نجيب محفوظ المحترف.. هبة الحارة
كان نجيب محفوظ فريدا. مختلفا. يؤمن بأشياء ربما تختلف معه فيها، لكنه كان مثالا للكاتب المحترف. كان دائما يردد عند تحويل أعماله إلى أعمال درامية أنه مسؤول فقط عما يكتبه. ولا يتدخل في رؤية المخرج أو كاتب السيناريو. ربما كان يؤمن بذلك من باب الاحتراف والمسؤولية، وربما لأنه كان يعي جيدا أن مهمة أي مخرج أو كاتب سيناريو لن تكون صعبة بوجود تشريح متكامل لشخوص رواياته.
كان يكتب واصفا أدق الأشياء التي ربما إذا اجتهد أي كاتب سيناريو أو مخرج لرصدها، فلن يبتعد كثيرا عما كان يفعله محفوظ . تحويل أعمال نجيب محفوظ إلى أعمال سينمائية يعني للمخرج وكاتب السيناريو ضمانة حقيقية لتقديم عمل مختلف شكلا وموضوعا. عملا يبقى دائما في الذاكرة. احترافية نجيب محفوظ ربما تراها بصورة كبيرة في الحارة المصرية فالرجل الذي قدم الحارة رمزا للوطن وشخصياتها لن تجد أفضل منه واصفا ومدققا، عاش بينهم ونهل من كل زقاق وكل تفصيلة، تأثر بها وقدمها بصدق وعن تجربة، فهو ليس مجرد كاتب يملك خيالا خصب يمكنه من صنع التفاصيل، لكنه أيضا كان معايشا ومتأثرا وحاضرا فهو ابن حي الجمالية الحي العتيق الذي كانت جدرانه تحمل حكايات وأرصفته تروي أحداثا وبيوته تحوي الكثير والكثير . نجيب محفوظ لم يكن عابرا على الحارة بقدر ما كان مغروسا في كل ثناياها ودروبها وشخوصها والأكثر أنه كان محللا ومفندا لتحولاتها والأحداث التي مر بها لم تكن تمر مرور الكرام فحادثة "محمود سليمان" التي شغلت الرأي العام في بداية الستينيات كان ممكناً أن تمر مثل أحداث كثيرة مرت لكن لأنه نجيب محفوظ، فقد تحولت الحادثة إلى "اللص والكلاب" تلك الأيقونة التي قدمها بحرفية شاهد عيان، ووضع لها أبعادا أخرى ربما لم يكن أحد غيره يعلمها ويعرفها، فقد اقترب من سليمان، وقدم دوافعه وأصل للحكاية حتى ظهرت للنور في عمل أدبي وسينمائي مختلف وحقيقى.
نجيب محفوظ كان هبة إلهية للحارة ينقل مشاعر ويكتب حقائق ويغير مفاهيم، ويقدم ملاحم وأساطير وثلاثيته الشهيرة سوف تظل مرجعا لأي باحث أو مهتم بتأصيل الحارة.
اللافت في تناول محفوظ للحارة أنه لم يحاول تجميلها أو تعظيم شخوصها، ولكن حاول إنصاف من يستحق الإنصاف وترك الواقع يسترسل بشاعرية مختلفة وإيقاع مغاير قدمه بوعي شديد واحترافية عالية، نجيب محفوظ والحارة حكاية يمكن أن تروى عن تحولات وطن بالكامل، تحولات وتغييرات في نسيج الوطن والمواطن، فلم يكتب يوما راصدا فقط، فهو يدرك أن الكاتب ليس كاميرا فوتغرافيا، ولكنه كان محللا وكاشفا للتحولات كلهن التي طرأت على الحارة والوطن سياسيا واقتصاديا وحضاريا، يضع صراعا داخليا وخارجيا لشخصياته، ويكتب عن أدق مشاعرها، ولا يهتم فقط بأبطال الحكايات، ولكنه يعطى كل من يمر على الحكاية حقه، ويرسم له صورة تفصيلية تظهر أهمية وجوده في الحكاية.
نجيب محفوظ أيقونة الحارة والمتحدث الرسمي لها على مر التاريخ لن تجد أي محاولة كانت لمبدع غيره إلا وتأثر ببناء ووعى ومفاهيم محفوظ في التعاطي مع الدراما . إذا كان يريد تقديم أعمالا ذات قيمة . على عكس المحاولات التي ربما تراها مؤخرا، ولم تهضم فكر محفوظ، وأظهرت الحارة بصورة مبالغ فيها بالسلب أو الإيجاب . ولهذا كان محفوظ هبة الحارة؛ ولهذا سوف تظل الحارة المصرية مدينة لنجيب محفوظ بالقدر الذي منحته فيه أبعادا عالمية وتقديرا عالميا.