رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الصوفية.. الرحلة الخالدة إلى قلب العالم

6-9-2025 | 10:54


هناء متولي,

كلما أطللت من نافذتي على العالم، شعرت بأن هناك شيئًا آخر وراء المشهد المألوف: الشوارع، الأجساد، الأسواق، الجبال، الأنهار… طبقة خفية لا تراها العين مباشرة. شيء أشبه بنبض سري يسري في كل حي، يتحرك بلا صوت، لكنه محسوس في كل شيء. أراه في انحناءة عجوز تسقي شجرة ياسمين، وفي لمعة عين طفل يكتشف المطر لأول مرة، وفي يد عاشق تلتقط يدًا مرتجفة عبر المسافات.

ذلك الحضور الخفي، الذي يربط بين النجوم البعيدة وذرة غبار على كتاب قديم، هو ما يسميه الصوفيون “الحضور”: إدراك أنك لست منفصلًا عن الكون، وأنك جزء من نَفَس واحد عظيم.

الصوفية ليست مجرد مدرسة دينية، وليست امتدادًا للإسلام وحده. هي في أصلها الأبعد، محاولة الإنسان منذ فجر التاريخ أن يصغي إلى هذا النبض، أن يتجاوز سطح الأشياء، وأن يختبر الوصل بدل الفصل
الجذور القديمة للصوفية: من الطقوس البدائية إلى الأفق الكوني.

قبل آلاف السنين من أن يُعرف مصطلح “صوفي”، كانت هناك حركات روحية في حضارات متعددة تبحث عن الانسجام مع سرّ خفي يحكم الكون، أو عن الوصول إلى اليقين.

في مصر القديمة، كان الكهنة والمرتّلون يمارسون طقوسًا دقيقة، يجلسون ساعات طويلة في صمت أمام المعابد، يرددون أسماء الآلهة بصوت خافت، ويحرصون على كل حركة في جسدهم، وكل نفس يطلقونه، اعتقادًا أن هذه الرموز الصوتية والجسدية تكشف لهم عن حكمة أعلى. كانت الطقوس أشبه برقصة مع الكون، حيث يصبح الزمن مائعًا والمكان بلا حدود، ويشعر الإنسان أنه جسر بين الأرض والسماء.

في الهند، وُلدت تعاليم الفيدا واليوغا، حيث جلس الحكماء في الكهوف يراقبون أنفاسهم وحركات أجسادهم، يستمعون إلى صدى أقدامهم على الأرض، ويغوصون في صمتهم حتى أصبحوا جزءًا من إيقاع الكون نفسه. التأمل كان أداة لاكتشاف الذات والكون معًا، وتجربة وحدة متناهية مع كل ما يحيط بالإنسان: الأشجار، الريح، نهر يمر بهدوء، أو ضوء شمس يتسلل بين الصخور.

وفي الصين، ظهر الطاويون ببحثهم عن “التاو”– الطريق الذي يسري في كل شيء. لم يكن مجرد مبدأ فلسفي، بل ممارسة حياتية: كل حركة، كل لفظ، وحتى كل طعام كان جزءًا من تجربة التأمل. كانوا يرون أن التفصيلات الصغيرة –قطرة ماء، نسيم خفيف، نغمة عصفور– تحمل الحقيقة الكونية، وأن إدراكها هو بداية معرفة أكبر.

في كل هذه الحضارات، وعلى الرغم من اختلاف الرموز والطقوس، كانت هناك نقطة التقاء واحدة: الإنسان ليس كائنًا مكتفيًا بذاته، بل جسر بين الأرض والسماء. هذا الإدراك العميق أصبح فيما بعد البذرة التي نمت داخل الصوفية الإسلامية، حيث تتحول التجربة الفردية إلى مسار روحي شامل يجمع بين الحب والمعرفة، الرحمة والفناء، والبحث عن الحقيقة مع العيش في العالم
الصوفية في الأديان الكبرى.

