رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


ثلاثة مؤلفات تفتح نوافذ المعرفة: «السريالية والمجدد والباشا»

24-7-2025 | 10:25


د. ياسر ثابت,

بعض الكتب تخطف الأنظار لثراء المحتوى، وغزارة المعلومات، وجِدة الأفكار. وإذا كان لنا أن نشير إلى بعض هذه المؤلفات التي تسننَّى لنا مطالعتها في النصف الأول من هذا العام، فإنه يمكن ترشيح الكتب التالية لجمهور القراء.

السريالية في مصر

من أهم الكتب التي صدرت ترجمة لها باللغة العربية، كتاب سام بردويل الذي يحمل عنوان "السريالية في مصر: الحداثة وجماعة الفن والحرية" (دار العين، 2025)، وهو من ترجمة عبد الرحيم يوسف.

تُقدِّم هذه الدراسة الضخمة الممتعة أول تحليلٍ شامل لميراث aجماعة الفن والحرية من الأعمال الفنية والأدبية والكتابات النقدية عن السريالية. ولعلها أول دراسة علمية تتناول جماعة الفن والحرية في مصر واشتباكهم العميق مع السريالية، في كتابٍ لا يقدِّم قصة السريالية المصرية، بل السريالية في مصر.

فقد تعزَّز شعور جماعة الفن والحرية بالحرية من خلال وقائع سنوات الغليان التي سبقت الحرب العالمية الثانية. في 22 ديسمبر 1938، أُعلِنَ تأسيس الجماعة من خلال بيانها الذي حمل عنوان «يحيا الفن المنحط». في مساء 9 مايو 1939، وبعد محاضرةٍ ألقاها الكاتب والمحرر ومنظِّر الفن الإيطالي تومازو مارينيتي (1876-1944) في القاهرة، كشفت جماعة الفن والحرية عن رفضها الصارم لأي علاقة بين الفاشية والقومية والفن.

في كل الأعداد الستة من مجلة «التطور» الشهرية قصيرة العمر التي أصدرتها جماعة الفن والحرية عام 1940، عالج 25 مقالًا موضوع الفقر بشكلٍ مباشر، ومن بينها نجد أن مقال رمسيس يونان «الفقر مسألة اجتماعية» هو أكثر ما يُستشهد به. سادت تيمة الفقر على نحوٍ خاص في شعر أحمد رشدي، أحد المنتسبين لجماعة الفن والحرية والمساهم في مجلتها «التطور».

تأسست جمعية محبي الفنون الجميلة على يد فؤاد عبد الملك، الذي كان فنانًا في وقتٍ ما وتحوَّل إلى تاجر وخبير أعمال فنية وأثاث. عند عودته إلى مصر عام 1919 بعد تلقيه التعليم في أكاديمية الفنون الجميلة في ميونيخ، افتتح صالة عرض لبيع الأعمال الفنية والزخرفية.

بحلول عام 1935، كان جورج حنين قد أصبح الطفل المشاكس في الحلقة الأدبية المحلية. في كتاب إيميه آزار المهم، الذي صدر عام 1961 عن تاريخ الفن الحديث في مصر: «التصوير الحديث في مصر»، يُوصف حنين في منتصف الثلاثينيات بأنه «شاعر ومجادل، صاحب روح مغامِرة وفضولية، سرعان ما سيحشد أعضاء الحركة الطليعية». تؤكد هذه الصورة لحنين الموقف المضاد الذي تمسَّك به هو وجماعة الفن والحرية ضد جمعية محبي الفنون الجميلة وقطب الفنون محمد محمود خليل، الذي كان من الرعاة الأساسيين للجمعية المذكورة، وله مواقف تزدري الفنانين المصريين وتُفضِّل الفن الأوروبي على الفن المصري.

قبيل أواخر الثلاثينيات، دفع شعورٌ متنامٍ بالاغتراب -نتج عن محاباة جمعية محبي الفنون الجميلة- بعدد من الفنانين إلى تشكيل جماعاتهم الخاصة المستقلة، ومنها «رابطة الفنانين المصريين»، وهي مجموعة من الفنانين أخذوا على عاتقهم مهمة تنظيم معارضهم الفنية الخاصة المروِّجة لأعمال الفنانين المصريين الناشئين الأقل شهرة.

كانت جماعة الفن والحرية حتى ذلك الوقت الأطول عمرًا بين الجماعات الفنية المستقلة وقتها، التي وجدت في تكتيكات السرياليين لمهاجمة الجماليات البرجوازية تجسيدًا لواقع سياقهم وطبيعة موقفهم.

