رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


قراءة في كتاب «زعماء دولة التلاوة» للمؤرخ والكاتب محمد الشافعي

28-5-2025 | 21:52


زكريا صبح,

يقول الله فى كتابه الكريم (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) سورة الحجر، ولا شك أن وسائل الحفظ مختلفة وربما كان من بينها هذا الكتاب الماتع فى موضوعه والممتع فى أسلوبه، أعلم أن سؤالا يدور برأس القارئ الآن مؤداه: كيف يكون كتاب زعماء دولة التلاوة وسيلة من وسائل حفظ القرآن؟ والإجابة سهلة ميسورة، أليس الكتاب عن التلاوة؟  أليس الكتاب عن زعماء التلاوة فى مصر والعالم العربي بل والعالم اجمع؟
أظنك تقول: نعم..

وأنا بدوري أقول: إن كتابا جعل موضوعه زعماء تلاوة القرآن هو كتاب يلفتنا ويأخذ بأيدينا إلى إعادة معرفة هؤلاء البشر الذين من الله عليهم بنعمة تلاوة كتابه، ومنحهم شرف حفظ كلماته، ووهبهم حناجر ذهبية، بها يتلون كتابه فتخشع لهم الآذان وتنصت لهم القلوب، وتسبح معهم العقول فى جمال تصوير المعانى وتجسيد الحروف والكلمات فتحيل المستمعين الى عشاق لكتاب الله بل وقد تجذب بعض المعرضين عنه إليه مرة أخرى بل قد تنقل بعض الذين كانوا خارج دائرة الإيمان بالله إلى الإيمان به والتصديق بكتبه ورسله  فإذا لم يكن هذا كله من وسائل حفظ الله لكتابه فماذا؟

وقد قال الله فى محكم التنزيل (وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين) والتذكرة لا تكون أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر فقط، ولا تكون حضا على إقامة صلاة أو أداء صيام أو زكاة، بل التذكرة أيضا قد تكون بمناقب أناس خدموا الدين ورفعوا رايته عالية خفاقة، وأظن أن هذا الكتاب ليس إلا تذكيرا بأناس امتن الله عليهم ويسر لهم حفظ كتابه وألهمهم ترتيله وتجويده، نعم هو تذكير بهم وتكريم لهم فى أن فليس جديدا أن يكتب كاتب عن هذا الرعيل الأول الذى أنشا دولة للتلاوة وجعل لها شعبا وحكاما، وصاروا لها قادة وزعماء، ولكن لن يمل المرء أبدا من كتب كهذه الكتب، لأسباب: 

أولها: أن لكل كاتب أسلوبه المميز فى عرض سيرة هؤلاء الأفذاذ 
ثانيا: أن لكل كاتب منهجا يسير وفقه لمعالجة تاريخ هؤلاء الزعماء 
ثالثا: أن لكل كاتب أسبابه الخاصة فى اختيار بعض هؤلاء الأعلام دون غيرهم 
رابعا: أن كل كتاب يضيف إلى غيره ما قصر فيه أو تغافل أو تناسه كاتب سابق 

إذن فالمحصلة أن هذا الموضوع لا يمل القارئ من مطالعته ولا يمل الكاتب من تدوينه، لأنه فى الأخير ليس إلا من باب (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)

فما بالنا إذا جاء الكتاب ماتعًا في موضوعه، ممتعًا في أسلوبه؟

أما عن موضوعه، فقد صادف هوى لدى كاتبه، وصادف الهوى ذاته لدى قارئه، من حيث إن القلوب تهفو للاستماع إلى القرآن، أو الحديث عنه، أو عن الذين يتلونه حق تلاوته.
وقد حرص الكاتب أن يقتصر في كتابه على خمسة عشر قارئًا من أكابر القراء الأفذاذ، وحسنًا فعل أن اقتصر على هذا العدد، لئلا يكون الكتاب متخمًا بالشخصيات، ومن ثم قد يتوه القارئ في دروبهم، ويلتبس عليه ألقابهم وسير حياتهم.

