رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


هلال المعارف والتنوير

1-9-2025 | 12:30


د. يوسف نوفل

د. يوسف نوفل

في الأول من شهر سبتمبر من عام 1892 صدر العدد الأول من مجلة الهلال، وكانت قيمة الاشتراك خمسين قرشًا مصريًا داخل مصر، أو 12 شلنًا، أو 15 فرنكًا في الخارج. وقد تبع اسم المجلة عنوانٌ فرعي يوضّح مضمونها ومحتواها، هو: (مجلة علمية تاريخية صحية أدبية)، ثم أُعيد طبع العدد الأول طبعة ثانية سنة 1898 في مطابع الفجالة بمصر. وقد تكوّن العدد الأول من 32 صفحة، وما لبث عدد الصفحات أن نما وتضاعف حتى تخطى المائتي صفحة. وقد قام جرجي زيدان بتحريرها، وتولى الإجابة عن أسئلة القراء، وقام بذلك كله في معاناةٍ وفي أجواء سياسية ووطنية خطيرة، حيث كانت مصر تحت سيطرة الاحتلال البريطاني، وفي وقت تعطّلت فيه الصحف الوطنية وتوقفت عن الصدور، كاللطائف المصوّرة لعبد الله النديم، والمفيد للشمسي، وغيرهما، كما تحولت الوقائع المصرية إلى نشرة رسمية فحسب. وظل جرجي زيدان راعيًا لنجم الهلال في آفاق التنوير بسماء الثقافة العربية الحديثة حتى فارق الحياة بين أوراقه في شهر يوليو 1914، بعد أن صارت أوّل مجلة ثقافية عربية شهرية تحتل مكانها التاريخي في حي السيدة زينب، رقم 16 بشارع المبتديان، ولتصبح دار الهلال أقدم مؤسسة ثقافية صحفية مصرية عربية، ولينشر فيها مؤسسها جرجي زيدان معظم كتبه فصولًا متتابعة، ولتصبح أوسع المجلات انتشارًا.

ونشطت الهلال وذاع صيتها، وصارت منبرًا للكلمة والثقافة والحداثة، تتناول قضايا الأدب والثقافة. وفيما بين سني 1932 و1942 أصدرت الهلال 18 عددًا خاصًا حول موضوعات محددة؛ فأصدرت عددًا خاصًا في الأول من فبراير سنة 1966 عن طه حسين، وجزءًا خاصًا عنه أيضًا في أبريل 1975، وأعدادًا خاصة عن كبار الأدباء من أمثال: عباس محمود العقاد، وتوفيق الحكيم، وأمير الشعراء أحمد شوقي، ونجيب محفوظ، وغيرهم. كما أصدرت عددًا ممتازًا بمناسبة مرور 60 عامًا على عملها بالثقافة وذلك في يناير 1953، وأصدرت العدد الذهبي سنة 1942 مؤرخًا لخمسين عامًا من تاريخها الحافل، وظهر العدد الماسي في يناير 1967، وأرّخ العدد الصادر في يناير 1991 لتاريخها عبر 99 عامًا.

وأقبل كبار المفكرين والكتّاب على الكتابة في الهلال، فكتب فيها مشاهير العصر، وكان من أوائل كتّابها: طه حسين، وعباس محمود العقاد، ومحمد عوض محمد، وعبد العزيز البشري، وزكي مبارك، وعبد الرحمن شكري، وزكي طليمات، ومحمود تيمور، وشوقي ضيف، وشكري عياد، ورجاء النقاش، وغيرهم ممن يطول حصر أسمائهم.

وقد ارتبطت الهلال ـ كسائر الصحافة والمطبوعات ـ بالمطبعة وظهورها وانتشارها بمصر منذ أنشأ محمد علي مطبعة قامت على أنقاض المطبعة الفرنسية، التي كانت بواكير منشوراتها نشرة عربية نشرتها الحملة الفرنسية سنة 1799. ويمكن القول إن محمد علي أنشأ المطبعة إنشاءً وطورها تطويرًا فيما بين سنة 1819 وسنة 1830.

