رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


عندما يهل “الهلال”.. حكايتي مع رفيقة رحلة عمري المعرفية

1-9-2025 | 12:29


د. كرمة سامي

كيف تصف شجرة المعرفة؟ جذورها قوية واثقة، ضاربة في عمق الأرض لتتشابك مع طبقات تربتها؟ جذعها غليظ صلب ذو قلب سليم، يمتد رأسيًا ليحملها بفروعها وأوراقها وزهورها وثمارها بثبات لا تنتقص منه هبّات الرياح؟ شبكة فروعها ممتدة أفقيًا تمد أذرعها القوية بما تحمله من روائع اللون والشكل والرائحة، لتفترش تحتها دائرة عملاقة تعلن انتصارها على جبروت أشعة الشمس وتُهيمن على الأرض، فترفأ بها وتلطّف قيظها فتصبح المأوى لكل عابر والملاذ؟
هل كان غرس تلك الشجرة الطيبة ذات الأصل الثابت والفرع في السماء عام ١٨٩٢؟ أم قبل ذلك؟ إذ نمت فور غرسها في التربة المصرية، وتحديدًا في حي السيدة زينب، فأنارت حياة المصريين عندما هلت عليهم بدرًا كامل التمام؟
كان ميلادها في شهر رجب مباركًا في حي مبارك، وسط ثنائية التاريخ والجغرافيا الجدلية، حيث المشهد الزينبي هو الحاكي والحكاية، يعج بأصوات الحياة وروائحها ورواياتها. بين شوارعها وأزقتها وحاراتها: بورسعيد وخيرت والمبتديان، يسعى الأطفال يحيى حقي، وسيد مكاوي، ومحمد جابر (نور الشريف)، ونبيل الحلفاوي، وغيرهم يشبّون على دروبها، ويعتركون الحياة، التي قد تعترض مساراتهم فيتحايلون لتفادي مصارعها، منتشين بطِيب يعبق به المكان، أرواح متخالطة تفر من ذنوب حياتها الدنيوية راجية رزق الرحمن وعفوه، وواثقة من المنح.
حشود تصطف وتتفرق: كل يسعى لرزقه؛ زوّار المشهد والمولد، مريدوه، والسقاة، والدراويش، والأفندية، ورواد المقاهي، وأصحاب الحوانيت، والباعة الجائلون، ومواكب الفتيات اللاتي يخفين أجسادهن بحقائب الكتب متوجّهات إلى مدرسة السنية بشارع الكومي وسيشاركن في مظاهرات ثورة ١٩١٩، وأطفال لا يستحون من ركل الحصى بأحذية رقيقة "على قد الحال"، وصلاة الجماعة في ابن طولون، وأمسيات الأزجال والأشعار في بيت الكريتلية. حتى الأحجار تعي مشاركتها في كتابة التاريخ، تنقشه في ذاكرتها الحجرية ويُنقش عليها.. الكل حاضر ومتهيّئ للحدث الأكبر: ميلاد فريد في الوطن العربي شاء الرحمن واختار مصر له موطنًا، فهنيئًا لشعب مصر الكرام.
وسط ذلك المشهد التاريخي كتبت دار الهلال تاريخًا جديدًا مشاركًا، بل ينبعث النور من بين أحرف اسم "دار الهلال"، التي يتجاوز تاريخها عمر دول في كل القارات، بل هي دولة مستقلة ولها وزاراتها: مجلة الهلال التي تأسست عام 1892، فهي الأقدم والأكثر عراقة في عالم المجلات الثقافية في الوطن العربي، والمصور السياسية الاجتماعية ذات الشعبية العريضة وقت تأسيسها عام ١٩٢٤، وتظهر في السماء الكواكب عام ١٩٣٢ بخفة ظلها وطلتها المحببة في وطن منتج فنيًا وثقافيًا. وتتأسس حواء الرائدة في عالم الصحافة النسائية عام ١٩٥٥، ثم تظهر سمير وميكي اللتان تأسستا بين عامي ١٩٥٦ و١٩٥٩، ولكل منهما توجهها ورسالتها وجمهورها من القراء الصغار. ولا يكتمل العقد الفريد إلا بكتاب الهلال وروايات الهلال؛ فتلك حكاية أخرى لها سحر ألف ليلة وليلة وفتنته، يعلمه قراؤها تمام المعرفة.
