رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


بردة البوصيري من النص إلى التعويذة رؤية استشراقية

3-9-2025 | 08:56


د. محمود أحمد نحلة أستاذ اللغة العربية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية

د. محمود نحلة

صاحبة هذه الرؤية مستشرقة مرموقة، أمريكية المولد من أصل أوكراني، وُلدت في ٢٧ أبريل ١٩٥٠، هي سوزان ستيتكيفيتش. حصلت على الدكتوراه في الأدب العربي الكلاسيكي من جامعة شيكاغو عام ١٩٨١.

عملت أستاذة للأدب العربي والأدب المقارن بجامعة إنديانا، ثم أستاذة كرسي السلطان قابوس بن سعيد للدراسات العربية والإسلامية في جامعة جورجتاون، ثم حصلت على جائزة الملك فيصل عام ٢٠٢٢ مناصفة مع زوجها وأستاذها البروفيسور ياروسلاف ستيتكيفيتش في "دراسات الأدب العربي باللغة الإنجليزية".
وجاء في حيثيات منحها الجائزة: "مُنحت البروفيسورة سوزان ستيتكيفيتش الجائزة لامتلاكها مشروعًا نقديًا علميًا تمثَّل في بحوثها ودراساتها التي شملت القصيدة العربية في عصورها المتعاقبة من العصر الجاهلي حتى القصيدة الإحيائية في العصر الحديث، وتميزها في قراءة النص الشعري في سياق نظري محكم، ومنهج تحليلي رصين، ومحاولة جادة لتحديد المنظور النقدي للقصيدة العربية الكلاسيكية عبر الاستعانة بعلوم الأنثروبولوجيا، ونظرية الأدب، والبنيوية، وما بعد البنيوية، والفلكلور، وتاريخ الأديان، وأصبحت دراساتها تشكِّل مدرسة متميزة في دراسة الأدب العربي".
زارت عددًا من الدول العربية، منها مصر عام ٢٠٠١، وألقت محاضرتين: إحداهما في مركز البحوث الأمريكي بالقاهرة، والأخرى في جامعة الإسكندرية عن بردة البوصيري، قبل أن تنشر بحثين عنها. والبحثان يتضمنان رؤيتها النقدية التحليلية لقصيدة البوصيري التي اشتهرت بالبردة، وعنوانها الأصلي كما اختاره البوصيري لها: "الكواكب الدرية في مدح خير البرية".
ترجم لها الدكتور حسن البنا عز الدين ثلاثة كتب إلى العربية، هي: أدب السياسة وسياسة الأدب، والشعر والشعرية في العصر العباسي، والقصيدة والسلطة، وقد راجعت المؤلفة الترجمة بنفسها. ولها أبحاث كتبتها بالعربية، ونشرتها في مجلات عربية مثل مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، والمجلة العربية للعلوم الإنسانية بالكويت، وإصدارات المؤتمر الدولي للنقد الأدبي الذي عقد في القاهرة عدة سنوات. كما ترجم لها مترجمون آخرون مثل محمد عتمان، ومحمد منصور أبا حسين، وإبراهيم عامر أبحاثًا نُشرت في مجلات عربية.
والبحثان اللذان يحملان هذه الرؤية لا يزالان مكتوبين باللغة الإنجليزية لم يُترجما حتى الآن؛ أحدهما عنوانه:
"From Text to Talisman: Al-Būṣīrī's 'Qaṣīdat al-Burdah' (Mantle Ode) and the Supplicatory Ode" (2006).
وترجمتي لهذا العنوان: من النص إلى التعويذة. قصيدة البردة للبوصيري وخصائص قصيدة التضرع (٤٤ صفحة).
والثاني عنوانه:
"From Sīrah to Qaṣīdah: Poetics and Polemics In al-Būṣīrī's 'Qaṣīdat al-Burdah' (Mantle Ode)".
وترجمتي له: من السيرة إلى القصيدة. الشعرية والجدل في قصيدة البردة للبوصيري (٥٢ صفحة).
وسوف أقتصر في هذا المقال على جانب الرؤية التي يحملها البحث الأول (من النص إلى التعويذة) من خلال الالتزام بما جاء فيه، ثم أقدِّم تعقيبًا عليه. أما البحث الثاني ففي وقت آخر إن شاء الله.