مع ظهور الأديان الكبرى، لم تختفِ الروح الصوفية، بل ارتدت أثوابًا جديدة لتتلاءم مع كل سياق ثقافي وديني، دون أن تفقد جوهرها: البحث عن الاتحاد بالمطلق وتجربة الحضور العميق.

في المسيحية، برزت شخصيات مثل يوحنا الصليب (John of the Cross، 1542–1591) وتريزا الأفيليّة (Teresa of Ávila، 1515–1582)، اللذين صاغا رحلات روحهما إلى الله بلغة العشق الإلهي. تريزا تصف شعورها بالحب الإلهي وكأن قلبها يتوهج داخلها، فيصبح كل لحظة عادية مشحونة بالقداسة. يوحنا الصليب عاش لحظات صمت وتأمل في الأديرة، مكتشفًا أن اللقاء الحقيقي مع الله يحتاج إلى حضور كامل لكل شعور وعاطفة، وليس مجرد طقوس خارجية.

في اليهودية، ظهرت الكابالا، التي نظرت إلى النصوص المقدسة كخرائط سرّية لفهم البنية الروحية للكون. القُدس لم يكن مكانًا فقط، بل رمزًا، والكتابات لم تكن مجرد حروف، بل أدوات لفهم الباطن.

المتأملون الكاباليون يمشون ساعات في صمت، يترجمون الرموز إلى مشاعر، ويكتشفون أن العالم المادي انعكاس لعالم أعلى، وأن كل فعل صغير يحمله الإنسان يمكن أن يكون نافذة على اللا محدود.

في البوذية، تجلّى التصوف في التأمل العميق في الفراغ والوعي. الزن الياباني (Zen) يرى أن لحظة التنوير قد تولد من أبسط الأمور: سقوط زهرة على سطح بحيرة، نسمة تهز الغصن، أو صمت طويل في الغابة. الفهم هنا ليس فكريًا فقط، بل جسدي وروحي معًا، إذ يصبح كل نفس وكل حركة جزءًا من درس الكون.

أما في الإسلام، فقد تشكّل التصوف كتيار يسعى للوصول إلى المشاهدة الإلهية، كما قال أبو يزيد البسطامي (توفي 261 هـ): “غبت عني، فحضرت بي”. الطريق الصوفي يبدأ بالشريعة لضبط الظاهر، ثم يمر بالطريقة لتوجيه السالك، وينتهي بالحقيقة حيث يُكشف الباطن. الرحلة ليست خطية، بل دوائر لولبية تعيد الإنسان إلى ذاته، كل مرة بعمق أكبر، كما لو أن العالم كله يعلمه أن الحب والمعرفة متشابكان في قلب الروح.

هذه الأمثلة تُظهر كيف أن الصوفية، في مختلف الثقافات، لم تكن مجرد ممارسة دينية، بل تجربة وجودية: بحث عن الحقيقة في قلب الأشياء، عن النور خلف الظلال، وعن الوصل خلف الانفصال. رغم اختلاف الرموز والطقوس، كان الهدف واحدًا: تجربة الإنسان بوحدة الوجود، والشعور بأن الذات ليست منعزلة، بل جزء من كل أكبر وأعمق
الرحلة الصوفية: من الشريعة إلى الحقيقة.

في التراث الإسلامي، يصف المتصوفة طريقهم الروحي بأنه يبدأ بالشريعة، أي ضبط الظاهر وتنظيم الحياة وفق مبادئ الدين، ثم يمر بالطريقة، أي سلوك الطريق الداخلي، وينتهي بـ الحقيقة، حيث يُكشف الباطن. هذه الرحلة ليست خطًا مستقيمًا، بل دوائر لولبية تعيد السالك إلى ذاته مرات ومرات، لكن كل مرة بعمق أكبر وفهم أوسع.

