الشهيد أنس .. شريف غزة وصوتها الأبي
أنس الشريف .. فارس الكلمة الذي أرعب آلة الحرب
في زمن تتساقط فيه الكلمات كالأوراق الميتة أمام هول المدافع، وقف رجل يغمره الصدق والإيمان، بكاميرا وميكروفون في وجه الاحتلال الغاصب، فكان أشد فتكًا من ألف دبابة وأخطر من مائة مقاتل، وهو الذي ظل لآخر أنفاسه الأخير ينقل للعالم الأخبار، والذي ظل شاهدا على التاريخ المجيد لبلاده فلسطين المقاومة بعزة وكرامة، وكان وسيظل صوت غزة فهو المحارب بالصورة والصوت، الثائر يحمل الحقيقة كسيف مسلول في وجه من ظنوا أنهم قادرون على دفن الحقيقة تحت ركام القنابل، إنه الصحفي شهيد الكلمة والحقيقية أنس الشريف.
هو أنس الشريف المقام كأرض بلاده الصامد القوي، الذي جعل جنرالات عصابات الكيان المحتل يرتعشون خوفًا من تقاريره، والذي أرّق ليالي ضباط المخابرات الكيان الصهيوني المعتدي، فقرروا أن الطريقة الوحيدة لإسكاته هي اغتياله، لكن هيهات! فالشهداء لا يموتون، والحقيقة لا تُدفن، والمقاومة تولد من رحم المأساة أقوى وأعنف.
من أزقة مخيم جباليا الضيقة خرج عملاق الإعلام، ومن بين ركام غزة العزة و المتألمة التي تقاوم بقوة دائمًا، انطلق صوت لا يُكتم، ليثبت للعالم أن فلسطين لن تركع مهما اشتدت العاصفة، وأن شعب غزة سيبقى صامدًاً مقاومًا حتى لو تكالبت عليه جحافل الأرض.
نشأة في قلب المعاناة
في الثالث من ديسمبر عام 1996م، أبصر الصحفي الفلسطيني أنس جمال محمود الشريف، النور وسط أزقة مخيم جباليا، أحد أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، ذلك المعقل الشامخ في شمال شرقي قطاع غزة الذي احتضن طفولته وشكّل وعيه المبكر بقضايا شعبه، كان قدر هذا المخيم أن يحتضن صبيًا سيصبح صوتًا لا يُكتم في وجه آلة الحرب الإسرائيلية الغاشمة.
وارتبط أنس الشريف بعلاقة زواج مع السيدة بيان السنوار، وأثمر هذا الزواج عن فلذتي كبده: شام وصلاح، اللذين شكّلا دافعًا إضافيًا للاستمرار في رسالته الإعلامية رغم المخاطر المحدقة.
رحلة التعليم والتكوين
سلك الشريف دروب التعليم في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» والمؤسسات التعليمية التابعة لوزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وفي عام 2014، التحق بقسم الصحافة والإعلام في جامعة الأقصى، حيث تخصص في الإذاعة والتلفزيون، واضعاً اللبنات الأولى لمسيرة مهنية ستترك بصمة لا تُمحى في تاريخ الإعلام الفلسطيني.
البدايات المهنية وشغف الحقيقة
انطلق «الشريف في عالم الصحافة متطوعًا في شبكة الشمال الإعلامية، حيث أعدّ تقارير متخصصة حول الأوضاع المعقدة في قطاع غزة لصالح شبكات إعلامية متعددة. كان يدرك منذ البداية أن القلم سلاحه والكلمة رسالته في نقل معاناة شعبه إلى العالم.
جراح الميدان وثمن المهنة
في الثالث والعشرين من سبتمبر عام 2018، دفع أنس الشريف أول أثمان مهنته الخطيرة حين أصيب بشظية عيار ناري في البطن أثناء تغطيته مسيرة نُظمت شرق تلة أبو صفية شمال شرقي مخيم جباليا، لكن هذه الإصابة لم تثنه عن عزمه، بل زادت من إصراره على مواصلة رسالته الإعلامية.
مراسل الجزيرة في قلب العاصفة
مع اندلاع عملية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر 2023م، وما تبعها من عدوان إسرائيلي شرس على قطاع غزة، انضم «الشريف» إلى طاقم شبكة الجزيرة كمراسل ميداني، ليصبح صوت غزة الذي لا يهدأ في نقل المجازر والأوضاع الاجتماعية المأساوية التي يعيشها أهل القطاع.