الرؤية في هذا البحث تقوم على مقدمة وثلاثة محاور:
المقدمة: قوة القصيدة
بيَّنت الباحثة فيها عناصر القوة في بردة البوصيري، وأولها: قصة شفاء البوصيري من الشلل النصفي الذي حار الأطباء في علاجه، فأخذ وهو في حالة من اليأس والقنوط في إنشاء قصيدة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلما انتهى منها رأى الرسول الكريم في منامه يُلقي عليه بردته، فلما استيقظ وجد نفسه قد بَرِئ من مرضه وعادت إليه عافيته.
وثانيها: الاستخدامات واسعة النطاق في طقوس شعائرية أوردها الباجوري في حاشيته على متن البردة، إذ كان يُضمِّن شرحه لأبيات القصيدة بيان فائدة كل بيت أو أبيات في عمل التمائم والأحجبة؛ لحل المشكلات الاجتماعية، والبرء من الأمراض النفسية؛ بأن تُكتب على رَقّ غزال، أو ورق الأترج، أو جلد ضفدع، وتُعلَّق على ذراع المريض، أو تُمحى بالماء القراح أو الممزوج بالزعفران ثم تُشرب. وأورد نماذج من هذه المشكلات والأمراض مثل حَران الدواب، والشك في الزوجة، وبطء التعلُّم، والاتهام بالسرقة، وجلب الحبيب، ورد العاصي إلى التوبة، والقلب القاسي إلى الطيبة، ومنح الكسلان الطاقة على العمل، بل إن منها ما يجعل المسلم يرى الرسول الأكرم في المنام. ورأى شُرَّاح آخرون أنها نافعة في علاج كل الأمراض الجسدية والنجاة من عذاب القبر.
وعقَّبت الباحثة على ذلك بأن الاستعانة بالقرآن الكريم في التمائم والتعاويذ قد تكون مألوفة لكنها غير معروفة في الشعر؛ والبردة استثناء في ذلك. وقالت إن استخدام بردة البوصيري لهذه الأغراض وظيفة واحدة من مجموعة من الوظائف الأدبية والطقوسية (liturgical) والدينية.
وثالثها: أن بردة البوصيري ولَّدت مئات الشروح، والتشطيرات، والتخميسات، والتسبيعات، والمعارضات، وتعددت طرائق استقبالها والحفاوة بها إنشادًا، وحفظًا، وتلاوةً في المساجد والجنائز؛ أو تلاوات أسبوعية يوم الجمعة.
ورابعها: أن انتشار البردة تجاوز النطاق العربي وصولًا إلى أقاليم إسلامية بعيدة كالمغرب العربي، وتركيا، والهند، وشرق أفريقيا. وهناك ترجمات متعددة لها إلى الفارسية أشهرها ترجمة الجامي (ت ٨٩٨ هـ)، وشملت الترجمات العالم الإسلامي كله تقريبًا من إندونيسيا، وشبه القارة الهندية الباكستانية، إلى آسيا الوسطى، والمناطق الإسلامية في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
وخامسها: أن الاستخدامات الطقوسية لها واسعة ومتنوعة، فهي تتراوح بين الأغراض الشخصية، والولاء للنبي صلى الله عليه وسلم، وممارسات الطرق الصوفية؛ وبخاصة "الطريقة الشاذلية"، إلى تلاوتها في المساجد والجنائز. كما لُحنت بألوان مختلفة من التلحين، وصارت جزءًا من "الريبرتوار" الصوفي في الموالد والحضرات، ووجدت منها نسخ مخطوطة مزخرفة أُعدت للإهداء، وهذا كله شاهد على مكانتها الفنية والروحية والمادية.
المحور الأول: المعجزة والقصيدة
أوردت الباحثة نصوصًا من الكتب العربية مترجمة إلى الإنجليزية تؤكد ارتباط القصيدة بمعجزة شفاء البوصيري من مرضه العضال؛ حتى ذكر الباجوري أن القصيدة من حقها أن تُسمى "البُرأة" لا "البردة"، لأن ناظمها قد برئ بها من مرضه. وأما القصيدة التي من حقها أن تُسمى "البردة" فهي قصيدة بانت سعاد لكعب بن زهير؛ لأن النبي كافأه عليها بالبردة حين أنشدها بين يديه.
