رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الرجل الذي أدخل الإذاعة فى مصر

5-3-2017 | 14:50


كان مفروضا أن يكون تاجر جواهر، ولكن صدفة عابرة جعلت منه مخترعا في اللاسلكي.. وهو هنا يحدثنا كيف أدخل اللاسلكي إلي مصر، وكيف كافح به الصهيونيين في فلسطين، وكيف جعل منه بعد ذلك هواية.. إنه الأستاذ أحمد صادق الجواهرجي صاحب راديو القاهرة، وأول من أدخل الإذاعة في مصر.

منزل صغير في الجيزة.. وأجهزة لاسلكية كثيرة، وورشة للتصليح، هذا ما يستقبلك لأول وهلة عندما تزور أول هاو للإذاعة في مصر الأستاذ أحمد صادق الجواهرجي الذي يبدو في الخامسة والخمسين من عمره..

لقد أنشأ أول محطة إذاعة في مصر، أما الآن فهو هاو إذاعي يخاطب ويراسل الهواة والمحطات، في جميع أنحاء العالم..

وبعد أن قدمني إليه زميلي الأستاذ أحمد سعد الدين سألته:

هنا ألمانيا!

منذ متي بدأت صلتك باللاسلكي؟

انه تاريخ قديم، يرجع إلي عام 1919، ففي ذلك العام سافرت إلي أوربا، وقابلت علي ظهر الباخرة التي أقلتني إليها شابا ألمانيا قال لي إنه سافر لتقديم رسالة في هندسة اللاسلكي، للحصول بها علي الدكتوراه، ولم اكترث لما راح يردد علي مسمعي كل يوم عن اللاسلكي، فقد كان همي كله هو اضاعة الوقت.. غير انه لم ينسني، ولم يأخذ علي عدم اكتراثي لما يقول، فقد وصلتني منه عقب عودتي إلي القاهرة رسالة حدثني فيها عن اللاسلكي، وعن الدكتوراه التي حصل عليها، ثم أرسل إلي بعد أسبوعين طردا به أجهزة صغيرة علي كل منها بطاقة تحمل رقما، فلم يكن حظها عندي خيرا من حظ رسالته، إذ ألقيت بكلتيهما جانبا في إهمال .. ومع أن رسائله قد توالت علي بعد ذلك، فقد شغلني عن الاهتمام بها انهماكي في تجارة الجواهر، حيث كان والدي «مصطفي بك الجواهرجي» يملك متجرين كبيرين لهذه التجارة..

وتشاء الظروف أن ألزم الفراش بعد ذلك بسبب المرض، وأن تطول مدة مرضي حتي تنتهي كل الأشياء التي يمكن أن أتسلي بها، فذكرت خطابات صديقي الألماني «الهر تيتش»، وقرأتها.. ولما كنت من هواة الأعمال الميكانيكية، فقد قمت بتجميع القطع التي سبق أن أرسلها إلي، وإذا أنا أسمع صوتا يقول: «ألمانيا»، فأكاد أصعق.. ثم لم يكد والدي يصل حتي ناديته بسرعة، وأخبرته بأنني قد سمعت ألمانيا من هنا، ونظر إلي كما ينظر إلي معتوه، فقلت له: «جرب»، وجرب والدي فذهل هو أيضاً.. إنه راديو يتكلم!..

عندئذ فقط فكرت في الرد علي صديقي الدكتور «رتيتش» العظيم وسألته عن بعض التفصيلات وأسماء القطاع، فكتب إلي بهاء تفصيلا، وبدأت من ذلك الحين أدرس اللاسلكي، حتي توصلت لعمل عدة أجهزة للاستقبال بأيدي عمال مصريين..

القاهرة تتكلم!

وعدت أسأل الإذاعي الأول في مصر:

ومتي أنشأت «محطة راديو القاهرة»؟

كان ذلك في عام 1926 بعد أن توفي والدي، وخلفته في إدارة المتاجر مدة، فقد خطر لي أن أنشيء محطة للإذاعة في مصر، ومن ثم استقدمت ثلاثة من المهندسين الايطاليين، وانفقت خمسة وأربعين ألفا من الجنيهات، ثم هجرت التجارة تماما وعكفت علي إدارة المحطة التي أنشأتها، راجيا أن تمنحني الحكومة امتيازا بانشاء محطة إذاعة حكومية، غير أني خسرت مبالغ طائلة دون نتيجة، في العام الذي عاشته محطة راديو القاهرة، علي الرغم من أن جميع الأدباء والفنانين والفنانات الذين اشتركوا في الإذاعة منها لم يتقاضيوا علي إذاعاتهم أجورا!