يقول جلال الدين الرومي (1207–1273): “أنت لست قطرة في المحيط، بل المحيط كله في قطرة.” هذا القول ليس مجرد استعارة، بل تجربة حسّية: كل لحظة في العالم انعكاس للكل، وكل شعور بالوحدة نافذة على الحقيقة المطلقة.

البداية عادةً تكون بالانضباط والورع، كما عند الحسن البصري (642–728)، الذي ركّز على مراقبة النفس ومحاسبتها والخوف من الحساب. لكن السالك يكتشف أن الخوف وحده لا يكفي، وأن الحب يجب أن يرافقه، لأنه مفتاح الفناء في الله. وهكذا تحوّل الزهد الصارم إلى تجربة روحية أعمق، حيث يختبر الإنسان الانغماس في الحب الإلهي والشوق العميق الذي يحرك كل فعل وفكرة.

الرحلة الصوفية لا تتوقف عند حدود الفرد؛ فهي علاقة متجددة مع العالم كله. في كل مشهد، في كل همسة نسيم أو شعاع شمس، يرى الصوفي أثر الحقيقة. الرحلة إذًا ليست مجرد طريق روحي، بل حياة كاملة، حيث يصبح كل فعل — من بسمة إلى دمعة — جزءًا من ممارسة الوعي وفهم الذات والكون معًا

الصوفية الإسلامية: من الزهد إلى مدرسة المحبة

ظهرت الصوفية في صدر الإسلام أولًا كحركة زهد، رد فعل على مظاهر الترف والثراء التي صاحبت اتساع الدولة الإسلامية. كان الزهاد الأوائل، مثل الحسن البصري (642–728)، يركزون على محاسبة النفس ومراقبة كل فعل، والخوف من الحساب الآتي، معتقدين أن ضبط الظاهر هو السبيل لتحرير الروح.

لكن الزهد لم يلبث أن تطوّر إلى تجربة أعمق. مع رابعة العدوية (713–801)، بدأ حب الله يُقدّم كغاية في حد ذاته، بلا انتظار جنة أو خشية نار، بل حبًا لذاته. قالت رابعة:

“إني أحبك حبّين: حب الهوى، وحبًّا لأنك أهل لذاك.”

هذه الكلمات ليست مجرد شعور عاطفي، بل إعلان عن انقلاب داخلي؛ الروح تبحث عن الله كشهوة وحضور دائم، وليس كواجب أو طقوس.

ثم جاء الجنيد البغدادي (830–910) ليؤسس منهج “الصحوة” داخل التجربة الصوفية، جامعًا بين الفناء في الله والبقاء في وعي الواقع. عنده، الفناء ليس موتًا للذات، بل انتقال للوعي الكامل، حيث يصبح الإنسان متواجدًا في العالم بعمق، لكنه غير متشبث بأنانيته أو رغباته العابرة.

في مرحلة لاحقة، صاغ ابن عربي (1165–1240) مفاهيم أوسع حول وحدة الوجود، حيث يقول:

“لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي، إذا لم يكن ديني إلى دينه داني، لقد صار قلبي قابلاً كل صورة، فمرعى لغزلان، ودير لرهبان.”

هنا، تتحول اللغة الرمزية إلى أداة لفهم الكون: كل شيء قابل للاحتواء، كل تجربة قابلة للمعنى، وكل الحب جزء من كشف الحقيقة.

مع هذه المرحلة، صارت الصوفية مدرسة محبة، تعتمد على الرمزية والشعر والموسيقى، وتفتح أبوابها لمن يريد أن يعيش تجربة روحية عابرة للحدود الدينية واللغوية. الحب، الشوق، والبحث عن الحقيقة أصبحوا جوهرها، وهذا ما جعلها لغة عالمية، يمكن لأي إنسان أن يلمسها، حتى لو لم يأتِ من خلفية دينية إسلامية

أمثلة ورحلات روحية.