ارتبطت نهضة الفنون الأدبية بالصحافة، وهكذا كان حال الهلال؛ فكما نشر محمد حسين هيكل روايته الرائدة زينب بجريدته السياسة الأسبوعية، نشر طه حسين كتابه الشهير الأيام في مجلة الهلال. وأسهمت مجلة الهلال مع شقيقاتها المجلات الأخرى في نهضة الفنون الأدبية، ومنها فن الشعر، فكتب أنطون الجميل عن ديوان خليل مطران في عدد يونيو 1908، وخصصت الهلال الجزء العاشر كله من السنة الرابعة والأربعين الصادر في أول أغسطس سنة 1936 عن الشاعر أبي نواس، ومثل ذلك في أعداد أخرى. وحمل هلال أبريل 1957 ذكرى مرور 25 عامًا على رحيل أمير الشعراء أحمد شوقي، ومثل ذلك مع أدباء آخرين. وكما أسهمت الصحافة الأدبية ـ ومنها الهلال ـ في النهضة الأدبية، أسهمت في النهضة اللغوية، فتبارى علماء اللغة في الكتابة فيها. وأطلت الحداثة من خلال نوافذ الصحافة، وقامت الهلال بدور بارز في تلك المجالات جميعها، وما تزال الهلال نجمًا ساطعًا في سماء الثقافة العربية حتى الآن.

وما دمنا مع نشأة تلك المنارة فمن الصحيح أن نقف أمام منشئها؛ إذ ظهر الهلال في سماء الثقافة العربية والأدب العربي في مصر على يد رائد الرواية التاريخية جرجي زيدان (14 ديسمبر 1861 – 21 يوليو 1914). هذا الشاب الذي أعدّه القدر ليكون رائدًا في مجال الصحافة، ورائدًا في مجال الرواية التاريخية؛ فقد مال منذ بداية حياته إلى القراءة وحب الأدب والثقافة؛ فانجذب إلى سماع القصص الشعبي من الحكواتي، وممن حوله. وأتاحت له نشأته في لبنان رؤية أعلام الفكر والنهضة الفكرية والثقافية والأدبية الحديثة آنذاك من أمثال: إبراهيم اليازجي أو "اليازجيين"، وعبد الله البستاني، وذلك في المطعم الذي كان يملكه أبوه، فأتاح له ذلك الاقتراب من المفكرين وزعماء النهضة الأدبية الحديثة أن ينهل من معينهم ويفيد من علمهم. ومكّنه انتظامه في جمعية شمس البرّ الأدبية التي أُنشئت في بيروت سنة 1869، واختلاطه بأعضائها طلبة الكلية الأمريكية، من الإصرار على الالتحاق بها في مدرسة الطب، ثم انصرف عن دراسة الطب إلى إتمام دراسة الصيدلة، ودراسة اللاتينية. وانتسب إلى الماسونية مثل كثيرين غُرِّر بهم في عصره، بل ألّف كتابًا عنها. ثم شاء القدر أن يهاجر إلى مصر سنة 1883، ضمن أفراد الموجة الثانية من المهاجرين الشوام، وذلك فرارًا من ممارسات السلطان العثماني، منضمًّا إلى الموجة الأولى ممن أسسوا النهضة الصحفية والسياسية.

وهنا بدأت تجليات الصحافة؛ فحين هبط مصر عمل محررًا في صحيفة الزمان اليومية لصاحبها "ألكسان صرافيان" سنة 1884، وعمل مترجمًا في قلم المخابرات البريطاني، ورافق الحملة الإنجليزية النيلية إلى السودان سنة 1884، وأنعم عليه بالميدالية الإنجليزية والنجمة المصرية. ولما عادت الحملة إلى مصر سنة 1885 سافر إلى بيروت فتعلم السريانية، واختير عضوًا بالمجمع العلمي الشرقي، وزار لندن سنة 1886، فنمت ثقافته وتنوعت، مترددًا على المتحف البريطاني والمكتبات والمجامع العلمية هناك. وفي نطاق شغفه بالرحلة عاد إلى مصر في شتاء العام نفسه فتولى إدارة أعمال صحيفة المقتطف سنة 1886 حتى استقال منها سنة 1888؛ ليشتغل بالثقافة وقراءة التراث العربي والغربي، وليواصل الكتابة والتأليف. ثم عمل بالتدريس، كما تابع إسهامات المستشرقين ونشاطهم.

وفي عام 1891 أنشأ (مطبعة التأليف) مع مواطنه اللبناني نجيب متري (ت 1928)، ولما انفضّت الشركة بينهما احتفظ بالمطبعة وأسماها (مطبعة الهلال)، ليصدق الاسم على مسمّى.