"اللقمة بكرامة".. كيف تنتقل جهود الإطعام في مصر من المبادرات الفردية إلى حماية اجتماعية مستدامة؟
في الثقافة المصرية، لطالما ارتبط الطعام بمفهوم المشاركة لا الاكتفاء الفردي، لم تكن الوجبة مجرد حاجة بيولوجية، بل وسيلة للتقارب والتكافل، كانت البيوت تتبادل الأطباق، لا من باب المجاملة، بل كامتداد طبيعي لفكرة "العيش والملح" ولحضور الجار في تفاصيل الحياة اليومية.. إلا أننا الآن نشهد موجة جديدة من الإطعام يقودها المجتمع، مدفوعة بالإحساس بالمسؤولية، والرغبة في إحداث فارق ملموس، انضمت إليها مؤسسات أهلية وجهود حكومية لتنتقل جهود الإطعام في مصر من المبادرات الفردية إلى الحماية الاجتماعية المستدامة.
فعلى مر العصور ، كنا نجد في كل حي، بيتا كريما، وآخر يعرف بطبق محبّب اعتاد أن يرسله إلى جيرانه، يتقاسمونه في صمت ورضا، دون انتظار مقابل أو حتى شكر.. هذا النمط الاجتماعي العفوي، الذي تجذر في الوعي الجمعي، لم يكن مرتبطًا بظروف اقتصادية ضاغطة، بل بمنظومة قيم ترى في الإطعام فعلًا يعزز الكرامة، ويكرس معنى الانتماء للمكان والناس.
وخلال العقدين الماضيين، شهدت مصر طفرة في عدد المبادرات والمجموعات التطوعية المعنية بتوزيع وجبات الطعام، خاصة في شهر رمضان، بعضها نشأ على يد شباب متطوعين في الجامعات، أو سكان منطقة قرروا أن يتشاركوا في إعداد وجبات توزع على المحتاجين في نطاقهم.
ومع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، زادت القدرة على الحشد والتنسيق، وأصبح "الإطعام" فعلًا جماعيًا واسع النطاق.. وتحولت الفكرة من صدقة فردية إلى حملات جماعية تحمل أسماء وهوية بصرية، وصفحات نشطة على فيسبوك وإنستجرام، تجمع التبرعات، وتنشر الصور، وتعرض تقارير الأداء.. وهنا ولدت موجة جديدة من الإطعام يقودها المجتمع ونضمت إليها مؤسسات أهلية، وأنشئت مطابخ مجمعة، وامتدت الجهود من مواسم محدودة إلى مبادرات دائمة في عدد من المحافظات.
هذا الحراك المجتمعي لم يكن ليبلغ هذا الزخم دون دعم القيادة السياسية، التي فتحت أبواب التعاون والشراكة مع المجتمع المدني، وأتاحت بيئة داعمة ومرنة، وفي هذا السياق، برز دور وزارة التضامن الاجتماعي، التي لم تعد مجرد جهة رقابية، بل تحولت - بعد صدور قانون تنظيم ممارسة العمل الأهلي رقم 149 لسنة 2019 - إلى منسق وميسر للجهود، يعكف على تجميعها، وتسهيل مساراتها، وضمان وصولها إلى من يستحق.
هذا التوجه ظهر بوضوح في مسابقة "أهل الخير"، التي أطلقتها الوزارة خلال شهر رمضان، واعلنت عن نتائجها وكرمت الفائزين بعد الشهر الكريم، وعلى رأسها في المركز الأول كانت مؤسسة مصر الخير، والمركز الثاني جمعية الأورمان، وفي المركز الثالث مؤسسة بنك الطعام المصري، كما فازت في فئات ومراكز أخرى عدة مؤسسات ومبادرات فردية وجماعية، وهو ما يعكس تقدير الدولة لكل جهد يبذل في هذا الملف الحيوي.
لكن التجربة لا تزال تتطور، والمسار الذي بدأ بالمشاركة العفوية يمضي الآن نحو الاستدامة والتكامل، عبر عدد من المداخل التي باتت ضرورية لمواكبة تطورات المجتمع وسلوك المستفيدين، وتحقيق أكبر قدر ممكن من الكفاءة والتأثير.
