعى ظروف المستفتين وأحوالهم، وما يتعلق بها من اختيار واضطرار، وصغر وكبر، وسفر وإقامة، وقوة وضعف، وضيق وسعة، وذكورة وأنوثة، وزمان ومكان وغير ذلك، لأنه من الواجب على من يفتى أن يُحسن فقه النصوص، ويردَّ الفروع إلى الأصول، وينظر بعين البصيرة إلى أهمية المقاصد ويطبقها، ويُحسن فهم الواقع، حتى يستطيع إصدار الفتوى المنضبطة التى تسهم فى حماية المجتمعات وحفظها من الوصول إلى مرحلة الغلو والتطرف.