وما رواه محمد بن شاكر الكتبي (ت ٧٦٤ هـ) عن البوصيري من أنه نظم القصيدة بعد أن أصيب بالفالج يطلب بها التشفع إلى الله تعالى أن يغفر له، وأخذ يرددها مرارًا ويكثر من البكاء والدعاء والتضرع. ونُقل عنه قوله: "فلما رقدت رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فمسح وجهي بيده المباركة، ثم ألقى عليَّ كساء؛ فلما استيقظت وجدت عافيتي؛ فقمت فخرجت من منزلي، ولم أخبر بذلك أحدًا، فلقيني منشد صوفي فقال لي: أريد أن تنشدني القصيدة التي مدحت بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأجبته: أيهما؟ قال: التي نظمتها في مرضك، وأنشدني مطلعها ثم قال: والله لقد سمعتها البارحة حين أنشدت بين يدي الرسول، فرأيت الرسول يتلهف عليها فرحًا بها، ويلقي على من أنشدها كساء؛ فأعطيته إياها". فذكرها المنشد الصوفي فاشتهرت الرؤيا.
وعقبت الباحثة على هذا بقولها: يمكننا الآن أن نفهم أن الحفاوة الضخمة بهذه القصيدة كان هدفها الاستحواذ على البركة الكامنة فيها، وهي بركة أثبتت تأثيرها بالشفاء المعجز. كما يمكننا أن نفهم الاستخدامات الطقوسية على أنها امتداد لهذا المبدأ وتطبيق له. ولكي تتثبت الباحثة من علاقة المعجزة بالقصيدة عمدت إلى مراجعة القصيدتين اللتين اشتهر بهما البوصيري في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم: البردة، والأخرى مطلعها:
كيف ترقى رقيك الأنبياءُ
يا سماءُ ما طاولتها سماءُ
وانتهت إلى نتيجة مفادها أن كلا النصين يخلو من أية إشارة إلى مرض الشاعر العضوي أو دعوة بالشفاء الجسدي من أي مرض، ورفضت محاولات محمد سيد كيلاني، محقِّق ديوان البوصيري، إيجاد ما يشير إلى إصابته بشلل نصفي، وقالت: إنها لا وجه لها من الحقيقة. ومالت إلى ما لاحظه ستيفان سبيرل من أن الداء ليس عضويا، بل هو داء يمثل أزمة روحية للشاعر تتصل بندم مرير على إخفاقاته الأخلاقية والدينية. ومن خلال مدحه للرسول ورجائه أن يشفع له، استطاع أن يستعيد الثقة بنفسه، ويستمسك بأسباب الأمل أن تُغفر له خطاياه. وهذا العنصر العلاجي متأصل ـ فيما ترى الباحثة ـ في بنية القصيدة ذاتها، وهو في حد ذاته يفسر شعبيتها الهائلة.
ثم تقدم الباحثة دليلا آخر يؤيد الدليل السابق، وهو أن بنية القصيدة وموضوعها يبيِّنان أنها في الأساس قصيدة مدح عربية موجهة إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ بوصفه الممدوح الذي تُقبل شفاعته يوم القيامة. ومن خلال تحليل بنية القصيدة في سياق تقاليد شعر المدح العربي الإسلامي يمكننا فهم قدرة البردة على توليد أو تخليد المعجزة: شفاء الشاعر من مرضه الجسدي عبر القفزة المجازية من الشفاء الروحي إلى الشفاء الجسدي.
في النهاية ترى الباحثة أن نجاح بردة البوصيري يكمن ـ إلى حد كبير ـ في بنيتها الطقسية التي تجعل من القصيدة فعلا خطابيا أدائيا يؤسِّس لرابطة التزام تعاقدي متبادل بين الشاعر والممدوح، بالمصطلحات التي صاغها عالم الأنثروبولوجيا الاجتماعية مارسيل ماوس في مؤلفه الشهير The Gift. حيث تُلزم هدية الشاعر ـ وهي قصيدة المدح ـ الممدوحَ بتقديم هدية مقابلة، وهي في التراث المدحي العربي عطاء مادي أو روحي أو هما معا.