ألا تذكر أحدا من هؤلاء الأدباء والفنانين؟

بل أذكرهم جميعا، لأنهم أصدقائي، ومازال كثير منهم علي قيد الحياة.. ثم أني كنت فنانا، أي كنت واحدا منهم، فقد اشتركت في تأسيس جمعية أنصار التمثيل والسينما، ولحنت بعض الأغاني التي كان صديقي الأستاذ محمد عبدالقدوس يؤلفها، وكنا أحيانا نلقيها فيشترك معنا في القائها المرحوم الأستاذ مصطفي دسوقي الذي كان مهندسا بوزارة الاشغال، وكنا نقدمها بالنادي الأهلي، في أولى حفلات «كونسير» أقيمت في مصر.

رغم أنفس الخسائر!

وماذا كان نوع هذه الأغاني؟

كانت مونولوجات وانني لأذكر منها: «حلوة حلوة خالص دي العروسة»، وأحيانا كان يلقي هذا المونولوج معنا الأستاذ الكبير فكري أباظة، أما أغنية «اللي أحبه دا دلعه يجنن» فقد شاعت حتي غناها معظم المصريين في الشوارع، علي الرغم من عدم وجود أجهزة لاسلكية حينذاك، ولعل هذا كان سر المتعة التي لا تنسي، مع أنني تكبدت خسائر فادحة..

ولكنك نسيت أن تحدثني عن الأدباء والفنانين الذين ساهموا بنشاط في محطة راديو القاهرة.. فمن هم؟

رحم الله أحمد شوقي «بك» وحافظ إبراهيم «بك»، فقد وقع بينهما وفي محطة راديو القاهرة، حادث كنت طرفا فيه، ذلك أن المرحومين حافظ وعبدالعزيز البشري جاء يوما لزيارتي، فجلسنا نتسامر في إحدي الحجرات، ودخل علي ابني مصطفي يطلب مني الخروج للقاء شخص، فما أن خرجت حتي وجدت هذا الشخص هو أمير الشعراء أحمد شوقي.. وكنت أعرف ما بين الشاعرين الكبيرين من سوء تفاهم، فوقعت في حرج شديد، لم أستطع أن أتخلص منه إلا بأن أجلس شوقي في حجرة أخري، ثم رحت أتردد بين الحجرتين، فلاحظ ذلك حافظ، وقال لي: «مالك يا أحمد؟ انت عيان والا إيه؟ كل شوية تقوم تخرج؟ أقعد يا أخي أنا عاوزك..» ولما حاولت التملص منه ولم أفلح سألته: «لي عندك طلب فهل تقسم أن تجيبه؟» فقال: «أقسم ولكن ماهو؟» قلت: «ان شوقي «بك» هنا، في الحجرة الأخري، وأريد أن تذهب إليه...» ففزع واقفا وقال: «أنا أذهب إلي شوقي؟ هذا اغير ممكن..» وقلت له: «ولكنك قد واعدت واقسمت..» وأضاف الشيخ البشري: «وأنا شاهد علي ذلك..» فما كان من الشاعر الكبير إلا أن خرج من الحجرة، وذهب إلي «شوقي بك» حيث تعانقا، ثم كتبنا محضر صلح وقعه كل من الشاعرين المتخاصمين، وشهدنا عليه أنا والشيخ البشري، ولكن هذه الوثيقة التي كنت أعتز بها كل الاعتزاز قد سرقت مني مع الأسف، وطلبها مني الأستاذ أحمد رامي يوما لحفظها بدار الكتب، فلم أستطع أن أقدمها إلي الدار، علي قيمتها التاريخية!..

الفنانون الرواد

أما الفنانون الذين كانوا يترددون علي فهم الأساتذة: جورج أبيض، والسيدة دولت أبيض، وعبدالرحمن رشدي، وعزيز عيد، ومحمد عبدالقدوس، وداود عصمت، ومصطفي دسوقي.. أما المطربون فهم الأساتذة صالح عبدالحي، ومحمد عبدالوهاب، وفاطمة سري، وأما الموسيقيون فكان منهم: مدحت عاصم، وأحمد سعد الدين.