الإطعام المجتمعي.. تجارب دولية ونماذج متنوعة للتكامل بين الدولة والمجتمع
في الوقت الذي تعيد فيه مصر رسم خريطة الإطعام من المبادرات الفردية إلى المنظومات المؤسسية، تتسع التجربة العالمية لتقدم نماذج متنوعة، تُظهر كيف يمكن لجهود المجتمع المدني والدولة والمؤسسات الدينية أن تتكامل في توفير الغذاء، لا سيما للفئات الأكثر احتياجًا.
فالإطعام المجتمعي لا يقتصر على مصر أو المنطقة العربية، بل يمثل آلية إنسانية عالمية، تجسد دور المجتمع في سد فجوة الأمن الغذائي، خاصة في أوقات الأزمات أو بين الفئات الهشة اقتصاديًا واجتماعيًا.
فبالنسبة للمطابخ والمبادرات في الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة، تُعد المطابخ المجتمعية وبرامج الوجبات المجانية جزءًا أصيلًا من منظومة الدعم الاجتماعي، تدير منظمات مثل Feeding America وTrussell Trust الآلاف من نقاط توزيع الوجبات للفقراء والمشردين، كذلك تنتشر مبادرات مماثلة في ألمانيا وفرنسا واليابان وأستراليا، بدعم من شبكات خيرية ودينية، تقدم الطعام وأحيانًا خدمات إضافية كالرعاية الصحية أو الدعم النفسي والإحالة الاجتماعية.
وفي آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، تتجلى تجارب غنية في الإطعام المجتمعي، تعكس الخصوصيات الثقافية والدينية، ففي الهند، يمثل نظام "لانجار" في المعابد السيخية واحدًا من أضخم أنظمة الإطعام المجاني في العالم، حيث تقدّم ملايين الوجبات يوميًا بلا تمييز ديني أو طبقي.
وفي أمريكا اللاتينية، تعد المطابخ المجتمعية جزءًا من النسيج الاجتماعي، تديرها الكنائس والمجتمعات المحلية منذ عقود، خاصة في مناطق الفقر المدقع.. أما في أفريقيا، فتنشط منظمات إنسانية بالتعاون مع المجتمعات المحلية لتوفير الغذاء في أوقات الكوارث والنزاعات، كما في إثيوبيا أو مناطق الساحل.
ما يجمع النماذج.. وما يميزها
رغم اختلاف السياقات، هناك قواسم مشتركة بين هذه التجارب منها : الاعتماد الكبير على المتطوعين والتبرعات، الارتباط بالقيم الدينية، وتكامل هذه الجهود أحيانًا مع سياسات الحماية الاجتماعية.
لكن في المقابل، تتباين درجات التنسيق بين الدولة والمجتمع المدني من بلد لآخر، ففي بعض التجارب كألمانيا وتركيا، نجد نماذج شراكة مؤسسية منظمة، في حين تعتمد مبادرات أخرى، كـ"لانجار" في الهند أو المطابخ الكنسية في البرازيل، على الزخم المجتمعي وحده، دون تدخل حكومي مباشر، هذا التنوع يعكس الخصوصيات الثقافية والسياسية، لكنه يؤكد في الوقت ذاته أهمية التكامل كشرط للاستدامة.
نموذج تركيا: تنسيق وتنويع في مصادر الدعم
تعد تركيا من النماذج البارزة في هذا المجال، إذ تعمل مؤسسات الدولة والمجتمع المدني جنبًا إلى جنب لتوفير الإطعام المجتمعي، فالمديرية العامة للأوقاف تشغل مطابخ خيرية ثابتة توزع وجبات ساخنة وطرودًا غذائية تضم أكثر من 15 منتجًا داخل البلاد وخارجها، خاصة خلال شهر رمضان.
كما يدير الهلال الأحمر التركي شبكة من المطابخ والمراكز تستهدف الفئات الأكثر هشاشة، وتوفر خدمات إضافية مثل توصيل الطعام إلى منازل كبار السن وذوي الإعاقة، وخلال الكوارث، كما في زلزال غازي عنتاب، لعبت المطابخ المجتمعية التي تديرها التعاونيات النسائية المحلية دورًا حاسمًا في تقديم آلاف الوجبات يوميًا، بدعم من منظمات إنسانية ودولية، وفي تنسيق مع السلطات المحلية.