المحور الثاني: قصيدة المدح التضرعي
لكي نفهم كيف يعمل نموذج المدح التضرعي في المدح النبوي عند البوصيري في العصر المملوكي نحتاج إلى المقارنة بين نماذج من التراث المدحي الكلاسيكي عند العرب. ومن النماذج البارزة في العصر الجاهلي اعتذاريات النابغة إلى الملك اللخمي النعمان بن المنذر. فالتاريخ الأدبي يخبرنا ـ على الرغم من صعوبة تصديق ذلك ـ أن النابغة، الذي كان شاعر الملك المفضَّل وصاحبه الأثير، نظم قصيدة اعتذار عن عمل مخجل يتمثل في نظمه قصيدة تتحدث عن علاقة غرامية أقامها مع زوجة الملك، وصف فيها تفاصيل جسمها العاري وصفا شديد الإثارة والجرأة. واشتهرت هذه القصيدة بـ "المتجردة". فلما علم بأن خبرها وصل إلى الملك فرَّ هاربا خوفا على حياته، ولما أيقن حتمية أن الملك منتقم منه لا محالة نظم قصائد يتضرع فيها إلى الملك أن يقبل اعتذاره ويغفر له زلته، أبرزها الدالية، وهي من المعلقات السبع ومطلعها:
يا دارَ ميةَ بالعلياء فالسندِ
أَقْوَتْ وطال عليها سالفُ الأبدِ
وهي ـ كما ترى الباحثة ـ قصيدة كلاسيكية ثلاثية البناء:
•النسيب: ويتضمن الوقوف على أطلال المكان الذي كانت تقيم فيه حبيبته (الأبيات 1-6).
•الرحلة: وصف ناقة الشاعر وتشبيهها بالمهاة التي يحاصرها الصيادون وكلابهم (الأبيات 7-20).
•المدح: وفيه يشبه الملك بالنبي سليمان، ويشيد بكرمه، ويشبِّهه في حدة البصر وقوة البصيرة بزرقاء اليمامة، وفي الجبروت والكرم بنهر الفرات.
وهذه العناصر الثلاثة يتوقع وجودها عادة في قصيدة المدح، ويقع الرحيل في المركز منها، وإن جعله بعض النقاد في الهامش. وسرعان ما يتضح أن التذلل والتضرع هما تعبير عن الخوف والرجاء (الأبيات 20-49). ولا يطلب الشاعر شيئا مقابل مدحه إلا الصفح والغفران. وقد نجحت قصيدة النابغة في تحقيق الهدف الذي سعت إليه، فعفا عنه النعمان وأعاده إلى بلاطه شاعرا وصديقا مقربا، وأنعم عليه بمائة من الإبل الملكية.
والنموذج الثاني قصيدة مدح في التقليد العربي الكلاسيكي لكنها أوثق ارتباطا ببردة البوصيري، هي قصيدة "بانت سعاد" لكعب بن زهير، أول قصيدة سُمِّيت "البردة". وهي تشترك مع قصيدة النابغة في أنها قصيدة اعتذار، والهدف منها الصفح والغفران طريقا إلى الدائرة الداخلية للممدوح التي تمثل مجتمع المقربين منه. وهي بنية ثلاثية تقوم على: النسيب، والرحلة، والمدح التضرعي الاستعطافي. ومما هو جدير بالملاحظة أن هذه القصيدة سُمِّيت البردة لأمر خارج عن بنيتها؛ إذ إن التاريخ الأدبي العربي يخبرنا أن كعب بن زهير، بعد أن أنشد هذه القصيدة بين يدي النبي، أهداه النبي بردته. وعلى الرغم من شهرة هذا الخبر ووروده عند علماء ثقات كابن سلام الجمحي وابن قتيبة، فإن صحة هذه الحكاية موضع شك؛ إذ إنها لم ترد في السيرة النبوية عند ابن إسحاق وابن هشام، ولا في شرح السكري للديوان، ولا في مجموعات الحديث النبوي الشريف إلا في القرن الثالث الهجري.
في هذين النموذجين انتقال من مدح الملك في الجاهلية إلى مدح النبي في الإسلام. وفي كلتا الحالين فإن من طقوس المدح أن تكون الهدية مقابل القصيدة، وإن اختلفت بين دنيوية وأخروية، فإنها ـ كما ترى الباحثة ـ تتم في الزمان والمكان الحقيقيين.