تحت وطأة التهديدات
في نوفمبر 2023، كشف أنس الشريف النقاب عن تلقيه تهديدات مباشرة ورسائل عبر تطبيق «واتساب» من ضباط إسرائيليين يهدفون إلى إجباره على وقف تغطيته للحرب، لكن الصحفي الشجاع أكد بحزم عدم مغادرته الميدان ومواصلة رسالته الإعلامية في شمال القطاع.
مأساة شخصية لم تكسر العزيمة
في الحادي عشر من ديسمبر 2023، تعرض منزل الشريف لقصف مباشر من طائرات الاحتلال الإسرائيلي، مما أسفر عن استشهاد والده، اضطر «الشريف» إلى دفن والده في ساحة مدرسة تابعة لوكالة «الأونروا» ، وتعهد رغم هذه المأساة الشخصية بالاستمرار في تغطية جرائم الاحتلال.
رمزية خلع الخوذة
في منتصف يناير 2025، ومع تواتر الأخبار عن قرب وقف إطلاق النار في قطاع غزة، خلع المناضل الصحفي أنس الشريف خوذته أثناء البث المباشر قائلاً إنها «أثقلت كاهله»، وإن بزته الصحفية أصبحت «جزءً منه» على مدى 15 شهرا من التغطية المتواصلة.
الاستهداف المتصاعد
في أواخر يوليو 2025، تعرض الشريف وزملاؤه الصحفيون لتهديدات جديدة من جيش الاحتلال الإسرائيلي، مما أثار استنكارًا واسعًا من شبكة الجزيرة الإعلامية ومؤسسات دولية عديدة.
الاغتيال.. الصمت القسري للحقيقة
في مساء أمس الأحد العاشر من أغسطس 2025 م، كتب جيش الاحتلال الإسرائيلي الغاشم فصلا مظلمًا جديدًا في تاريخ استهداف الإعلاميين، كعادته في طمس من ينقلون الحقيقة للعالم من قلب أرض العزة غزة، حين اغتال الصحفي أنس الشريف وخمسة من زملائه بعدما استهدف خيمة للصحفيين قرب مستشفى الشفاء في مدينة غزة.
الشهداء الصحفيين.. 238 فلسطينيًا
وذكرت الأخبار مؤكدة أن سبعة فلسطينيين بينهم أربعة صحفيين استشهدوا، مساء أمس الأحد؛ جراء قصف للاحتلال الإسرائيلي غرب مدينة غزة، حيث استهدف الاحتلال بشكل مباشر خيمة الصحفيين أمام مستشفى الشفاء غرب مدينة غزة، ما أدى لاستشهاد سبعة مواطنين بينهم الزملاء الصحفيين أنس الشريف ومحمد قريقع، مراسلي قناة الجزيرة الفضائية، والمصورين الصحفيين إبراهيم ظاهر ومحمد نوفل، وسائق الطاقم، إضافة إلى إصابة الصحفي محمد صبح.
وأكدت وسائل الإعلام ارتفاع عدد الشهداء الصحفيين إلى 238 فلسطينيًا بعد المجزرة التي ارتكبها الاحتلال أمس.
قوات الاحتلال الكاذبة دائمًا
أقر جيش الاحتلال في بيان لاحق باستهداف شهيد الحقيقة أنس الشريف، واصفاً إياه بأنه «إرهابي تنكر بزي صحفي»، مدعياً أنه كان قائد خلية في حركة المقاومة الإسلامية «حماس» وروّج لإطلاق الصواريخ على إسرائيل.
استنكار دولي وإدانة واسعة
لقي اغتيال الصحفي أنس الشريف وزملائه استنكاراً دولياً واسعاً، حيث نددت شبكة الجزيرة الإعلامية بهذه الجريمة واعتبرتها «هجومًا جديدًا سافرًا ومتعمدا على حرية الصحافة »، وحمّلت الشبكة جيش الاحتلال الإسرائيلي وحكومته المسؤولية الكاملة عن استهداف واغتيال فريقها الإعلامي.