وأما رواد المحطة فقد كان منهم الأساتذة: التفتازاني، وحلمي عيسي، وفؤاد أباظة، وشكري أباظة.. فقد كنا نقيم ندوات ثقافية كان لها في توجيه الحياة الثقافية والفنية أثر كبير حينذاك..

ولماذا توقفت المحطة بعد عام واحد من انشائها؟

لقد كان في تصريح 28 فبراير سنة 1923 شروط تنص علي أن المحطات اللاسلكية تعرقل المواصلات الامبراطورية الانجليزية! وتحت حكم هذه الشروط، اضطررت إلي أن أتوقف..

غارة على الصهيونيين!

ولماذا إذن تصرح لك الحكومة بانشاء هذه المحطة للإرسال؟

لقد ابتعدت ما استطعت عن اللاسلكي منذ رفضت الحكومة منحي امتياز انشاء محطة حكومية للإذاعة، وآثرت علي شركة ماركوني بهذا الامتياز.. غير انه لم تكد تقوم حرب فلسطين، ولم أكد أري المجاهدين يسافرون إلي الميدان ويتفرقون فيه فلا تربطهم أية صلة، ولم أكد أسمع محطات الإذاعة الصهيونية تذيع الأكاذيب عن مصر، وعن هزائم متخيلة للقوات المجاهدة هناك، بقصد التأثير في نفوس الناس، واضعاف عزائم المجاهدين، حتي اتصلت بهيئة النيل العليا لانقاذ فلسطين، وهي الهيئة التي يرأسها الأستاذ محمد على علوبة، ثم اتصلت بالاتحاد العربي، وقدمت لهما تقريرا عن اللاسلكي بوصفه وسيلة من وسائل الحرب... وفي ذلك الوقت كنت أري أجهزة لاسلكية صغيرة ضمن مخلفات الجيوش البريطانية، لا يعلم أحد قيمتها، فاشتريت هذه الأجهزة بأثمان لا تعدو واحدا في المائة من قيمتها ثم توصلت إلي إعداد محطتين صغيرتين سهلتي الحمل، وقمت بتقديمهما هدية للهيئة وتمت الموافقة علي استعمالهما، وعلي استعمال محطة سرية كان الهدف من استعمالها هو «الشوشرة» علي الإذاعة الصهيونية، وقد تمكنت بالفعل من اسكات عدد كبير منها.. وكانت تذيع باسم محطة «صوت فلسطين» فيبدو من اذاعتها أنها صادرة من جهة ما بفلسطين، مع انها لم تتعد جدران هذه الحجرة ... وكان من المذيعين الذين يتحدثون فيها الاستاذ مصطفي مؤمن، وبعض اخوانه الذين انتدبتهم هيئة فلسطين العليا... وفي هذا الوقت أخطرت الهيئات الحكومية بنشاطي اللاسلكي.

الهيئة العليا تشكر..

لقد هددت من الصهيونيين بالقتل والنسف، وتلقيت من الهيئة العليا لانقاذ فلسطين خطاب شكر هذا نصه:

«عزيزي أحمد صادق الجواهرجي «بك»

«بعد التحية - أرجو لكم موفور الصحة والعافية، وبعد فإن ما قمت به من المساعدات الفنية لهيئة وادي النيل العليا لانقاذ فلسطين كان موضع ثناء الجميع وتقديرهم. واننا لا ننسي جهودكم واخلاصكم في هذا السبيل، والذي لا تنساه الهيئة تلك اليد التي أسديتموها لفلسطين ابتغاء وجه الله والوطن، ولم تكن لكم مصلحة ذاتية سوي اغاثة المجاهدين العرب. فلكم من الله القدير أجزل الثواب، وأدام عليكم النعمة والتوفيق.

وتفضلوا بقبول وافر شكري وعظيم الاحترام.

رئيس الاتحاد العربي

وهيئة وادي النيل العليا لانقاذ فلسطين

محمد علي علوبة

تحريرا في 15/11/1948

وعندما أعلنت الأحكام العرفية في 26 يناير عام 1948 وقف العمل بالمحطة، ودخل الجيش المصري الحرب بصفة رسمية، فلما انتهت الحرب حصلت من الحكومة علي تصريح بمزاولة نشاطي في الأبحاث والتجارب اللاسلكية من الوجهة العلمية، وبتبادل هذه الأبحاث مع الهواة في جميع أنحاء العالم، ومازلت حتي الآن أزاول هذا النشاط

الاثنين والدنيا

عدد 987 - 11 مايو 1953