وإلقاء نظرة على المرثية النبوية لشاعر الرسول حسان بن ثابت، التي مطلعها:
بطَيْبَةَ رسمٌ للرسول ومعهدُ
منيرٌ وقد تَعفو الرسومُ وتَهمُدُ
تساعدنا في إيضاح كيف حدث هذا الانتقال. وعلى الرغم من تصنيفها قصيدة رثاء، فمن الممكن النظر إليها في ضوء تطور المدائح النبوية على أنها هجين من الرثاء والمدح. فقد كان الأصل في الرثاء في العصر الجاهلي أن الشاعر يمدح الميت من قرابته وأبطال الحرب دون انتظار مقابل، لأن الهدف تخليد ذكراه بذكر مآثره. لكن الأمر اختلف بظهور الإسلام؛ إذ كان الوعد بالخلود في الآخرة يجعل التخليد بالشعر أمرا زائدا عن الحاجة. أما في رثاء حسان فالوضع مختلف عن الرثاء الجاهلي؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يُقتل في ساحة القتال، وليس الشاعر من أقاربه فيرثيه. ومع ذلك فإن ما قام به حسان صياغة شعرية مبتكرة ورائعة في جمعه بين عنصري الرثاء والمدح، لخلق قصيدة تُعزِّي المجتمع الإسلامي المفجوع بوفاة النبي، وتحثهم على الاستمرار في ولائهم للنبي الذي لم تنته قيادته للمجتمع بوفاته.
تفتتح القصيدة بنسيب في شكل مقدمة غنائية إغريقية عن الدار المدمرة (الأبيات 1-6) للتعبير عن مشاعر الحسرة بفقدان النبي الراحل، لا بعشيقة راحلة. وما يهمنا هنا هو خاتمة القصيدة، المكوَّنة من بيتين اثنين، فيهما تبدو القصيدة مرثية تضرعية ينتظر بها ناظمها هدية هي الحياة الأبدية في جنة الخلد؛ أي أن يدخل الراثي في الدائرة الداخلية لمولاه:
وليـس هوائي نازعا عن ثنائــه
لعــلي به في جــنة الخلد أَخلُدُ
مع المصطفى أرجو بذاك جِوارَه
وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأَجهَدُ
ومما يجعلنا نقدر عبقرية صياغة حسان أن القصيدة التي يمتزج فيها الرثاء بالمدح تؤكد أن النبي لم يكن مجرد حاكم زمني يمثل رحيله إلغاء لواجبات البيعة كما زعم المرتدون، بل هو بالفعل نبي لا تزال روابط الالتزام بينه وبين جماعة المؤمنين قائمة.
المحور الثالث: بردة البوصيري قصيدة مدح تضرعية
ترى الباحثة أن بردة البوصيري تتخذ من الإطار العام لقصيدة المدح العربية الكلاسيكية إطارًا عامًا لها. فيها يختم النسيب بالتوبة عن هوى النفس والتبرؤ منه، والانتقال عن طريق القسم الثاني الخاص بالرحلة من الصحراء إلى عالم من العواطف والولاءات الجديدة الأكثر نضجًا واستقرارًا. أما المديح، وهو القسم الثالث في قصيدة المدح، فقد قسمته بعض الشروح المطبوعة والمخطوطة إلى أقسام ليست أصيلة ولا جوهرية في بنية القصيدة؛ بل إن له أثرًا سلبيًا في التسلسل الشعري والتدفق العاطفي، ومع ذلك قد يكون النظر فيه مطلوبًا للدراسة الموضوعية والبنيوية للقصيدة. وقد نقلت الباحثة عن بدر الدين الغزي (ت ٩٨٤هـ) في كتابه الزبدة في شرح البردة التقسيم الآتي لقصيدة البردة – وعدة أبياتها ١٦٢ بيتًا – إلى عشرة أقسام:
•النسيب النبوي ١-١١
•في التحذير من هوى النفس ١١-٢٨
•في مدح الرسول الكريم ٢٩-٥٨
•في التحدث عن مولده ٥٩-٧١
•في التحدث عن معجزاته ٧٢-٨٧
•في التحدث عن القرآن الكريم ٨٨-١٠٤
•في التحدث عن الإسراء والمعراج ١٠٥-١١٧
•في التحدث عن جهاد الرسول وغزواته ١١٨-١٣٩
•في التوسل والتشفع ١٤٠-١٥١
•في المناجاة والتضرع ١٥٢-١٦٢
ورأت أننا إذا حذفنا جميع الأقسام التي يبدؤها الغزي بـ "في التحدث" التي تتناول أحداثًا في حياة النبي، وجدنا باقي أقسام القصيدة (١-٣ / ٩ / ١٠) في تسلسلها وموضوعاتها تشكل قصيدة مدح كلاسيكية بعنصريها الأساسيين: النسيب والمدح. بيد أن المدح التضرعي اقتضى عنصرين آخرين هما: إظهار التذلل، والتضرع. فأصبحت العناصر أربعة: النسيب، والتذلل، والمدح، والتضرع. لكن الباحثة لم تكتف بتحليل البردة من خلال هذه الأربعة، بل آثرت التقسيم العشري الذي اقترحه بدر الدين الغزي، ولم تقدم تفسيرًا لذلك. ومضت تحلل كل قسم مع ترجمة قامت بها لكل أبيات البردة من خلال التقسيم العشري، ثم ألحقت بالبحث النصوص الشعرية العربية التي لم ترد أن تثقل بها المتن.
