ذكرت صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية، في عددها الصادر اليوم السبت، أن العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة المنكوب دفع سكانه نحو مجاعة جماعية ومأساة بشعة يعيشها حوالي 1ر2 مليون فلسطيني.
واستشهدت الصحيفة، في سياق تحليل ميداني للكاتبة رولا خلف نشرته في عدد اليوم، بقصة مواطن غزاوي يُدعى مصطفى، يغادر منزله كل يوم بمحفظة مليئة ولكن بمعدة خاوية، بحثًا عن الطعام بين أنقاض غزة.. ويمشي مصطفى لساعات وهو يطارد الشائعات: دقيقٌ شوهد في دكان بشارع ناصر وعدس قرب المسجد المدمر وخضراوات خضراء، فيما كان يُعرف سابقًا بساحة السرايا.
ولمدة أربعة أيام، لم يجد مصطفى شيئًا ليعود خالي الوفاض إلى منزل شقيقه في حي الرمال، الذي كانت تسكنه الطبقة المتوسطة الصغيرة في القطاع.. وفي اليوم الخامس، تبع مصطفى تاجرًا في السوق السوداء في أحد الأزقة ودفع ما يقارب 100 دولار ثمنًا لكيلوجرام من العدس.
وكان هذا الاكتشاف النادر، المُسلوق في المنزل على حطب مُجمع، أول وجبة لعائلته منذ قرابة أسبوع، ليضع ملاعق عدس في ماء دافئ ومالح، مُقسّم بين ستة أطفال وتسعة بالغين.
ونقلت "فاينانشيال تايمز" عن مصطفى قوله، بينما كاد أن يطغى صوت طائرة إسرائيلية بدون طيار على صوته، "نحن كالمُحققين، نُطارد رائحة الدقيق.. وحتى لو وجدناه، علينا أن نكون مليونيرات لنشتري كيلوجرامًا واحدًا".
وأكدت الصحيفة البريطانية، في تقريرها، أن عمليات البحث المُهمّة التي يقوم بها مصطفى تمثل بدورها أحدثَ علامة فارقة في انحدار غزة نحو المجاعة الجماعية، حيث يجد حتى من يملكون المال أنفسهم في نفس الكابوس الذي يُعاني منه من لا يملكون وهو الجوع والبحث عن الطعام.
وأشارت إلى أنه بعد أشهر من التحذيرات الدولية من أن القيود الإسرائيلية على المساعدات تدفع القطاع نحو مجاعة مُطلقة، أبلغ مسئولو الصحة المحليون الآن عن عشرات الوفيات، وما يقرب من 60 حالة وفاة في يوليو الجاري وحده بسبب الجوع وسوء التغذية.
وقال برنامج الغذاء العالمي، هذا الأسبوع، "إن واحدًا من كل ثلاثة غزاويين يقضي أيامًا عديدة دون طعام.. ولم تعد الأمهات اللواتي يعانين من سوء التغذية قادرات على إدرار الحليب لإرضاع أطفالهن، والجرحى عاجزون عن الشفاء، كما نفدت المكملات الغذائية اللازمة لعلاج الأطفال النحيفين من المستشفيات".
وفي حين أنه لم يسلم أحد من العدوان الإسرائيلي، أضافت "فاينانشيال تايمز" أن الطبقة المتوسطة الصغيرة في غزة، التي عادة ما كانت تتشكل من محامين وأطباء وأساتذة جامعات، تمكنت في البداية من التخفيف من وطأة الجوع عبر استنزاف مدخراتهم أو الاعتماد على تحويلات مالية من الخارج، إلا أن شح الغذاء بات اليوم يطال الجميع، حتى هذه الفئة التي بدأت تعاني من الهزال.
ويقول يوسف أحمد عابد (36 عامًا)، الذي أنفق نحو 25 ألف دولار لإبقاء أسرته على قيد الحياة، في تصريح خاص للصحيفة، "لم يعد هناك أغنياء أو طبقة وسطى أو فقراء.. الآن، حتى المال لم يعد يجدي، لا يوجد ما يُشترى".
وتابعت الصحيفة أن "الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ 21 شهرًا دمرت جزءًا كبيرًا من اقتصاد غزة، مما دفع سكانها البالغ عددهم 2.1 مليون نسمة إلى الاعتماد شبه الكامل على المساعدات".
ودفعت السياسات الإسرائيلية بالقطاع إلى أزمة جوع غير مسبوقة، فمنذ مارس، فرضت إسرائيل حصارًا كاملاً استمر عدة أشهر وسمحت منذ مايو بدخول كميات محدودة من المساعدات عبر الأمم المتحدة ومنظمات إنسانية أخرى.
وفي المقابل، دعمت "مؤسسة غزة الإنسانية" المثيرة للجدل، والتي تدير أربعة مواقع توزيع ذات طابع عسكري، في نموذج أدانته الأمم المتحدة باعتباره "محاولة لتسييس المساعدات".. وتبرر إسرائيل هذه القيود، بحسب ما أبرزت الصحيفة، بأنها ضرورية لمنع حماس من الاستيلاء على الإمدادات، في حين أكدت جهات دولية مرارًا أنها لم ترَ أي دليل على عمليات تحويل ممنهجة من قبل الحركة.
وكذلك، أوضحت "فاينانشيال تايمز" أنه مما يفاقم الأزمة نقص السيولة النقدية، إذ أغلقت المصارف وأجهزة الصراف الآلي منذ فترة طويلة وأصبح الصرّافون يبيعون الشيكل الإسرائيلي المهترئ مقابل تحويلات بنكية، بعمولات قد تصل إلى 45 في المئة.
وقال عابد، الذي أنفق كل مدخراته تعليقًا على هذا الأمر، إنه تحمّل رسوم الصراف ودفع كل ما يطلبه التجار حتى لا يصل الأمر إلى حد "بكاء ابني على الخبز".. أما الحلويات، فقد أصبحت حلمًا بعيد المنال، فمع ارتفاع أسعار كيلو السكر لتصل نحو 100 دولار، اشترى مصمم الجرافيك ذات مرة حفنة منها بستة دولارات فقط ليلعقها أبناؤه.
أما أسماء طافش، التي كان تتقاضى مرتبًا شهريًا من الأمم المتحدة بقيمة 1200 دولار وكان يسمح لها قبل الحرب باستئجار سيارة وتناول الطعام في الخارج واصطحاب أطفالها الثلاثة إلى الشاطئ، تخسر الآن الكثير بسبب العمولات، لدرجة أنها تضطر لبيع المجوهرات في بعض الأشهر لتعيش، وقد يكلفها كيس الدقيق 40 دولارًا.
وقالت طافش "لقد كان النقص حادًا في الأيام الأخيرة لدرجة أن كل ما يفكر فيه الأطفال هو: ماذا سنأكل؟.. يسألني أصغرهم: يا أمي، هل وصل أي دقيق إلى غزة؟!"، وعادة ما يكون جوابي بأنه ليس كافيًا".
وقد تَعَثَّرَ الكثير مما يصل إلى غزة على طول الحدود، حيث تُكافح الأمم المتحدة وجهات أخرى لتوزيعه بسبب القتال الدائ،ر وتَعَثُّر الطرق والخطر الذي لا يقتصر على اللصوص فحسب، بل يمتد إلى الجيش الإسرائيلي أيضًا.
ويقول مسئولون محليون "إن أكثر من 1000 شخص قُتلوا أثناء محاولتهم الحصول على المساعدات في الأيام الأخيرة، وسقط العديد منهم في هجمات شنتها القوات الإسرائيلية أثناء محاولتهم الوصول إلى مراكز المساعدات".