ويُظهر هذا النموذج كيف يمكن توظيف المؤسسات الدينية والمجتمعية ضمن إطار تنظيمي يخدم الاحتياجات الغذائية للمواطنين، دون أن ينفصل عن السياسات العامة للحماية الاجتماعية، أو يتجاوز الخصوصيات الثقافية المحلية.
مستقبل الإطعام في مصر من المبادرة إلى المنظومة
الملف الإنساني للإطعام في مصر لم يعد يختزل في "سد جوع"، بل أصبح جزءًا متناميًا من منظومة الحماية الاجتماعية، تتقاطع فيها أبعاد الكرامة والصحة والوعي المجتمعي، وتتطلب مقاربات أكثر استدامة ومأسسة.. ومن هذا المنطلق، يبدو المشهد مهيّأً لتطوير عدد من المسارات النوعية التي يمكن أن ترتقي بالإطعام إلى مستوى المنظومة، وتسهم في تحويل جهود الإطعام إلى آليات مستدامة تحفظ الكرامة وتعزز الوعي المجتمعي، ومنها:
1- المطابخ المجتمعية الدائمة
وهي نموذج بدأ يظهر فعليًا في عدد من المدن المصرية، حيث تحوّلت بعض مقار الجمعيات الأهلية إلى مطابخ ثابتة تقدّم وجبات ساخنة يوميًا، أو تطهو كميات منتظمة توزّع على نطاق جغرافي محدد.. فدعم هذا النمط لا يحقق فقط انتظامًا في الخدمة، بل يفتح أيضًا بابًا لتوفير فرص عمل، ويمكّن الجهات المعنية من متابعة الجودة والاشتراطات الصحية بشكل دقيق، ويمنح ثقة للمجتمع بأن الإطعام لم يعد فعلًا موسميًا، بل التزامًا يوميًا يستجيب لاحتياجات ثابتة.
2- المحتوى التوعوي والبروشورات الإرشادية
ومن الآليات التي تستحق العمل عليه تلك التي تتعلق بتضمين رسائل توعوية مرافقة للوجبات المقدمة، كورقة صغيرة أو كتيب مبسط داخل كل وجبة قد يحمل قيمة لا تقل عن قيمة الطعام نفسه، هذه الرسائل يمكن أن تتناول مواضيع متعددة مثل التغذية الصحية، أو نظافة اليدين، أو الوقاية من الأمراض، أو حتى أرقام تواصل لتلقي الدعم الاجتماعي أو النفسي، الإطعام هنا لا يصبح مجرد نشاط خيري، بل نافذة للتثقيف والتواصل، تعزز من احترام عقل المتلقي وتوسع أفقه، ويمكن القول أن الرسالة التي ترافق الوجبة قد تحدث فارقًا أكبر مما يتوقع.
3- الإطعام كمدخل للصحة العامة
يتقاطع الإطعام أيضا مع ملف بالغ الأهمية، وهو الصحة العامة، كثير من الفئات التي تستفيد من خدمات الإطعام – كالأطفال أو كبار السن أو المرضى – تحتاج إلى وجبات ليست فقط مشبعة، بل صحية ومتوازنة، ومن هنا تبرز أهمية التعاون مع كيانات علمية متخصصة مثل المعهد القومي للتغذية، من أجل وضع معايير غذائية واضحة تطبّق على الوجبات التي توزع في إطار برامج الحماية أو المبادرات الخيرية.
هذه الخطوة لا تحسن فقط من الأثر الصحي للوجبة، لكنها ترفع الوعي الغذائي لدى الأسر، وتفتح المجال لإدخال مكوّنات محلية غنية بالعناصر المفيدة، ما قد يخفض التكاليف ويزيد من القيمة الغذائية، كما أن دمج الإطعام ببرامج الصحة والتغذية يخلق حلقة وصل بين الدعم الاجتماعي والوقاية الصحية، ويعزز من كفاءة الدولة في الوصول إلى الفئات الهشة بطريقة أكثر شمولًا وإنسانية.