وقد ختمت الباحثة البحث بخاتمة قدمت فيها تقييمًا لنجاح البردة الأدبي والديني، وانتهت إلى أن البردة بنية طقوسية شعائرية تقوم على عقد ملزم بين طرفين: الشاعر والممدوح؛ القصيدة في مقابل الهدية، وهي في قصيدة البردة "شفاعة" الرسول صلى الله عليه وسلم.
تعقيب
أريد أن ألفت إلى عدة أمور في هذه الرؤية الفريدة لبردة البوصيري:
•لا تزال الرؤية التي قدمتها في هذا البحث في حاجة إلى استكمال بما تضمنه بحثها المكمل لهذا البحث وعنوانه: من السيرة إلى القصيدة. الشعرية والجدل في قصيدة البردة للبوصيري (٥٢ صفحة)، الذي نشر بعد هذا البحث عام ٢٠٠٧، ولعلي أقوم بذلك في وقت قريب إن شاء الله.
•هذا البحث امتداد لجهود بدأتها الباحثة منذ عقود في تحليل القصيدة المدحية بوصفها غرضًا شعريًا متأصلًا في التراث الشعري عند العرب؛ وهذا البحث يمثل مرحلة من النضج العلمي، إذ يجمع بين التحليل البنيوي والتاريخي والأنثروبولوجي.
•اختيار الباحثة للبردة لم يكن عشوائيًا، فهي نص مثالي للتحليل لأن فيه خصائص أهمها: سعة الانتشار، وتعدد طرائق الاستقبال وتنوعها، والبنية الطقسية الشعائرية، والحكاية التأسيسية التي أسهمت في بناء هالة أسطورية للقصيدة.
•عالجت الباحثة مشكلة البحث التي تتمثل في الإجابة عن السؤال: ما الذي يجعل نصًا شعريًا يتحول من قصيدة إلى تعويذة؟ معالجة بارعة من خلال العلاقة بين البنية الشعرية والبنية الطقسية، والعناية بكيفية انتقال النص من الفضاء الأدبي إلى الفضاء الشعائري، وهو انتقال تحكمه قواعد أدبية وطقسية متوارثة.
•نظم البوصيري القصيدة وشفاؤه ببركتها ليست مجرد حادثة شخصية، بل هي ما يسميه علماء الأنثروبولوجيا "الميث المؤسس" Founding Myth أي الحكاية التي تمنح النص مكانته الرمزية. وقد رأت الباحثة أن هذه الحكاية ليست هامشية بل هي مفتاح لفهم كيف تحول النص إلى تعويذة أو بركة.
•اعتمدت الباحثة في دراستها على التحليل البنيوي الموضوعي للوقوف على كيفية بناء النص داخليًا وتوزيع أجزائه توزيعًا موضوعيًا، كما اعتمدت على المقاربة الطقسية-الأنثروبولوجية لتحديد موقع النص في الممارسات الدينية والاجتماعية، ثم على المقارنة التاريخية الأدبية لرصد امتداد النموذج الشعري عبر العصور.
•استعانت الباحثة بمفهوم الأداء في الدراسات الأنثروبولوجية حيث ينظر إلى النص بوصفه فعلًا اجتماعيًا حيًا لا مجرد فعل لغوي.
•أفادت الباحثة من نظرية "الهدية" عند مارسيل موس في فهم العلاقة بين المادح والممدوح في السياق، حيث يقدم الشاعر هدية رمزية ويعطيه الممدوح مكافأة عليها، وفي البردة لم تكن المكافأة مادية بل كانت شفاءً روحيًا وجسديًا.
وبعد، فهذه هي رؤية الباحثة لقصيدة البردة التي رفدتها خبرة أكاديمية منهجية وتحليلية مستمدة من تخصصات بينية أثرتها وجعلتها نموذجًا يحتذى لدراسة الشعر العربي خارج الدائرة النمطية التي سدت علينا كل منافذ الرؤية الشاملة.