الرحلة الصوفية ليست مجرد نظرية، بل حياة تُعاش بكل تفاصيلها، أحيانًا بعنف، وأحيانًا بلحظات صفاء صامتة. الحلاج (858–922)، على سبيل المثال، سُئل يومًا:

“ما التصوف؟”

فأجاب:

“أن تأخذ روحك بيدك وتضعها بين يدي الله.”

ليست كلمات مجردة، بل صرخة تجربة شخصية، رحلة داخلية تتجاوز حدود الكلام والمنطق.

إبراهيم بن أدهم (ت 777–782 تقريبًا)، الأمير الذي ترك ملكه ليعيش زاهدًا، يعكس لحظة التحوّل الصوفي في أبسط صورها: اصطدام عنيف بين الذات والعالم، حيث يدرك الإنسان أن السلطة والثروة لا تُرويان عطش الروح. ترك كل شيء وراءه، لكنه لم يهرب من الحياة، بل دخل في صمتها العميق ليكتشف معنى الحرية الحقيقية.

في خارج العالم الإسلامي، نجد نماذج مشابهة، مثل القديس فرنسيس الأسيزي (1181–1226)، الذي ترك حياة الثراء ليعيش بين الفقراء، مكتشفًا أن الفقر ليس حرمانًا، بل تحررًا من وهم الامتلاك. يمشي بين الناس بحذاء شبه ممزق، ينظر إلى كل وجه وكأنه يقرأ فيه أثر الله. هنا، الرحلة الروحية تتخذ شكل حياة يومية بسيطة، مليئة بالملاحظات الصغيرة: ضحكة طفل، شعاع شمس، همسة طائر.

كل هذه الأمثلة تُظهر أن الرحلة الصوفية تبدأ بالترك وتنتهي بالامتلاء. ترك الأشياء المألوفة، أو السلطة، أو التعلق، ليس هدفًا في ذاته، بل وسيلة لاكتشاف جوهر الذات والعالم معًا. إنها رحلة يشعر فيها الإنسان بكل لحظة، حيث يصبح كل حدث صغير نافذة على اللانهائي، وكل شعور عابر بوابة إلى الحقيقة

الصوفية كلغة مقاومة.

منذ القرون الأولى، واجه المتصوفة اتهامات بالزندقة والابتداع، لأنهم خرقوا القوالب الصارمة للخطاب الديني الرسمي. لكن ما اعتُبر ضعفًا من قبل السلطات، أصبح لاحقًا مصدر قوتهم: القدرة على خلق لغة رمزية حرة، تنجو من قبضتها، وتصل مباشرة إلى قلب المريد.

المتأمل في نصوص المتصوفة يكتشف أن الرموز، من الخمر والسُّكر والوصل والفناء، لم تُختَر عبثًا. كلها استعارات حية، تحرّر الخطاب الروحي من الطقوس الجامدة والقيود الاجتماعية، وتفتح نافذة على تجربة شخصية عميقة. فـالخمر ليست مجرد شراب، بل هي سُكر الروح بفيض الحضرة، والمعشوقة ليست جسدًا، بل الحقيقة المطلقة التي لا تُدرك إلا بالقلب.

بهذه اللغة، أصبحت الصوفية أداة مقاومة ناعمة، تنسج بين الشعر والفلسفة والروحانية، وتجعل الإنسان يبحث عن المعنى بنفسه، بعيدًا عن وصاية السلطة أو القيود الفكرية. منذ البداية، كانت تجربة الصوفي وسيلته لفهم العالم بعيون أخرى، تجربة تُعلّم الحرية الداخلية قبل أي شيء آخر.

الصوفية بهذا المعنى ليست مجرد ممارسة روحية، بل مشروع حياة قائم على السؤال، على البحث، على مواجهة القيود بالصوت الداخلي، وعلى تحويل النص الديني من خطاب أمر ونهي إلى شعرية سؤال ودهشة، ومن يقين مغلق إلى رحلة مفتوحة نحو الحقيقة

الصوفية اليوم: بين السوق والسر.