4- مشاركة التلاميذ في المدارس
في طريق تحويل الإطعام من مبادرة إلى منظومة، لا يمكن تجاهل دور الأجيال الجديدة، خاصة التلاميذ والطلاب، باعتبارهم رافدًا حيويًا في ترسيخ قيم التكافل والعدالة الاجتماعية، حيث يمكن للمدارس أن تكون أكثر من مجرد بيئة تعليمية، بل منصات فاعلة للتربية على المواطنة، من خلال إدماج أنشطة الإطعام ضمن البرامج التربوية والتطوعية، سواء عبر حملات تعبئة الوجبات، أو مسابقات لتصميم حملات توعوية، أو حتى زيارات ميدانية لمطابخ مجتمعية.
وتزداد أهمية هذه المشاركة في فترات الإجازة الصيفية، حيث يمكن استثمار الوقت والطاقات في مبادرات تقودها المدارس بالتعاون مع الجمعيات الأهلية، ما يعزز من حس المسؤولية والانتماء لدى الطلاب، ويعد غرس هذه الثقافة في سن مبكرة لا يصنع فقط جيلًا أكثر تعاطفًا، بل يؤسس لمجتمع يدرك أفراده أن الكرامة الإنسانية تبدأ من أبسط الحقوق.. ومنها الحق في وجبة آمنة ومشبعة ومحترمة.
5 - من تلقي الخدمة إلى صناعتها.. المستفيد شريك لا متلقٍ
من التحولات الجوهرية التي يمكن البناء عليها لتطوير منظومة الإطعام في مصر، إعادة تعريف دور المستفيد، ليس بوصفه طرفًا سلبيًا يتلقى المساعدة، بل شريكًا فاعلًا في تصميم وتنفيذ لخدمة.
وتعد تجربة "بنك الطعام المصري" إحدى النماذج الملهمة في هذا السياق؛ حيث لم تكتفِ المؤسسة بتوزيع الوجبات، بل عملت على تدريب عدد من المستفيدين، وتأهيلهم للعمل داخل المطابخ المجتمعية، سواء في مهام الطهي أو التعبئة أو التوزيع أو التنظيم.. البعض منهم التحق لاحقًا بوظائف ثابتة، أو بدأ مشروعه الخاص في مجال الطعام.
هذا النموذج لا يعزز فقط الكرامة الإنسانية، بل ينقل الأفراد من دائرة المعونة إلى دائرة التمكين، ومن الاحتياج إلى امتلاك المهارة؛ فتعلم الطهي أو الإدارة أو التنظيم ليس مجرد وسيلة للاندماج في مبادرة، بل خطوة أولى نحو الاستقلال وبناء المستقب، وفي هذا الإطار من المهم أن نجدد التأكيد أن التحول من مستفيد إلى مساهم يعيد تشكيل العلاقة بين مقدم الخدمة ومتلقيها، ويمنح المستفيد فرصة لإعادة اكتشاف نفسه، ولبناء حياة أكثر استقرارًا وكرامة.
هذا التحول لا يخلق فقط فرص عمل، بل يعيد بناء ثقة الفرد في ذاته، ويخففف من آثار العزلة أو الشعور بالوصم، وهو ما تؤكده دراسات علم النفس الاجتماعي التي تربط بين المشاركة المجتمعية والإحساس بالجدارة والانتماء.
6 - صندوق الإطعام المستدام.. شراكة للثقة والاستمرار
أحد أبرز مفاتيح التحول من المبادرة إلى المنظومة، هو وجود آلية تمويلية مستدامة تحرر مبادرات الإطعام من ضغوط الموسمية، وتمنحها القدرة على التخطيط بعيد المدى، وتطوير أدواتها.
إطلاق صندوق وطني لدعم مبادرات الإطعام، تشارك فيه الدولة والمجتمع والقطاع الخاص، يمكن أن يشكل نقطة انطلاق جديدة في هذا الملف، فمثل هذا الصندوق لا يوفر فقط تمويلًا منتظمًا، بل يفتح المجال أمام توزيع أكثر عدالة للموارد، ومراقبة أفضل لمخرجات العمل الأهلي، وتوسيع نطاق التأثير الجغرافي والاجتماعي.
كما يعكس وجود الصندوق تحولًا في فلسفة العمل الخيري من الاعتماد على التبرع العاطفي إلى الاستثمار الاجتماعي المنظّم، ويجسد شراكة ناضجة بين المجتمع المدني ومؤسسات الدولة، قائمة على المسؤولية المتبادلة والثقة المتبادلة.