ذكر مؤسس السريالية في مصر، جورج حنين، صراحة كلمة "سريالية" لأول مرة باللغة العربية في مقاله عن انتحار الكاتب والشاعر الفرنسي رينيه كريفيل، ولم يتجاوز الخامسة والثلاثين عامًا، في عدد أكتوبر 1935 من مجلة «آن إيفور un effort» التي أصدرتها جماعة «المحاولين» باللغة الفرنسية في القاهرة. قال جورج: «لو أننا نظرنا عن قرب، لوجدنا أن السريالية تمثل التجربة الأكثر طموحًا في عصرنا، الموجَّهة ضد الظلامية. أدركت وعرضت أصواتًا جديدة وأصيلة. أصوات من وراء الذاكرة، من وراء الوعي. السرياليون غير راضين عن إعلان حرية الفكر فقط، وإنما يُحرِّضون عليها». ثم أخذ بعدها ينشر في القاهرة المقالات ويلقي المحاضرات باللغة الفرنسية عن السريالية.

في 1937، بدأ جورج حنين في تجميع أصدقائه من مصريين ومتمصرين وأجانب لتكوين الجماعة السريالية الوحيدة في العالم العربي. ظهر تعاونهم في مطبوعات بدأت في الصدور عام 1938. اختتموا هذا العام بتوقيعهم على بيان «يحيا الفن المنحط»، وتحرير جريدة «دون كيشوت» الأسبوعية بالفرنسية، لتناضل «ضد الفوارق الطبقية والمغالطة التاريخية… ضد كل التلفيقات وكل التوريات»، حتى تكوَّنت في 9 يناير 1939 رسميًّا جماعة «الفن والحرية» السريالية.

أصدرت الجماعة في يناير 1940 العدد الأول من مجلة «التطور» الشهرية، أول مطبوعة باللغة العربية عن السريالية، من مقرها في 28 شارع المدابغ، شريف حاليًّا، وسط القاهرة. توقفت «التطور» عن الصدور بعد العدد السابع؛ «لأنها تحارب الرجعية، وتثور على الاستغلال»، كما أطلقت في صيحتها الأخيرة.

بعد إطلاق المجلة بشهرين، بدأت الجماعة في تنظيم معارض للفن التشكيلي أطلقوا عليها «الفن المستقل». في 18 مارس 1940، افتتح المعرض الأول.

بعد توقف مجلة «التطور»، دخل السرياليون في 14 يونيو 1942 في تحرير ثم إدارة مجلة «المجلة الجديدة» التي أسسها وأصدرها سلامة موسى منذ 1928.

المُجدد.. محمد التابعي

في كتابه "المُجدد: صاحب الجلالة محمد التابعي" (دار ريشة، 2025)، يفتح الباحث شهدي عطية نافذة على التاريخ، ويمنحنا صورةً مقرَّبة عن أحد أبرز الأقلام الصحفية المصرية في النصف الأول من القرن العشرين، بل هو –في رأينا– أهمهم على الإطلاق.

محمد التابعي هو الذي أدخل أسلوبًا جديدًا في الكتابة، فصيحًا بلا تعقيد، بسيطًا بلا تهريج. وعندما عرفت الصحافة أسلوب محمد التابعي لأول مرة، رآه البعض خطرًا على أصول الكتابة.

لكن التابعي لم يهتم، وأصر على التجديد. وأثبت الزمن صواب رؤيته. وأصبح هذا الأسلوب هو السائد في الصحف المصرية، وهو ذاته الأسلوب الذي سار عليه كبار الصحفيين في مصر، من مصطفى أمين إلى أنيس منصور.

محمد التابعي هو أول من أدخل فن التحقيق الصحفي. وأول من دعا إلى مدرسة الرأي، التي تعتمد على الحوار مع القارئ. وقد أكد في مقالاته أن الصحافة هي التفاعل الحي مع الناس.

وقد ظل التابعي طوال حياته المهنية ينتقد الملوك والحكام، دون أن يسيء لأحد. لم تكن ألفاظه تخدش الحياء، ولم تكن مقالاته تثير الفتن، لكنه كان واضحًا، صريحًا، صادقًا.

وقد أطلقوا عليه لقب "صاحب الجلالة"، وهو اللقب الذي ظل يُطلق عليه حتى بعد رحيله.

بدأ محمد التابعي حياته الصحفية في مجلة "روز اليوسف"، وكتب بابًا أسبوعيًّا أسماه "من غير عنوان". وكان هذا الباب يتصدر المجلة أسبوعيًّا، حتى عرفت المجلة على نطاق واسع، وبدأت تُباع بأعداد ضخمة.

