بقلم الأستاذ حسنى الحديدى - كبير المذيعين
كان أحد المخرجين الإذاعيين في لندن كلما تحدث في التليفون مع زوجته وجد أن صوتها بعيد جدا فكان يتصل بمصلحة التليفونات وينتقدها وبعاملة التليفون في الاذاعة البريطانية ويعنفها وبكل من لهم صلة بأسلاك التليفون ليحتج لديهم ثم يقول أخيرا لزوجته «أرجو أن تضعي سماعة التليفون علي أذنيك والبوق عند فمك وليس العكس ياعزيزتي...
وهنا يبدأ يحس بوضوح الصوت فقد كانت زوجته تمسك السماعة بالعكس!
وقد نبهه صديق له بأن يشرح لزوجته تركيب السماعة وأجزائها ووظيفة كل جزء منها حتي لا تخطئ بعد ذلك...
وهذه الزوجة الفاضلة حينما تتحدث في المكان الذي يجب أن تستمع منه وتسمع في المكان الذي يجب أن تتحدث فيه تكون كالمستمع للاذاعة الذي يكره برنامج الإذاعة فيلعن عن المذيع ولا يدرك المأزق التي يقع فيها والمتاعب التي يتحملها...
إذن فتعال معي ايها المستمع سأترك لك الميكروفون وستعمل وحدك في الاستديو.. وقد لا تعرف مقدما أنك ستعيش وحدك في حجرة ذات حوائط سميكة جدا مبطنة بمادة عازلة للصوت وليس لك صديق إلا الميكرفون الذي هو ألد اعدائك في الوقت نفسه فإن بدت منك أي حركة فسوف تتضاعف ويفضحك هذا الصديق اللدود!
كان المراقب العام للبرامج الحالي الاستاذ عبدالحميد الحديدي مذيعا أيام شركة ماركوني وسهر ذات ليلة حتي الساعة الخامسة صباحا وكان عليه أن يذيع فترة الصباح من الساعة السادسة فتوجه إلي الإذاعة رأسا إلا أنه بعد أن قدم مقرئ الصباح أحس بالنوم يغالبه فأسند رأسه علي يديه ف وق منضدة المذيع وبدأ يشخر وصوت الشخير يعلو شيئا فشيئا أمام الميكرفون!
وكان المقرئ كفيفا وأحس بأن صوت شخير المذيع سيطغي عليه ويسئ إلي سمعته فقام من مكانه بهدوء واتجه ناحية مكان المذيع وبدأ يتحسس بيديه وجهه ليوقظه فقام المذيع مفزوعا قائلاً: «مين؟ إيه؟ عاوز إيه؟» فقال المقرئ حضرتك بتشخر وبالطبع نقل الميكرفون بأمانة هذه الضجة إلي جميع المستمعين وعرفت بعض المعجبات حضرة المذيع أنه من الصنف الذي يشخر أثناء نومه!
ثم ياسيدي المستمع يامن تريد أن تعمل مذيعا يجب أن تكون في الاذاعة قبل موعد اذاعتك بنصف ساعة علي الاقل لتتوجه إلي مكتبتك لتطلع علي التعليمات اليومية وتدرس البرنامج وتحصل علي النصوص والتعديلات وتراجعها فإن تأخرت فهي الطامة الكبري ولا يقبل في ذلك عذر إلا موت المذيع!
ولتحمل ياعزيزي المستمع أوراقك جميعها بعد أن تأكد أنها كاملة وبعد أن تكون قد اتصلت بجميع الأقسام تطلب ما كان ناقصا ثم تعبر ثلاثة شوارع لتصل إلي العمارة الخاصة بالاستديوهات هناك ستعمل كل ما في وسعك لتكون ديبلوماسيا وبهلوانا وبطلا في الجري ورفع الاثقال وحاسبا وخبيرا في فلك الخطوط ومصمما وشيالا وصاحب مهن كثيرة فإنه سيقابلك بعد أن تصعد السلم العالي الباب الأول للاستديو فترفع ذراعا حديدية كبيرة لتفتح الباب وتعيد هذه الرياضة في الباب الثاني وعليك أن تكرر هذه العملية في جميع الاستديوهات في الدخول والخروج ثم تبدأ في مخاطبة غرفة «المراقبة عن طريق الاضواء الثلاثة الأخضر والاصفر والأحمر وبعد ذلك تتم علي الاسطوانات المقررة في فترتك وترتبها فإن وجدت شيئا منها ناقصا - وكثيرا ما تجد - فعليك أن تأتي بها من تحت الأرض فالمسئولة الأولي والأخيرة علي المذيع في تنفيذ البرنامج كله!
وأذكر مرة أن نشرة الأخبار وصلت إلي الاستاذ طاهر أبوزيد المذيع وكانت هناك حفلة غنائية للآنسة أم كلثوم وخرج طاهر من الاستديو ليجلس في غرفة المراقبة ويستمع إليها من هناك وانسجم مع الغناء ونسي المكان الذي وضع فيه نشرة الأخبار وفجأة انتهت الوصلة الغنائىة فأسرع إلي الاستديو ولكنه لم يجد النشرة فخرج ليبحث عنها في كل مكان دون جدوي واتصل بي في مكان الاذاعة الخارجية وكان علي الاذاعة أن تقدم في الحال نشرة الأخبار فهداني تفكيري أن أطيل في وصف تجاوب الجمهور مع غناء أم كلثوم وأذكر اسماء العازفين ثم أعود إلي التعليق علي الشعر والموسيقي والأداء وألت وأعجن حتي اتصل بي طاهر مرة أخري وقال إنه وجدها بين اسطوانتين.