تربطني بدار الهلال علاقة مقدسة من المهد إلى اللحد، ولها دَين في عنقي، ويا له من دين! على صفحات مطبوعاتها تعلمت القراءة. ثم كلما اشتد عودي تدريجيًا انضمت مطبوعة جديدة من مطبوعاتها لأنهل منها فيض المعرفة وأتلذذ بنعمة القراءة ومتعتها. أعود كل خميس من المدرسة مبكرًا عن موعدي اليومي، ألقي حقيبتي المدرسية على أول مقعد أو منضدة، غير عابئة بتوبيخ أمي، باحثة عن ضالتي: هدية نهاية الأسبوع التي أحلم بها منذ أول حصة في كل خميس من كل أسبوع. أتمنى أن ينتهي اليوم الدراسي سريعًا لأعود إلى أحضان مدرستي الحقيقية: مجلة ميكي، مصنع الأطفال المثقفين. أقرأ رسوماتها، أتمتع بطرف إصبعي بالخطوط الناعمة الانسيابية والألوان الزاهية. لم تعتد عيناي قراءة الأحرف بعد وتكوين كلمات من نظمها. لم يحن الوقت بعد، فأنا تلميذة في رياض الأطفال! يا للحظ الأزرق! (وللحق لا أعرف لماذا لونه تحديدًا أزرق؟!) عليّ أن أنتظر عودة والدي من الجريدة ليقرأ لي الأحرف المطبوعة داخل بالونات الحوار المستطيلة أو الدائرية داخل كل إطار! وإذا تأخر فهذا يعني انتظاري لصباح الجمعة عندما يستيقظ سيادته من نومه. أتظاهر بالصبر وحُسن الخلق، وقبل أن يتناول إفطاره أضع المجلة على ساقيه وآمره أن يقرأ لي! يبدأ في القراءة وأستمع إلى قراءته التمثيلية التخيلية الممتعة، لكن فجأة ينقطع الصوت، لأن والدي العزيز شغلته أحداث القصة ومغامرة ميكي مع الشبح الأسود وكيف سينقذ ميمي من براثن الشبح (رغم جهلي بمعنى كلمة براثن وقتها) ونسي كليّة كريمته "الغلبانة" التي تنتظر منه كلمة تضاهي بها ما تراه عيناها من رسوم. يتحول المشهد الجميل بين الأب وابنته إلى مشاجرة طفولية تنتهي بامتناع الأب عن القراءة عقابًا للابنة على مطالبتها له بأن يلتزم بدوره قارئًا خصوصيًا لها!
بعد تكرار تلك المواقف المحبطة اتخذت الابنة قرارًا جريئًا بالاعتماد على نفسها عملًا بقانون "حمارتك العرجاء"، وقررت أن تقرأ بنفسها قصص المجلة. وساعدها على ذلك أنها، مع التقدم في العام الدراسي، كانت قد حفظت أشكال أحرف اللغة العربية واستطاعت أن تفك رموزها، ليس ببراعة والدها وسرعته ومهارته في تقمص الشخصيات وتغيير الصوت والنبرة مع تطور الحدث، لكنها اعتزت باستقلالها. وعندما سألها والدها صباح أحد أيام الجمعة أن تأتي بالمجلة ليقرأها لها، كان ردها بعدم اكتراث متعمّد: "لقد قرأتها بالفعل!" وانصرفت من الغرفة وهي تشعر بنظرة زهو وفخر في عيني والدها تتبعها حيث ذهبت!
هكذا بدأ مشواري مع أجمل متع الحياة: القراءة، وبفضل دار الهلال التي شملتني برعايتها وشكّلتني. لكن الحكاية لم تنته بعد! في بداية السبعينيات، ربما عام ١٩٧٤، عُرض في سينما روكسي فيلم جاتسبي العظيم بطولة روبرت ردفورد وميا فارو، وإخراج جاك كلايتون. وتأثرت بأحداث الفيلم وما تعرض له جاتسبي من ظلم، وبكيت عندما أصابته رصاصة في حمام السباحة في نهاية الفيلم، وظللت أبكي في طريق عودتنا سيرًا على الأقدام من سينما روكسي حتى بيتنا بنهاية حديقة المريلاند. واستثمر أبي الموقف بمكر، فأعلمني أن الفيلم منقول عن رواية لأديب أمريكي شهير اسمه سكوت فيتزجيرالد، وأن نسخة الرواية لدينا في مكتبتنا بالبيت، وسألني إن كنت أحب أن أقرأها، فوافقت بلا تردد. وفور وصولنا أخرج والدي طبعة الهلال للرواية من أعلى رف بالمكتبة بغلافها المميز. لم تكن رواية طويلة وتطابقت أحداثها إلى حد كبير مع الفيلم. لم أكن أعلم وقتئذ أن كاتب السيناريو هو فرنسيس فورد كوبولا، لكن الرواية سُجّلت في تاريخي الشخصي بصفتي قارئة ناشئة باعتبارها أول رواية مترجمة أقرأها، وأصبحت الرواية حجر الزاوية في ريبرتوار قراءاتي، إذ صرت كلما دعتني الحاجة أكرر قراءتها "انتقامًا بالقراءة" ممن ظلموا جاتسبي وصوّبوا سلاحهم نحو ظهره.