في عالمنا المعاصر، تعيش الصوفية على مفترق طرق. من جهة، هناك حضور شعبي وتجاري متزايد: مهرجانات الموالد في القاهرة وطنطا، حلقات الذكر في الخرطوم، والموسيقى الصوفية في المهرجانات العالمية. حتى الغرب تبنى جلال الدين الرومي كرمز “إلهام شخصي”، وإن كان أحيانًا يُنزَع من سياقه الروحي العميق ليصبح مجرد شاعر حب.

من جهة أخرى، هناك تيار سرّي أو فردي، حيث يبحث الناس عن لحظات خلوة صغيرة، عن شيخ أو كتاب أو حتى صمت في الطبيعة، بعيدًا عن صخب العالم. هنا، تتحول الصوفية إلى مساحة للهدوء، للانغماس في الذات، وللصوت الداخلي الذي يعيد للإنسان توازنه وسط ضوضاء الحياة.

بين هذين القطبين -الانفتاح التجاري والحفاظ على السر- تتأرجح الصوفية المعاصرة. إما أن تذوب في ثقافة السوق، فتفقد كثيرًا من عمقها، أو تحافظ على سرّها وتظل هامشية، حية في صمتها، قوية في قدرتها على التواصل مع الروح الفردية لكل من يبحث عن المعنى الحقيقي

تحولات الصوفية وظهور مفاهيم جديدة: العشق الإلهي نموذجًا.

منذ بداياتها، وُلدت الصوفية كحركة قلبية قبل أن تصبح منظومة فكرية. ذروتها تجلت في مفهوم “العشق الإلهي”، ذلك الشعور الطاغي بالانجذاب إلى المطلق، الذي يحرق المسافات بين الخالق والمخلوق، ويحوّل العبادة إلى علاقة وجدانية تتجاوز حدود الذات.

في القرون الأولى، عند رابعة العدوية والحلاج وابن الفارض، كان العشق الإلهي أشبه بجرح روحي يتسع ليبتلع الكائن كله. لغة هؤلاء لم تكن تنظيرية، بل صرخات شعرية مكتوبة على جدار الروح، صدى للصمت العميق الذي يفتح أبواب الوجود. كل كلمة، كل حرف، كل نظرة، كانت محاولة للاقتراب من الله بحضور كامل، بدون واسطة طقسية أو سلطة خارجية.

مع مرور الزمن، ومع تنظيم الطرق الصوفية وإدخالها في الزوايا والمؤسسات الروحية، بدأ العشق الإلهي يكتسب ملامح شعائرية ورمزية. لم يعد انفجارًا داخليًا حرًا، بل صار جزءًا من نظام الطاعة والإرشاد. في بعض المراحل، اختُزل في رموز وأناشيد، منفصلًا عن جذوته الأولى: الشوق الداخلي الصافي الذي يحرّك كل شعور وكل فعل.

في العصر الحديث، عاد العشق الإلهي للظهور في سياقات جديدة، لم تعد حكرًا على المتصوفة التقليديين. صار يُقرأ في نصوص شعراء حداثيين، وفي تجارب باحثين عن المعنى خارج الأطر الدينية الصارمة. هنا، لا يُنظر إلى العشق كعلاقة عمودية مع الإله فقط، بل كأفق للتصالح مع العالم، ومقاومة للهيمنة المادية والاستهلاك، وسبيلاً لاستعادة إنسانية الفرد وسط الخراب المعاصر.

بهذه الطريقة، تحوّل العشق الإلهي من تجربة نخبوية محدودة إلى لغة إنسانية عابرة للحدود، تتيح لكل شخص أن يخوض حواره الخاص مع المطلق، في حرية وجدانية، بعيدًا عن القيود والأعراف الصارمة
العشق الإلهي: ذروة التجربة الصوفية.