وكانت هذه المجلة هي مجلة روز اليوسف في أول عهدها، وكان المفروض أن تكون مجلة ثقافية أدبية، تعتمد على القصة والشعر والفن، وأن يكون رئيس تحريرها زكي طليمات، في حين يشرف التابعي على باب النقد المسرحي. لكن الذي حدث أن التابعي كتب مقالًا سياسيًّا في صدر المجلة، فارتفعت مبيعاتها إلى خمسة آلاف نسخة، وهو رقم لم تعرفه المجلة من قبل.

وعندئذ غيّر أصحاب المجلة خطتها التحريرية، وطلبوا من التابعي أن يواصل الكتابة في السياسة، بدلًا من المسرح.

وانطلق التابعي. وبفضل مقالاته النارية، التي كانت تتسم بالرصانة والدقة والعمق، عرفت المجلة طريقها إلى الانتشار. وكان يكتب كل أسبوع تحقيقًا مثيرًا، ومقالًا ناريًّا. وكان دائمًا سابقًا لعصره، وعندما كان أحدهم يسأله عن مصدر معلوماته، كان يجيب ضاحكًا:

«إنني أعرف كل شيء من الخادمة والطباخ».

كان التابعي ذكيًّا، واسع الحيلة، دقيق الملاحظة. وكان يعرف من أين تؤكل الكتف. وكان دائمًا يسبق الجميع بخطوة.

ومن مجلة "روز اليوسف" انتقل إلى صحيفة "الأخبار"، ثم أنشأ مجلة "آخر ساعة"، ثم انتقل إلى "الأهرام". وقد ترك بصماته في كل صحيفة كتب فيها، حتى أصبح أسطورة من أساطير الصحافة.

عُرِف عنه الذكاء الشديد، وسرعة البديهة، والجرأة في الكتابة. وكان يعشق اللغة العربية، ويكتب بأسلوبٍ رشيق، راقٍ، خالٍ من الأخطاء.

وكان من أنصار المدرسة الواقعية، التي ترى أن الصحافة يجب أن تكون مرآة للواقع، تعكس هموم الناس، وتعبِّر عن قضاياهم، وتفضح الفساد، وتنشر الوعي.

وقد أحب الناس هذا الصحفي الجريء، الذي كان دائمًا إلى جوارهم، لا يخشى في الحق لومة لائم.

سلسال الباشا.. الأمير المثقف

سلسال الباشا.. الأمير يوسف كمال: رائد النهضة الفنية الحديثة في مصر، عنوان كتاب أصدره الكاتب الصحفي والباحث في شؤون التراث الثقافي محمد سمير عبد السلام، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.

يحتوي الكتاب على وثائق مهمة ونادرة، من بينها برقيات متبادلة بين الأمير يوسف كمال وأحمد شفيق باشا، رئيس ديوان الخديو عباس حلمي الثاني، بشأن إنشاء مدرسة الفنون الجميلة.

فقد رُفِض طلب الأمير أكثر من مرة، وتم تأجيل النظر فيه أكثر من مرة، إلى أن تم تحقيق حلمه، وأسس هذه المدرسة التي خرَّجت رموز الفن التشكيلي في مصر.

كانت أولى خطواته في دعم الفنون هي تأسيس مدرسة الفنون الجميلة على نفقته الخاصة، واختيار مكان مناسب لها، وهو قصر المنيرة في حي السيدة زينب بالقاهرة، عام 1908، وتخصيص جزء من القصر كمقر للمدرسة.

ضمَّت المدرسة في البداية أربعة أقسام، هي: الرسم، والنحت، والعمارة، والزخرفة. وقد أدار المدرسة في بدايتها الرسام الفرنسي جيروم، تلاه في الإدارة الرسام الفرنسي هنري تونات، ثم المصور المصري يوسف كرم.

ولم يكتفِ الأمير يوسف كمال بتمويل المدرسة، بل كان يتابع سير العمل فيها بنفسه، ويحرص على زيارة المدرسة بصفة دورية، للتأكد من حسن سير العملية التعليمية.

وقد قدَّم الأمير يوسف كمال لإنشاء الجامعة المصرية 120 فدانًا، ولما عرض مجلس إدارة الجامعة عليه رئاسة الجامعة، اعتذر وطالب بالاكتفاء بأن يكون عضوًا في مجلس إدارتها، ورفض الحصول على لقب "الرئيس الفخري" للجامعة، وهو ما يعكس نُبل هذا الرجل، وعشقه للعلم، وحرصه على النهوض بالتعليم في مصر.

وفي مجال الآثار، قدَّم الأمير يوسف كمال مجموعة أثرية نادرة للمتحف الإسلامي، كما قدَّم مجموعة من المخطوطات النادرة إلى دار الكتب، إلى جانب دعمه للعديد من بعثات التنقيب عن الآثار في صعيد مصر.

إنه شخصية فريدة من نوعها، تستحق أن نقف أمامها طويلًا، تأملًا وتقديرًا واحترامًا.