إذن، فقد جاء الكتاب يذكّرنا بخمسة عشر فنانًا ومبدعًا في فنون التلاوة، ترتيلًا وتجويدًا، بدأ بكبير القوم مقامًا وإبداعًا وتأثيرًا في نفوس مستمعيه على مر العصور، وهو "قيثارة السماء" كما لقبه الكثيرون، أو "قيثارة الفردوس"، الشيخ الجليل محمد رفعت، وانتهى بأقرب الراحلين عن عالمنا، الشيخ محمد محمود الطبلاوي، الذي ظل رافضًا أن يتعلم الموسيقى والمقامات الموسيقية اللحنية، مدافعًا عن موقفه ذلك، قائلًا: "إن القرآن هو مصدر الموسيقى." وقد كلفه ذلك أن رفضته الإذاعة تسع مرات لإخفاقه في امتحان الموسيقى.

وبين الأول والأخير حلق بنا في سماوات الإبداع وفن التلاوة عند كل من: الشيخ علي محمود، الشيخ طه الفشني، عبد الفتاح الشعشاعي، أبو العينين شعيشع، مصطفى إسماعيل، كامل يوسف البهتيمي، عبد العظيم زاهر، عبد العزيز علي فرج، محمد صديق المنشاوي، محمود خليل الحصري، محمود علي البنا، عبد الباسط عبد الصمد، محمد عمران.

كل هؤلاء حلقوا بنا في سماء إبداعهم، أعادوا إلى الأذهان سيرتهم، وعرّج الكاتب فيها على أهم محطات حياتهم منذ الميلاد حتى الانتقال إلى الرفيق الأعلى.

الكتاب يقع في تسع وستين بعد المائة صفحة، خصص لكل قارئ منها عددًا غير متساوٍ من الصفحات، حسب دراما الحياة التي مرّ بها القارئ.

حرص الكاتب أن يفتتح سرده وعرضه للشخصيات بمقدمة أقرب ما تكون إلى الشعر، معبرًا بها عن افتتانه بهؤلاء القراء.

ولذا ليس غريبًا أن يبدأ أحد فصول الكتاب بهذا المقطع (السرد شعري) أو (الشعر سردي):

يقول متحدثًا عن الشيخ مصطفى إسماعيل:"صوت شجي، تتوالد من ذبذباته الآلاف من أجنحة النور الخاشع، تحلق بها أفئدة سامعيه إلى سماوات من الوجد والصبابة."

ويقول في مستهل حديثه عن الشيخ عبد العزيز علي فرج: "شموخ خاشع، وخشوع شامخ، قوة رقيقة، ورقة قوية، امتطى صهوة المقامات، فأسلمت النغمات السحرية قيادها إلى حنجرته الذهبية... إلخ"

وعلى هذا النحو سار الكاتب، معبرًا عن فتنته التي جسّدها في كلمات شعرية، كي تهز القارئ هزًّا، وتعيده إلى ذكريات طيبة، ومن ثم تبتهج الأرواح وتسعد.

حرص الكاتب أن ينفلت من الشكل التقليدي للحديث عن السير الذاتية، أو بالأحرى السير الغيرية، حاول أن يرسم البورتريهات الشخصية بلغة شعرية، متحاشيًا الوقوع في نمطية الحديث عن الشخصيات التاريخية.
هو لم يكن معنيًّا بتفاصيل حياة أصحاب المعالي السادة قراء القرآن، قدر حرصه على الوقوف أمام المحطات الرئيسة في حياتهم، والتي غيّرت مساراتهم ليصبحوا أعلامًا ونجومًا، لأيٍّ منهم استمعنا استمتعنا، وشُفيت أرواحنا وهامت في سماء القرآن.

وربما يكون من المفيد لفت الأنظار إلى الآتي:

١- كفّ البصر لبعض هؤلاء السادة لم يكن عائقًا لحفظهم كتاب الله وإجادة تلاوته.
الشيخ محمد رفعت، والشيخ علي محمود، والشيخ محمد عمران كانوا نماذج يُحتذى بها.