كل ذلك حدث دون أن يحس المستمع بما كان وبمن كان يجري حول نفسه باحثا عن النشرة!
وبهذه المناسبة ستجد أيها المستمع نشرة الأخبار وقد كتبت بخط حضرات المحررين والمترجمين وستراها بعينيك وأنا أؤكد لك أن نفس المحرر لن يستطيع أن يقرأ خط يده وعليك أن تكون ملما بجميع الأحوال والتطورات السياسية والاسماء الأجنبية حتي لا تخطئ فيها...
وستواجه مآزق كثيرة من الأجهزة التي هي عرضة للعطل كأي جهاز في العالم وعليك أن لا يشعر المستمع بشىء وأن تفكر في مخرج من أي مأزق بحيث لا يزيد ذلك علي ثوان وأذكر مرة أنني كنت أقرأ نشرة الأخبار في الساعة الثامنة والنصف مساء وكان المصباحان المثبتان علي الجانبين في استديو رقم 4 لا يضيئان وهما يستمدان الكهرباء من موتور الاذاعة فاعتمدت علي إضاءة مصابيح السقف التي تتصل بشركة النور وقتئذ وفجأة قطع تيار الشركة أيضا وأصبح الاستديو مظلما إظلاما تاما وكنت في منتصف القراءة فأتممت الخبر من عندي وأطلت في التحدث عن سياسة روسيا وسياسة الغرب وكانت يدي تبحث حينئذ عن علبة الكبريت ثم أقفلت الميكرفون وأشعلت أول ورقة قرئت من أوراق النشرة وواصلت علي هذا النور القراءة لمدة ثلاث دقائق وكنت أشعل الورقة التي أنتهي من قراءتها إلي أن عاد التيار الكهربائي وكتبت علي غلاف النشرة «قرئت وأحرقت والتفاصيل بالتقرير».
ولي إليك رجاء قبل أن تذيع ياعزيزي المستمع هو أن لا ترتبط بأي موعد مع صديق أو معجبة.. لأنك قد تدعي في أي وقت صباحا أو مساء لتذيع السحور أو الفجر أو تحل محل زميل أو تعمل طول النهار إذا ما أصيب زميل لك فجأة بزكام!
وهل تستطيع أيها المستمع أن تجلس في مكانك وتكتم أنفاسك الساعات الطوال دون أن تتحرك؟
ستجلس أمام المتحدثين أو المقرئين أو الممثلين في سكون تام وأن تحركت أو قلبت ورقة فسوف ينقل الميكرفون هذا الصوت مبكرا مضخما وتحاسب عليه وسواء كنت تحب البرنامج أو لا تحبه فيجب عليك أن تقدمه من قلبك وروحك ولا تتحيز لأي لون من الألوان فأنس عواطفك الفنية أو الحزبية أو الأدبية خارج أبواب الإذاعة.
حدث مرة خلال حرب فلسطين أن أراد أحد رؤساء مجلس النواب أن يذيع حديثا ولكنه ذكر فيه جملة يفهم منها سر حربي ورجعت الإذاعة إلي الرقيب العام وحذفت الجملة ولكن رئيس مجلس النواب وقتئذ هاج وماج ورأيت الفراش قبل الحديث يدخل إلي بورقة من مراقب السهرة يقول فيها «يجب مراعاة الحذف» وفكرت دقائق وخرجت وطلبت عصير منجة لحضرة المتحدث وتحدثت معه بلباقة ولكنه كان في أشد حالات الثورة... ووقفت أمام الميكرفون وكانت عيني تتبع قراءته لحديثه وفي أول الجملة قطعت عليه الإذاعة دون أن يحس ثم فتحت الميكرفون بعد انتهائه من الجملة وأعطتني غرفة المراقبة إشارات ضوئية كثيرة ورددت عليها بإشارات معناها «فاهم» وأنا عاوز كده وخرج المتحدث مستريحا لأنه أذاع ما أراد رغم حذف الرقيب..
أخيرا ياعزيزي المستمع أن مهمة المذيع شاقة جدا ومع ذلك فهي محبوبة جداً.. وأنت تلمس اهميتها ومتاعبها حينما تعمل مذيعا ولا تظن أن المذيع هو الإنسان الذي يقدم الأغاني ويجلس مع الفنانين والفنانات وصاحب الصوت الذي يصل إلي كل مكان وله من المعجبين والمعجبات الكثيرون والكثيرات.
بعد هذا ياسيدي المستمع يامن تريد أن تكون مذيعا أرجو أن تضع سماعة التليفون في وضعها الصحيح ولتدرس وظيفة كل جزء منها حتي لا نخطئ في الحكم علي مصلحة التليفون أو العاملة ولا تخطئ في الحكم علي المذيع قبل أن تعرف ماذا يعمل!
الإثنين والدنيا - عدد 987- 11 مايو 1953