هكذا، رحل أنس الشريف تاركاً وراءه إرثاً إعلاميًا حافلًا وذكرى صحفي لم ينحن أمام التهديدات ولم يساوم على الحقيقة، ودفع في النهاية ثمن التزامه برسالته الإعلامية النبيلة، وترك وصيته للعالم أجمع عبر إحدى منصات التواصل الاجتماعي وتداولها النشطاء و مواطنون من مختلف الشعوب العربية والعالم تعبيرا عن حزنهم الكبير لرحيل صوت الكلمة الباقي فينا، وهذا ما أوصى بنشره أنس الشريف في حال استشهاده.
وصية أخيرة لـ صوت الميكروفون الذي هز الاحتلال
«هذه وصيّتي، ورسالتي الأخيرة.
إن وصلَتكم كلماتي هذه، فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي.
بداية السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يعلم الله أنني بذلت كل ما أملك من جهدٍ وقوة، لأكون سندًا وصوتًا لأبناء شعبي، مذ فتحت عيني على الحياة في أزقّة وحارات مخيّم جباليا للاجئين، وكان أملي أن يمدّ الله في عمري حتى أعود مع أهلي وأحبّتي إلى بلدتنا الأصلية عسقلان المحتلة "المجدل" لكن مشيئة الله كانت أسبق، وحكمه نافذ.
عشتُ الألم بكل تفاصيله، وذُقت الوجع والفقد مرارًا، ورغم ذلك لم أتوانَ يومًا عن نقل الحقيقة كما هي، بلا تزوير أو تحريف، عسى أن يكون الله شاهدًا على من سكتوا ومن قبلوا بقتلنا، ومن حاصروا أنفاسنا ولم تُحرّك أشلاء أطفالنا ونسائنا في قلوبهم ساكنًا ولم يُوقِفوا المذبحة التي يتعرّض لها شعبنا منذ أكثر من عام ونصف.
أوصيكم بفلسطين، درةَ تاجِ المسلمين، ونبضَ قلبِ كلِّ حرٍّ في هذا العالم.
أوصيكم بأهلها، وبأطفالها المظلومين الصغار، الذين لم يُمهلهم العُمرُ ليحلموا ويعيشوا في أمانٍ وسلام،
فقد سُحِقَت أجسادهم الطاهرة بآلاف الأطنان من القنابل والصواريخ الإسرائيلية، فتمزّقت، وتبعثرت أشلاؤهم على الجدران.
أوصيكم ألّا تُسكتكم القيود، ولا تُقعِدكم الحدود، وكونوا جسورًا نحو تحرير البلاد والعباد، حتى تشرق شمسُ الكرامة والحرية على بلادنا السليبة.
أُوصيكم بأهلي خيرًا،
أوصيكم بقُرّة عيني، ابنتي الحبيبة شام، التي لم تسعفني الأيّام لأراها تكبر كما كنتُ أحلم.
وأوصيكم بابني الغالي صلاح، الذي تمنيت أن أكون له عونًا ورفيق دربٍ حتى يشتدّ عوده، فيحمل عني الهمّ، ويُكمل الرسالة.
أوصيكم بوالدتي الحبيبة، التي ببركة دعائها وصلتُ لما وصلت إليه، وكانت دعواتها حصني، ونورها طريقي.
أدعو الله أن يُربط على قلبها، ويجزيها عنّي خير الجزاء.
وأوصيكم كذلك برفيقة العمر، زوجتي الحبيبة أم صلاح بيان، التي فرّقتنا الحرب لأيامٍ وشهورٍ طويلة، لكنها بقيت على العهد، ثابتة كجذع زيتونة لا ينحني، صابرة محتسبة، حملت الأمانة في غيابي بكلّ قوّة وإيمان.
أوصيكم أن تلتفوا حولهم، وأن تكونوا لهم سندًا بعد الله عز وجل.
إن متُّ، فإنني أموت ثابتًا على المبدأ، وأُشهد الله أني راضٍ بقضائه، مؤمنٌ بلقائه، ومتيقّن أن ما عند الله خيرٌ وأبقى.
اللهم تقبّلني في الشهداء، واغفر لي ما تقدّم من ذنبي وما تأخّر، واجعل دمي نورًا يُضيء درب الحرية لشعبي وأهلي.
سامحوني إن قصّرت، وادعوا لي بالرحمة، فإني مضيتُ على العهد، ولم أُغيّر ولم أُبدّل.
لا تنسوا غزة…
ولا تنسوني من صالح دعائكم بالمغفرة والقبول».
أنس جمال الشريف