وفي بيئة تشهد تناميًا ملحوظًا في عدد الجمعيات النشطة، وتمتعها بمرونة تشغيلية عالية، يمكن أن يُمثل هذا الصندوق رافعة تمويلية وعدالة توزيع وفرصة ابتكار، تضمن بقاء الإطعام فعلًا جماعيًا مؤثرًا، وليس مجرد استجابة ظرفية.
الروافد الناعمة لتعزيز الإطعام المستدام: الفن والرياضة والثقافة
لم تكن الفنون والثقافة والرياضة يومًا بعيدة عن القضايا المجتمعية، بل شكلت على مدار العقود روافد ناعمة تؤثر في الوعي العام، وتدعم القيم الإنسانية الكبرى، وفي ملف الإطعام، يمكن لهذه القوى الناعمة أن تلعب دورًا متقدمًا في ترسيخ مفاهيم الكرامة والمشاركة، وتوسيع قاعدة المنخرطين في الجهد الأهلي.
الدراما مثلًا، تملك قدرة استثنائية على إلهام الناس؛ فمشهد بسيط في مسلسل أو لقطة في فيلم، يمكن أن توقظ الإحساس بالمسؤولية لدى مئات الأسر والأطفال والشباب، وتدفعهم إلى بدء مبادرة صغيرة في حيهم، أو التطوع في مطبخ مجتمعي، وعلى نحو مشابه، يمكن للمسرح، والموسيقى، والأنشطة الثقافية في المدارس والمكتبات، أن تغرس في الأطفال روح المبادرة والانتباه لاحتياجات الآخرين.
أما الرياضة، فهي مدخل فاعل آخر.. فالرياضيون يتمتعون بثقة وتأثير واسع في الأوساط الشعبية، ويمكن أن يسهموا – عبر مبادرات فردية أو شراكات مع مؤسسات – في جمع التبرعات، أو دعم الحملات المجتمعية، أو الظهور كسفراء لمفاهيم التغذية السليمة والإطعام المستدام، كما أن النوادي الرياضية، بصفتها كيانات مجتمعية واسعة النطاق، تُعد بيئة مناسبة لتنظيم فعاليات تطوعية أو تثقيفية حول الغذاء والكرامة.
هذه الروافد الثلاثة لا تقدم الطعام، لكنها تمهد الطريق له، عبر خلق مناخ اجتماعي ونفسي أكثر قابلية للتكافل، وأكثر وعيًا بالاحتياج وأهمية الكرامة، وهي بذلك شريك غير مباشر، لكنه لا يقل تأثيرًا عن باقي المسارات المؤسسية والتنظيمية.
استشراف المستقبل.. من اللقمة إلى المنظومة
تخيل بعد سنوات قليلة، أن تصبح خريطة الإطعام في مصر رقمية بالكامل، تتحدث لحظيًا، وتربط بين الجمعيات والمؤسسات والجهات المعنية، وتُحدد أولويات المناطق وتُوجّه الموارد بدقة، تصمم وجبات بمعايير غذائية معتمدة، وتصل إلى المستحقين بكفاءة وكرامة.
تخيل أن تصبح الجمعيات أكثر قدرة على الابتكار، وأن يتحول كل مطبخ مجتمعي إلى مركز للوعي والتكافل، تديره كوادر مدربة، وتدعمه آلية تمويلية مستدامة، ويراقب صحيًا وتقنيًا، في ظل شراكة متماسكة بين الدولة والمجتمع المدني.
تخيل أن يطلق نجوم الفن والرياضة حملات توعية من الملاعب، أو تنظم مباريات خيرية لدعم مطابخ الأحياء، أو يشارك أحد اللاعبين في إعداد وجبة مع أطفال في مدرسة مجتمعية.. تخيل أن يتحول مشهد صغير إلى ميلاد مبادرة تغير حياة كاملة.
ما يبدو اليوم تصورًا طموحًا، قد يصبح قريبًا واقعًا، في ظل الرؤية المتقدمة التي تتعامل بها الدولة مع المجتمع المدني، والسرعة التي يتطور بها هذا الملف، مدعومًا بالإرادة السياسية، والوعي المجتمعي، والمرونة المؤسسية التي باتت سمة بارزة في عمل العديد من الجمعيات.
ووسط هذا المشهد، تبقى "اللقمة" أكثر من مجرد وجبة، وتبقى "الكرامة" هي الهدف الأسمى.