رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


ماهية الحب الإلهي

6-9-2025 | 12:24


د. محمد عبدالصبور

د. محمد عبدالصبور

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين وآله وصحبه الطيبين الطاهرين. وبعد:

اجتمعت الأمة الإسلامية على أن محبة الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم هي فرض، وأول ما يتحقق به السالك هو ألا يتصور محبة إلا بعد معرفة وإدراك.

فيعرف الله تعالى بالله لا بالعقل، أما العقل فهو من العجز بحيث لا يدل إلا على عاجز مثله. والعقل عاجز أن يعرف نفسه، وإلا فما وقع الخلاف البادئ بين المتحاورين والمتجادلين إلا من أجل نصرة هواهم على سواهم. وعجز العقل عن الإدراك في هذا الميدان يفسح مساحة لوجود ملكات أعلى منه وأسمى، مثل البصيرة، وهي التي ندرك بها ماهية الحب الإلهي.

إن المقياس الصالح لمعرفة الله تعالى عند المتصوفة هو الحب، فالله بالحب لا بالعقل عرفوه، ولو لم تكن هناك موهبة إلهية تمكِّن الموهوبين بقدرة المعرفة بالله عن طريق المحبة، ما جاز أن يكون معروفًا بغير هذه الوصلة الروحية أو تلك الصلة الكمالية منه في عباده المقرَّبين.

يعد هذا الطريق الأخير، طريق الحب، هو نفسه الطريق الذي يعمِّق من سلطان الدين في القلوب، ويعلي من شأنه بتفعيل الدين، ووهب القلوب مثل هذه الدرجة الواعية في نفوس المؤمنين، والمرء مع من أحب.

وبما أن الأحوال مواهب والمقامات مكاسب، كما قرر الهجويري، فإن المحبة في بدايتها تكون حالًا من الأحوال، ثم إذا ترسخت تصير مقامًا، ويتحقق مقام الحب باستيلاء نور اليقين وخلاصة الذكر على القلب، وتحقيق حق اليقين بزوال اعوجاج البقايا، وانتهاء اللوث الوجودي من بقايا صفات النفس، لذا قال الشبلي عن المحبة إنها:

(كأس لها وهج إذا استقر في الحواس، وسكن في النفوس تلاشت).

ولما كان الحب مرتبطًا بالمدركات، فإن كل حاسة من الحواس لها ميل، فالعين تلتذ بالإبصار، والأذن تلتذ بسماع الأصوات، وهكذا الأنف وجميع الحواس، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حبِّب إليَّ من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة».

بيد أن مقام الحب يرتبط بالرضا وبالمعرفة وبإدراك الحقائق العليا، إذ لا تتكشف هذه الحقائق إلا للمحب الصوفي، فإذا أحب العبد محبوبه الأوحد وهو الله، أحبه الله، وكان منه بمثابة شغاف القلب، فيكشف له عن أسرار التوحيد.

فالحب هنا، كما أنه قوة دافعة للترقي نحو عين اليقين، إلا أنه كلمة السر وعلامة الصوفي التي تُفتح لها أبواب المعية الإلهية، فيكتسي بأنوارها.

أكد الإمام الجنيد هذا المعنى بقوله: «المحبة نهاية المحبة عند هيجان الربوبية».

أي مبلغ المحبة مداها فيما لو هاجت الربوبية في السر بمدفع من شعور المعية الدائم وبلوغ الاتصال لرغبة النفس في دافع المحبة في الثواب، ثم يترقى الحال بصاحبه في هذا الدافع نفسه، فيرغب القلب في الحقيقة، ثم يترقى بمقتضى هذا الدافع أيضًا، فيرغب في السر في الحق، فإذا رغب السر في الحق كان ذلك علامة على نهاية المحبة عند هيجان الربوبية، فكأنما الربوبية تهيج برغبة السر في الحق، ورغبة السر في الحق فيض من فيوضات المحبة، معلَّق على اختصاص التوفيق.

عمد المتصوفة إلى ربط الحب بالطاعة، فيكون الحب موجودًا عند الطاعة مفقودًا عند المعصية. وقد تجسد هذا المعنى عند التستري في المحبة بأنها: «معانقة الطاعة ومباينة المخالفة»، فيشمل الحب في السلوك، فيكون المحب واعيًا بماذا يفعل، ويجيء مقاله معبرًا عن حاله فيها، ملتزمًا في ذلك بالأوامر والنواهي الشرعية.

إن المحبين ثلاثة أقسام: منهم من يريد من المحبوب، ومنهم من يريد المحبوب، ومنهم من يريد مراد المحبوب مع إرادته للمحبوب، وهذا أعلى أنواع الزهد، فإنه قد زهد في إرادة تخالف مراد محبوبه، وهذا إنما يحصل بكمال المتابعة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم}.

إن الله تعالى قد جعل متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم سببًا لمحبتهم له، فالطاعة للمحبوب عنوان محبته، كما قيل:

تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا محال في القياس شنيع

لو كان حبك صادقًا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع

إن الحب يقتضي إفراد الحبيب بالحب، وعدم التشريك بينه وبين غيره فيه، وهذا من واجبات المحبة الصادقة، فإن قوى الحب متى انصرفت إلى جهة لم يعد فيها متسع لغيرها، ومتى انقسمت قوى الحب بين عدة جهات ضعفت لا محالة، وهنا تتضمن قواعد الحب إفراده تعالى وامتثال أمره ونهيه محبةً له، ويتضمن اعتماد القلب عليه وحده، وثقته به، وسكونه إليه دون غيره.

قال تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه}. وهنا نجد أن تحت هذا اللفظ أن القلب ليس له إلا جهة واحدة، إذا مال بها إلى جهة لم يمل إلى غيرها، وليس للعبد قلبان يطيع الله ويتبع أمره ويتوكل عليه بأحدهما، والآخر لغيره، بل ليس إلا قلب واحد، فإن لم يُفرد بالتوكل والمحبة والتقوى ربه، وإلا انصرف ذلك إلى غيره، وهذه من علامات المحبة وشواهدها.

وهنا يستوقفنا سؤال من الأهمية بمكان، ألا وهو: هل يرتبط الحب باللذة؟

نقول: إن المحبة كلما قويت، قويت اللذة بإدراك المحبوب، وهذه اللذة إنما تتضاعف وتتزايد بحسب ما عند العبد من الإقبال على الله، وإخلاص العمل له، والرغبة في الدار الآخرة، والرضا به وعنه، والتفويض إليه، وفرح القلب وسروره بقربه، والأنس به، والشوق إلى لقائه سبحانه، كما في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك».

بيد أن هذه اللذة لا تزال في الدنيا في زيادة مع تنقيصها بالعدو الباطن من الشيطان والهوى والنفس والدنيا، فكيف إذا تجردت الروح، وفارقت دار الأحزان والآفات، واتصلت بالرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، ذلك الفضل من الله، وكفى بالله عليمًا. فإذا أفضى إلى دار النعيم، فهنالك من أنواع اللذة والبهجة والسرور ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

وهذه اللذة تابعة للمحبة في الكمال والنقصان.

اللهم وفقنا لحبك وحب نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.

وبالله التوفيق.