لم أكن أعرف وقتها أن أمريكا الرأسمالية قتلت صغارها وأن الحلم الأمريكي فقد براءته في "العشرينيات الذهبية"، لكنها... دار الهلال... اكتسبت ثقتي، وصارت أصابعي تعرف طريقها إلى مطبوعاتها في مكان مميز في مكتبتنا. وتوالت المراحل لتتطور مع كتب الهلال وترجماتها وأغلفتها المميزة التي رسمتها الفنانة سميحة حسنين وزينتها، والفنانة تماضر محمد تركي، ولم يكشف أنهما وراء هذه الأغلفة البديعة سوى توقيع رقيق في زاوية خجلى على الغلاف: "سميحة"، و"تماضر"!
ولم أكن أعلم أن من بين رؤساء تحرير سلسلة روايات الهلال، وتحديدًا في أزهى عصورها في السبعينيات، كان الدكتور حسين مؤنس! وأن رئيسة مجلس الإدارة السيدة أمينة السعيد، ونائب رئيس مجلس الإدارة صبري أبو المجد! تجسيد لبساطة العظمة وروعتها: "مجلة شهرية لنشر القصص العالمي" أذهلتنا وأربكتنا وتصدرت المشهد الثقافي ببساطة آسرة باحتضانها القراء في مصر والعالم العربي!
هل كانت دار الهلال شجرة معرفة؟! أم نهر المعارف؟! حيث تتدفق المطبوعات من مؤلفات ودراسات وترجمات؟! كانت رواية امرأة الملازم الفرنسي لچون فاولز طبعة الهلال، وأمسيات قرب قرية ديكانكا لنيقولاي جوجول، والسكير ونانا غانية باريس لإميل زولا، وكذلك الحب في المنفى ونقطة النور لبهاء طاهر، بل وترجمته ساحر الصحراء لرواية الخيميائي لباولو كويلو مع مقدمة بارعة وأخاذة لا يكتبها إلا قلم واعٍ وفنّان مثل بهاء. وثلاثية غرناطة بأجزائها الثلاثة لرضوى عاشور، وكذلك سراج لعاشور. وهذه الأعمال درر من كنوز لا حصر لها.
وهل يمكن أن يُحتسب المثقف المصري أو العربي مثقفًا حقيقيًا دون أن تزخر مكتبته الخاصة بالمئات من إصدارات دار الهلال؟! فيكون قد قرأ، على سبيل المثال: ذكريات باريس لزكي مبارك، وأعلام في حياتنا لنعمت أحمد فؤاد، وشرق وغرب لمحمد حسين هيكل، وكتب لها تاريخ لجلال أمين، وفي البدء كانت الكلمة لشكري عياد، وعمر بن عبد العزيز: خامس الخلفاء الراشدين لمحمد عمارة، أو التكوين: حياة المفكرين والأدباء والفنانين.. بأقلامهم. أو قرأ بدائع السير الذاتية العربية واقترب من نبض أعلامنا الذين سطروا لنا تاريخ وطننا ممتزجًا بتاريخهم الشاق الشخصي الفريد مثل مشيناها خطى لرءوف عباس، ومذكرات هدى شعراوي، ومذكرات الزعيم أحمد عرابي؟! هي مجرد أمثلة من كنوز دار الهلال، وحسبها أن تثقّف مواطنًا وتنقله من الظلام إلى النور، وتضع إصبعه على موضع الألم ونبض الأمة لتبعث كينونته وتنقلها من مرحلة الكمون إلى مرحلة الفعل والتفاعل.
حكايات مؤسسة دار الهلال لا تنتهي، نراها دائمًا من زاوية واحدة: كتاب نقرأه في أيدينا أو على أرفف المكتبة ينتظرنا أن نقرأه. هي في المقام الأول جزء لا يتجزأ من مصر وتاريخها، ولابد لنا من توثيقه ونشره في مسار موازٍ لمطبوعاتها القيّمة، لنعرف قيمة الفكر الذي قامت عليه المؤسسة بأنشطتها المتنوعة، يخطط لها ويقودها نماذج باهرة من رجال الأمة ونسائها، ولنفهم فقه تنوع مطبوعاتها وتكاملها الذي جعل منا قرّاء وقارئات منذ الطفولة إلى الشيخوخة، فيما ظلت دار الهلال شابة، عفية، نضرة وبهية، مثلها مثل مصرنا الحبيبة.