يبقى العشق الإلهي قلب التجربة الصوفية، وذروتها التي تصل بها الروح إلى أقصى درجات الفهم والاتحاد. في هذا المقام، لا يصبح الحب مجرد شعور عابر، بل يتحوّل إلى حالة وجودية شاملة، يذوب فيها العاشق في المعشوق، فتنتفي الحدود بينهما.

الحلاج عبّر عن هذا الفناء بوضوح:

«أنا من أهوى ومن أهوى أنا، نحن روحان حللنا بدنا».

هذه العبارة تكثّف تجربة الفناء في المحبوب، الذي ليس موتًا للذات، بل ولادة جديدة، وإدراك شامل لكل أبعاد الوجود، وحضور مطلق في كل لحظة.

ابن عربي يضيف البُعد الفلسفي للتجربة:

«الحب أصل الوجود، وبه ظهرت الحقائق، وبالحب تعود إلى الحقائق».

هنا يتحوّل العشق إلى حركة كونية تربط كل شيء بالمطلق. كل وردة، كل نجمة، كل قطرة مطر تصبح تجلًّا للحقيقة الإلهية، وكل فعل صغير أو لحظة عابرة انعكاسًا للعشق الأعظم.

وفي الشعر، تكثف الصوفية رمزية العشق لتصبح لغة مزدوجة: ظاهرها حب إنساني، وباطنها حب إلهي. جلال الدين الرومي يقول:

“كل حبٍّ غير حبِّك باطل، وكل شوقٍ سواك عابر.”

أما الرموز مثل الخمر والسُّكر، فهي ليست مجرد مجاز للمتعة المادية، بل للسُكر الروحي بفيض الحضرة، وللانفصال عن الذات المحدودة، وللوصال بالمطلق. رحلة العشق الإلهي تبدأ بالشوق، تمر بالوجد، وتنتهي بالفناء، الذي ليس موتًا، بل ولادة ثانية لإنسان محبّ، رحيم، متحرّر من الأنا.

أبو يزيد البسطامي يختصر هذا المعنى بقوله:

«غبت عني بنورك، فوجدتني بك».

العشق الإلهي إذًا هو مفتاح الحضور الروحي، بوابة لتجربة الكون كله في لحظة، لغة للوعي العميق، ونهاية الرحلة وبدايتها في الوقت نفسه
إرث حيّ ولغة مفتوحة.

ربما تكمن قوة الصوفية في كونها لم تُغلق نصّها، بل تركته مفتوحًا على التأويل، على الحوار، وعلى الرحلة المستمرة لكل من يبحث عن المعنى. هي ليست ماضٍ انتهى، بل مشروع يتجدّد بقدر ما نجدّد نحن علاقتنا بالوجود، وحبنا لكل ما يحيط بنا.

في عالم يزداد ماديّة وسرعة، تظل الصوفية تذكيرًا بأن المعرفة الحقيقية لا تُختزل في البيانات والمعلومات، وأن أعمق الحقائق تُكتشف في الصمت، وفي الإصغاء لما يسكن أرواحنا. العشق عند الصوفية ليس نزوة عاطفية، بل حركة وعي، انتقال من مركزية الذات إلى مركزية الوجود، ومن سؤال “ماذا أريد؟” إلى سؤال “ماذا يريد الحق مني؟”.

من خلال هذه الرحلة، نتعلّم أن الحب الحقيقي، العشق الإلهي، والاتحاد بالمطلق، ليست تجارب بعيدة أو صعبة المنال، بل ممكنة في كل لحظة نختار فيها أن نرى العالم كحضور حيّ، أن نلمس كل نفس وكل قلب وكل لحظة كنافذة على الحقيقة. وفي هذا، تظل الصوفية إرثًا حيًا، لغة روحية، ودعوة مفتوحة للعيش بكامل الحضور، في علاقة حب مع كل ما هو كائن، كأننا نرى في وجه العالم وجه الحبيب.