٢- حرص الأهل أن يهبوا بعض أولادهم لخدمة القرآن والانتباه لمواهبهم مبكرًا، وهذا لَعَمْري درس لكل أسرة.

٣- دور الكتاتيب بالغ الأثر في حياة هؤلاء العظماء. فلن تجد واحدًا منهم أخطأ طريقه إلى الكُتّاب.

٤- دور الأزهر الشريف في الأخذ بأيدي الموهوبين ووضعهم على الطريق الصحيح.

٥- دور المساجد، فقد كانت منابر لإبراز أصواتهم بعد تزكيتهم من الأزهر.

٦- تواضع العلماء، وهو ما تجلّى في أخلاق هؤلاء القراء.

٧- التسامح، فقد تعاملوا مع المقامات بشغف واعتبروها وسيلة لفهم الصوت لا غاية موسيقية.

٨- حرصهم على ثقافة عصرهم، فجعلوا من بيوتهم صالونات ثقافية.

٩- تمتعهم بخلق القناعة، فلم يتاجر أحد منهم بصوته.

١٠- الزهد، فحتى من عانى منهم شظف العيش أبى أن يتكفف الناس.

١١- الورع، فقد خاف بعضهم أن تكون القراءة في الإذاعة بدعة.

١٢- المثابرة، حيث لم يستسلم أحدهم لحوادث الحياة.

١٣- الإيثار، فقد تعاونوا فيما بينهم.

١٤- لم يمتهن أحدهم مهنة أخرى، بل تفرغوا للتلاوة، فسافروا وقرأوا في بلاد شتى.

١٥- تعلم كثير منهم التفسير لفهم المعنى وتصويره بالصوت.

١٦- القدر وقف إلى جانبهم، كما في قصة الشيخ أبو العينين شعيشع.

ومن بركات هذا الكتاب:

الإشارة إلى المساجد التي ارتادها هؤلاء مثل مسجد بشتاك والأمير فاضل باشا.

معرفة بعض صفاتهم الإنسانية مثل الزهد والكرم والعفة.

بعضهم كان له حضور في السينما عبر الإنشاد الديني.

عرفنا عن حارة الروم بجوار مسجد الحسين كمركز للقراء والمنشدين.

منح الكاتب لكل قارئ لقبًا خاصًا به:

الشعشاعي: أبو القراء

شعيشع: ريحانة القراء

مصطفى إسماعيل: إمام المقرئين وقيثارة القرآن

اختار الكاتب رقمًا وتريًا (15 قارئًا).

اختار عنوانًا عصريًا، بدلًا من عناوين تقليدية مثل "ملوك مملكة التلاوة".

لفت إلى تقصير الإذاعة المصرية في توثيق تراث بعضهم.

عرفنا أن الحصري أول من قرأ القرآن في الكونغرس الأمريكي.

الغلاف جاء رائعًا، يغلب عليه اللون الأخضر القاتم، وتوسطته آية: (ورتل القرآن ترتيلا)

زخرفته منمنمات الأرابيسك.

أبرز فيه الميكروفون الإذاعي.

صمم الغلاف: الدكتور أحمد سرحان.

بقيت بعض التساؤلات التي تراود كاتب هذا المقال:

١. ما المعيار الذي اتبعه الكاتب في اختيار هذه الشخصيات؟ هل كانت الشهرة أم محبته الشخصية لهم؟
٢. هل اعتمد في الترتيب على تاريخ الميلاد أم على الذيوع والشهرة؟
٣. لماذا لم يُلحق الكاتب ثبتًا بالمراجع والمصادر؟
٤. تمنيت لو أرفق الكاتب قرصًا مدمجًا أو رمز QR يتيح لنا الاستماع إلى أصواتهم مباشرة.

في النهاية، أجد نفسي مدينًا بالشكر للكاتب والمؤرخ الكبير محمد الشافعي، الذي أهدانا هذه الهدية القيمة.